مع الصيف


بسم الله الرحمن الرحيم  

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، التقوى مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويوم الدين.

أيها المؤمنون، نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، إلاّ أنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.

نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلاً مع الصيف وما يحمل من عبر.

مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟! كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر، فأيٌّ شيءٍ, تعلمناه من الحر؟

روى الشيخان وغيرهما أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ـ أي: أخروها حتى يبرد الجوّ ـ، فإن شدة الحر من فيح جهنم))، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها)).

أيها الأحبة، إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، كان من دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم)) رواه النسائي بإسناد صحيح.

في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم))، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).

فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟

يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرٌّ الموقف، فأين المتقون؟!

" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ " [التحريم: 6].

اللهم إن أجسادنا لا تقوى على النار، فأجرنا منها يا رحيم.

رأى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد:

من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته *** أو الغبارُ يخافُ الشَيـنَ والشَعثـا

ويألف الظـــلَّ كي تبقى بشاشته *** فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جدثًا

في ظــــل مقفرةٍ, غبراءَ مظلمةٍ, *** يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـا

تجهـزي بجهــاز تبلغيـن بــه *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـا

أيها المؤمنون، لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟

يقول: ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا)) رواه النسائي بإسناد صحيح.

صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ, حرٌّه بعيدٍ, ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين، والمحروم من حُرم. يقول أبو الدرداء: (صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور).

أيها المؤمنون، إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.

عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة. رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.

خرج ابن عمر في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ,، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.

فهلم ـ عباد الله ـ نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: " كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ " [الحاقة: 24].

لما مرض معاذ بن جبل مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: أعوذ بالله من ليلةٍ, صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر.

هنيئًا لك ـ يا معاذ ـ أن يكون هذا أسفك على الدنيا، وهذا حزنك على فراقها.

أيها المؤمنون، لنغتنم صيفنا بالطاعات، ولنستزد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم مع المشقة، وعند الصباح يحمد القوم السُرى. حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعاف الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم.

في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض، " وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدٌّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُم وَقِيلَ اقعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ " [التوبة: 46].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: " فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقعَدِهِم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدٌّ حَرًّا لَو كَانُوا يَفقَهُونَ فَليَضحَكُوا قَلِيلاً وَليَبكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ " [التوبة: 81، 82].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفارًا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

أما بعد: يقف بنا واعظ الصيف في موعظته مع ذلك الخلق العجيب وتلك الآية العظيمةº الشمس. الشمس بحجمها الهائل وحرارتها ولهبها ودخانها تسجد بين يدي ربها مذعنة ذليلة، أخرج الإمام أحمد في المسند والبخاري في الصحيح عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال: ((يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها، ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله - تعالى -: وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍّ, لَهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ [يس: 38])).

لقد استجاب الكون كله لله، سماؤه وأرضه، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا مهللاً لله، جل الله، وتبارك الله، وتعالى الله، " ثُمَّ استَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ اِئتِيَا طَوعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ اِئتِيَا طَوعًا أَو كَرهًا قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ " [فصلت: 11]، " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبعُ وَالأَرضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيءٍ, إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلَكِن لا تَفقَهُونَ تَسبِيحَهُم " [الإسراء: 44]، " أَلَم تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَالطَّيرُ صَافَّاتٍ, كُلُّ قَد عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ " [النور: 41]، " وَلِلَّهِ يَسجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مِن دَابَّةٍ, وَالمَلائِكَةُ وَهُم لا يَستَكبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ "[النحل: 49، 50]، " أَلَم تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرضِ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ وَالنٌّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابٌّ وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ " [الحج: 18].

لقد تناغمت أجزاء الكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها، تدين بالطاعة لمن فطرها، تسبح ربها، فلماذا تلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف الكونَ كلَّه ويتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل - سبحانه -، يتجرأ على ربه، وهو ذرة صغيرة في هذا الملكوت الطائع؟! ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَ قدره.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply