واشنطن تفقد سيطرتها على منظمة الدول الأمريكية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

للمرة الأولي في تاريخ منظمة الدول الأمريكية يتم اختيار سكرتير عام لهذا التجمع الإقليمي الهام هو"ميجل إينسلزا" وزير الداخلية السابق في شيلي على غير رغبة الولايات المتحدة، وهو ما يعكس بداية التراجع في نفوذ الولايات المتحدة وسيطرتها على هذه المنظمة، التي تضطلع واشنطن بأكثر من 6% من ميزانيتها، وتصاعد رفض دول أمريكا اللاتينية للهيمنة الأمريكية على المنظمة، وسعيها لتأكيد مكانتها كأقطاب إقليمية لها ثقلها واستقلاليتها.

ومنظمة الدول الأمريكية التي أنشئت عام 1948م، وتضم كافة الدول المستقلة في نصف الكرة الغربي - باستثناء كوبا -، لعبت منذ تأسيسها وحتى وقت قريب دوراً حاسماً في تنفيذ السياسة الأمريكية القائمة على "مبدأ مونرو" الذي يقضي باستبعاد أي تدخل دولي في شئون المنطقة، وفي حقيقة الأمر فقد تطور هذا المبدأ فيما بعد، وأصبح يعني بالأساس مساندة النظم الموالية لواشنطن، والتي تتبنى النموذج الديمقراطي، وتعتمد آليات اقتصاد السوق، وعزل النظم التي لا تلتزم بالنهج الأمريكي، وهو ما ظهر بوضوح في السياسة الأمريكية المناهضة لنظام فيدل كاسترو منذ الستينات، والتدخلات المتتالية في شيلي والأرجنتين والبرازيل خلال السبعينات والثمانينات للحيلولة دون سيطرة أنظمة مناهضة للولايات المتحدة، وفي السعي الأمريكي الدؤوب للإطاحة بنظام هوجو شافيز في فنزويلا، ومن ذلك ما قامت به عام 2002 من دعم لمحاولة الانقلاب الفاشلة ضده، والضغط على العديد من الدول اللاتينية لعزله إقليمياً.

سيطرة واشنطن على منظمة الدول الأمريكي بدأت تتداعى في أعقاب دعمها للانقلاب المضاد لشافيز، وهو ما ظهر جلياً عندما رفضت الجمعية العامة لدول المنظمة في العام 2003 قبول المرشح الأمريكي في اللجنة الأمريكية المشتركة لحقوق الإنسان "رفائيل مارتينز"، وتم ترك المقعد الأمريكي شاغراً للمرة الأولى في تاريخ المنظمة، وقد كانت خسائر واشنطن في اللجنة الأمريكية المشتركة لحقوق الإنسان، وفي جهودها للتخلص من نظام شافيز هي البداية لفقدانها السيطرة على منظمة الدول الأمريكية.

وقد شكلت معركة انتخاب السكرتير العام للمنظمة مؤشراً على التصاعد الكبير في المعارضة التي تواجهها واشنطن من جانب دول أمريكا اللاتينية، وبداية التغير في ميزان القوّة باتجاه تدهور النفوذ الأمريكي، وتصاعد الدور الإقليمي لدول مثل البرازيل، التي أصبحت تحتل مركزاً اقتصادياً هاماً في أمريكا الجنوبية، وفنزويلا التي أصبحت إحدى أبرز الدول في تصدير الطاقة، وتحاول بناء نظام اقتصادي قوى وغير معتمد على الولايات المتحدة، والعمل على تقليص النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي.

خلال الصيف الماضي عاودت واشنطن محاولاتها للهيمنة على دول المنطقة، خاصة مع انتخاب المرشح المدعوم أمريكياً "أنجيل رودريجيز" الرئيس السابق لكوستاريكا، كسكرتير عام لمنظمة الدول الأمريكية، بعدما أعلن وزير داخلية شيلي السابق "ميجل اينسلزا" سحب ترشيحه، ولكن سرعان ما اندلعت المواجهات في أكتوبر 2004 عندما استقال رودريجيز من منصبه على إثر توجيه عدة تهم له بالفساد خلال فترة رئاسته لكوستاريكا، ووضعه على قوائم الممنوعين من السفر.

ومع تولي الدبلوماسي الأمريكي "لويجي آر.إينودي" منصب السكرتير العام بصفة مؤقتة تصاعد الصراع على قيادة المنظمة، حيث تقدم ثلاثة مرشحون هم وزير خارجية المكسيك "إرنستو ديربيز"، "وميجل إينسلزا" وزير الداخلية السابق في شيلي، والرئيس السابق للسلفادور "فرانسيسكو فلوريس"، وبالطبع فقد ساندت واشنطن وبقوة مرشح السلفادور، حيث كان الزعيم الوحيد في أمريكا اللاتينية الذي دافع عن التدخل الأمريكي لدعم انقلاب عام 2002 ضد شافيز، فضلاً عن تأييده لمشاركة السلفادور في التحالف الأمريكي في العراق، وحاولت واشنطن من خلال دعمها الواضح لـ "فلوريس" توصيل رسالة إلى دول المنظمة مفادها أن نفوذها في المنطقة مازال قوياً، وأنها دائماً ما تكافئ أصدقاءها المخلصين.

وقد قامت "كوندوليزا رايس" وزير الخارجية الأمريكية بجولة في أمريكا اللاتينية في 25 أبريل الماضي ولمدة خمسة أيام، شملت كلاً من البرازيل وكولومبيا وشيلي والسلفادور، واستهدفت هذه الجولة الحفاظ على النفوذ الأمريكي في أمريكا الجنوبية، وكان في مقدمة جدول أعمال وزيرة الخارجية الأمريكية السعي لإقناع جيران فنزويلا بعزل نظام شافيز، الذي أقدم منذ نحو أسبوع في إطار التصعيد المتبادل بين الجانبين على إلغاء اتفاقية التعاون العسكري المبرمة مع واشنطن.

وقد استهدفت زيارة رايس العمل أيضاً على إنعاش منطقة التجارة الحرة للأمريكتين على نحو يضمن لواشنطن الهيمنة الاقتصادية على دول أمريكا اللاتينية، كما سعت رايس أيضاً خلال جولتها إلى إقناع زعماء دول أمريكا اللاتينية بأن الولايات المتحدة لا تسعى لفرض سيطرتها على دول المنطقة، ولكنها تحاول الوصول إلى أكبر قدر من الإجماع حول القضايا محل الاهتمام المشترك.

وفي حين حظيت أجندة "رايس" بالتأييد الواضح من جانب كل من كولومبيا والسلفادور، فإنها قوبلت بفتور واضح من جانب كل من البرازيل وشيلي، فرغم حرص وزيرة الخارجية الأمريكي على الإشادة بمكانة البرازيل كقوة إقليمية ودولية صاعدة، فإن وزير الخارجية البرازيلي "سلسو أموريم" أعلن بصراحة ضرورة احترام السيادة الفنزويلية، ورفضه سياسة عزل نظام شافيز، الموقف البرازيلي شجع شيلي على تبني موقف مماثل، وفي مؤتمر مشترك مع الرئيس الشيلى "ريكاردو لاجوس" حرصت رايس على تأكيد دعمها لحكومة شيلي، وعبرت عن المخاوف الأمريكية من سياسات الحكومة الفنزويلية على المستويين الداخلي والإقليمي، غير أن الرئيس "لاجوس" رداً على تصريحات رايس بأن شافيز انتخب بشكل شرعي، وأن على المعارضة المضادة له أن تتبني نهجاً ديمقراطيا للوصول إلى السلطة.

ومن جانب آخر ومع انسحاب "أرنستو ديربيز" من انتخابات السكرتير العام لمنظمة الدول الأمريكية قبل موعد الانتخابات المقررة في 2 مايو بثلاثة أيام أصبحت المعركة منحصرة بين "فلوريس" الذي يحظى بدعم أمريكي واسع، و"إينسلزا " الذي أعلنت 31 دولة تأييده، وتحفظت على ترشيحه ثلاث دول فقط عليه هي بوليفيا وبيرو والمكسيك.

ولم يكن بوسع والولايات المتحدة إلا أن تتماشى مع الإجماع اللاتيني على منصب السكرتير العام للمنظمة، والذي عكس رغبة واضحة من دول أمريكا اللاتينية للتخلص من الهيمنة الأمريكية، وتأكيد مكانتها كأقطاب إقليمية لها ثقلها واستقلاليتها.

ومع خسارتها للصراع الدائر على منصب السكرتير العام بدأت واشنطن تعيد النظر في علاقتها مع منظمة الدول الأمريكية، التي لم تعد أداة طيعة لتنفيذ سياساتها في المنطقة، خاصة وأن الولايات المتحدة تتحمل نحو 6% من ميزانية المنظمة، بعد عجز الكثير من دولها عن دفع حصصها، ومن ثم فإن بمقدورها من خلال تقليص الدعم المادي أن تتسبب في تعطيل الكثير من آليات عمل المنظمة، طالما أنها لا تخدم أهدافها ومصالحها.

لقد أصبحت منظمة الدول الأمريكية على مفترق طرق مع اتساع الفجوة بين الولايات المتحدة التي تصر على الاستمرار في لعب دور القائد المهيمن، بينما تلح معظم دول المنظمة على شراكة متكافئة، ولكن ذلك سيفرض عليها بالطبع أن تتحمل تبعات هذه الشراكة، وتساهم بنصيب متكافئ في تمويل المنظمة، ومن جانب آخر فإن على الولايات المتحدة إذا أرادت الاستمرار في الشراكة مع دول أمريكا اللاتينية تقديم بعض التنازلات، والتوصل إلى حلول وسط تمكنها من تحقيق أكبر قدر من سياستها المفضلة، دون تجاهل مصالح ورغبات شركائها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply