قضية الحجاب .. حينما تختزل القضية الأكبر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تصريحات وزير الثقافة المصري فاروق حسني التي وصف فيها حجاب المرأة بأنه "عودة للوراء" و"تقليد للعرب" ليست هي القضية الأساسية التي ينبغي التركيز عليها.ليس معنى ذلك أننا نهون أمر الحجاب، حاشا لله فهذا حكم الله، وهو فريضة إسلامية ولمنكره حكم شرعي قرره الفقهاء وعلماء الشريعة.

ولكن تصريحات وزير الثقافة تختزل قضية أكبر هي قضية "العلمنة" و"التغريب". ولكي نستطيع تقدير هذه القضية فينبغي هنا إدراك أن قطاعًا غير قليل من المثقفين وقادة الرأي المصريين يؤيدون تصريحات الوزير ويرفضون الحجاب، كما أن قطاعًا لا يستهان به من الشارع المصري يستفزه الحجاب.

صحيح أن الغالب على نساء وبنات مصر هو التزام الحجاب (بأشكال متفاوتة)، وأن غالبية الشارع المصري ومعها القطاع الأكبر من المثقفين تؤيد الحجاب، الذي هو رمز للثقافة الإسلامية في مواجهة العلمانية، لكننا ينبغي ألا نغفل المرتكزات الثقافية والفكرية التي ينطلق منها أولئك المعارضون للحجاب، الذين عبر عنهم الوزير بصورة واضحة. وهكذا نجد أنفسنا أمام قضية (الحجاب) المنبثقة من قضية رئيسية (الخيار بين الإسلام والعلمانية).

 

رواد التنوير والثمار المرة

والخيار بين الإسلام والعلمانية كانت هي القضية التي شغلت مصر على امتداد القرن الماضي ابتدءًا من سلامة موسى وقاسم أمين وسعد زغلول وهدى شعراوي.. الخ.

فالمشروع الذي مثله قاسم أمين لم يكن مشروعًا إحيائيًا ينطلق من ثوابت الإسلام لينهض بالمرأة وينفض عنها غبار سنوات الركود والتخلف والاستعمار وحكم الغرب الصليبي، لتكون متعلمة مثقفة تنهض بمجتمعها على أساس علمي وتربي أبناءها عن وعي وثقافة.

لم يكن هذا هو منطلق قاسم أمين، وإنما كان منطلقه هو إخراج المرأة من ثقافتها الإسلامية ودفعها دفعًا إلى اعتناق ثقافة الغرب العلماني الصليبي. وهي نفس القضية التي انطلق منها الأزهري علي عبد الرازق الذي خاض قضيته على أساس أن الإسلام دين شعائر وعبادات فقط وليس له علاقة بالسياسة وإدارة شئون الدولة. وكان ذلك هزيمة واضحة أمام العلمانية الغربية التي تفصل تمامًا بين الدين والدولة.

فعلي عبد الرازق كان منهزما أمام الفكر الغربي، وبهره ما فعله الأوروبيون بالكنيسة حينما عزلوها عن المجتمع وشؤونه وألقوا بها إلى سلة المهملات، أي أن قضية الإسلام والعلمانية كانت حاضرة بعنف في فكر على عبد الرازق.

أما سعد زغلول فكانت الثقافة الغربية مسيطرة على تفكيره، وكان منهزما أمامها، ولذلك أيد ما فعلته هدى شعراوي حينما خلعت حجابها وألقت به جانبا، معتبرا ذلك بداية مهمة لتطور المرأة.

وسارت الأمور هكذا حتى وجدنا منهج هدى شعراوي وتلميذاتها سيزا نبراوي ودرية شفيق، وصولا إلى أمينة السعيد ونوال السعداوي. فقد انطلق هذا المشروع من أرضية أنه لا يمكن الجمع والتوفيق بين ايجابيات الثقافة الغربية وبين الالتزام بثوابت ديننا ومنها الحجاب.

وبعد قرن كامل من التغريب، والإلحاح على هذا التغريب، والإصرار على أن تكون منابر الإعلام والتوجيه الثقافي في يد العلمانيين وأنصار المشروع الغربي العلماني، كان لزاما علينا أن نجني هذه الثمار المرة.

 

جناية محمد علي

وإذا كنا قد تحدثنا عن العلمنة التي حدثت في المجتمع المصري خلال القرن العشرين على أيدي من تم تسميتهم بـ " رواد التنوير"، فإننا لا يجب أن نغفل أو نتغافل عن بذرة " العلمنة" الرئيسية التي وضعها محمد علي في تربة المجتمع المصري في بداية القرن التاسع عشر.

فقد كان هذا الحاكم وأبناؤه من بعده، منهزمين ثقافيا ونفسيا أمام الثقافة الغربية، وكانوا يتباهون بأنهم سيجعلون مصر قطعة من أوروبا.

لقد بدأ محمد على بالتعليم فترك التعليم الأزهري الديني في الأزهر على حاله بدون تطوير وأنشأ التعليم العلماني الموازي الذي ظل يتطور يوما بعد يوم حتى صار إلى ما هو عليه الآن، يرفض أن يكون منطلقا من المعين الإسلامي. بل في كثير من الأحيان يصر على أن يتصادم مع الإسلام.

 

الغلو العلماني

تصريحات وزير الثقافة المصري عن الحجاب ليست شاذة على الأرضية العلمانية، والدليل على ذلك أن كثيراً من الإعلاميين المتنفذين في وسائل الإعلام المصرية وبعض المثقفين يعتبرون الحجاب ظاهرة "وهابية"، وانتشاره "وباء" يهدد مستقبل النساء، وهم مع ما قاله الوزير قلباً وقالباً سواء كان هذا رأيه الشخصي أو رؤيته كمسئول في الدولة، فالحجاب (في رأيهم) نبتة زرعها الرئيس الراحل أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي. ويتمادى هؤلاء في غيهم قائلين إن فرائض الإسلام خمسة ليس من بينها الحجاب ولا النقاب وعندما فرض الحجاب كان ذلك علي نساء النبي والمؤمنات المعاصرات له فقط.

ويذهب الخيال والكذب ببعضهم حين يزعم أن الحجاب يشكل اعتداءً علي مستقبلهن، وأن هناك من يدفع أموالاً لكل من ترتدي الحجاب.

هناك إذن بعد قرنين من العلمنة والتغريب غلو علماني يجري في الثوابت والأصول والمعتقدات أي يضرب في القرآن، والنبوة والرسالة، ويتحدث عن تاريخية النصوص ويرى نسخ الشريعة، وما نحن بصدده الآن ليس العلمانية بشكلها الجزئي التي تتخوف من التطبيقات الإسلامية والدولة الإسلامية وإنما نحن بصدد ظاهرة غلو علماني تستفز الحس الإسلامي، وتجرح المعتقدات والثوابت الإسلامية. والمد الإسلامي وانعطاف الأمة وبحثها عن الحلول الإسلامية والبديل الإسلامي في التقدم والنهضة قلص مساحات الفكر العلماني.

ونحن نشهد الآن كثيرا من المثقفين العلمانيين يشكون من الإفلاس، انصرفت عنهم الجماهير، فأنت الآن لو عقدت "ندوة إسلامية" تجد جمهوراً لكن لو عقدت "ندوة علمانية" لا تجد جمهوراً رغم أن في يدهم السلطة والإمكانات والتمويل وأجهزة الإعلام. لكن الشارع ليس معهم وهذا من أسباب الاستفزاز عندهم فيشعرون بحالة من الإحباط تجعلهم في حالة من التوتر، وهذا هو الذي يصعد من لهجتهم في مواجهة الإسلام.

وهذا ينعكس حتى في الأحزاب، فالأحزاب العلمانية على حد تعبير أحد العلمانيين يقول إنها "مصابة بجفاف جماهيري" ونحن نرى أحزابا تعطي مقرات ورخصاً ودعماً وليس داخلها أحد، بينما التيار الإسلامي الذي يصلب ويضرب يقبل عليه الناس. وهذا دليل على أن الظاهرة الإسلامية لها رصيد في عقيدة الأمة وتفكيرها. فالناس بالفطرة مؤمنة، وتطمئن للحل والنموذج الإسلامي، فالناس جربت الحل الإسلامي والنظام الإسلامي لأكثر من ثلاثة عشر قرناً. ورأت منه كل خير، أما الحديث عن النمط الغربي فجديد على الأمة، وكل تجاربه بألوانه المختلفة لا تؤتي ثمرة طيبة.

الناس تدري أن الذي صنع لها الدولة والأمة والعقيدة والشريعة هو الإسلام، فضلا عن أنه هو السبيل إلى الدار الآخرة التي هي خير وأبقى.

إن العلمانية حل غربي لمشكلة غربية، فقد كانت هناك كهانة وكنيسة تحكم بالحق الإلهي، وتجعل الدنيا ديناً خالصاً وتحجر على العلم. وأمام هذا الغلو الديني جاء غلو علماني لا ديني رفض أن يكون للدين مدخل في عمران الحياة الإنسانية. فإذا كانت العلمانية حل غربي لمشكلة غربية فإن الإسلام لا يعرف هذه المشكلة، فهو ليس فيه كهانة، ولا حكم بالحق الإلهي، ولا عصمة لبشر، ولا عصمة لاجتهاد بشري ومن ثم فليس عندنا المشكلة التي تستدعي العلمانية، والعلمانيون عندنا يبذرون بذرة في أرض غير قابلة لنمو هذه البذرة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply