حرية الفكر في شراك الاستبداد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ليس هناك عاقل يسمح لنفسه أن يتهم وزارة الصحة أو الداخلية أنها متخلفة ومتحجرة لمعاقبتها لمن يستورد بضاعة بغير المواصفات المطلوبة، كأن يكون تاريخ صلاحيتها منتهية، فما بالك إذا كانت فاسدة؟

نعم هذا إجراء سليم للحفاظ على صحة المواطنين وسلامتهم الجسمية وهذا أمر ضروري جداً، وكذلك حماية الضرورات الخمس مهمة جداً، تلك التي لا حياة للإنسان بدونها ألا وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فهي التي تقف حياة الإنسان عليها، لذا جاء الإسلام بما يضمن الحفاظ عليها.

وليس المقام لبيان الأدلة التي جاء الإسلام بها، وإنما يهمنا هنا هو ضرورة الحفاظ على الدين والعقل، فكل منهما مرتبط بالآخر في موضوعنا، لاسيما وأن الدعوة إلى إعمال العقل وعدم الحجر عليه قد ظهرت من جديدº ليكون عنواناً لأمر خطير يتضمنه ألا وهو المروق من الدين بشعارات براقة، وكلمات حق يُرَادُ بها باطل.

فهل يا ترى أصحاب هذه الدعوة يتطلعون إلى حرية الفكر أم حرية الكفر؟

 

حرية التفكير في الإسلام:

حرية الفكر هي إعمال العقل في بحث المقدمات، وتمحيص واستخلاص النتائج بعد النظر والاستدلال، وفهم القواعد والنصوص، وهذا المفهوم للحرية الفكرية دعا إليه الإسلام، بل أجزم يقيناً بأنه ليس هناك من يدعو إليها كما يدعو الإسلام، حتى جعلها فريضة يجب على الإنسان أداؤها، ويأثم لتركها، فقد دعا الإسلام إلى النظر في الكون فقال تعالى: (( قُل إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ, أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ))، وقال تعالى: (( قُل انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ))، وقال تعالى: (( أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَو آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصٌّدُورِ)).

كما رفض الإسلام الظن وعدم التيقن في المعرفة، وحمل على الذين يتبعون الظن والأوهام حملة عشواء فقال تعالى: (( وَمَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ, إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِن الحَقِّ شَيئاً ))، كما حمل على الذين يقلدون آباءهم ورؤساءهم التقليد الأعمى بل وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً فقال - تعالى- مبيناً حال الكفار الذين يقولون: (( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلٌّونَا السَّبِيلَ ))، وقال - تعالى- في حالهم أيضاً: (( إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ, وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقتَدُونَ ))، وقال - تعالى-: (( وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً )). ثم دعا الإسلام إلى الاستدلال وإثبات الحقائق بالبراهين فقال - تعالى-: (( قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ )).

 

الحرية المظلومة:

لكن حرية التفكير كثيراً ما تستخدم لخداع الأجيال وتدميرها، وصرفها عن أصولها، وإبعادها عن مسارها الصحيح، وتشكيك العوام من الناس في مواريثها.

نعم يريد أصحاب الحرية المزورة تشكيل أفكار مخصوصةº حتى تتبدد رسالة الأمة، وتتلاشى وتتفكك مع الأيام، ومن هنا كانت أحياء أفكار وشبهات ماتت من جديد بادعاء أنها تدخل في نطاق حرية التفكير، إن تباين الأفكار واختلافها ضرورة فكرية، ولن يخلو تاريخ الإنسانية منها في أي فترة من فتراتها، ولكن أن تصل الفوضى الفكرية بادعاء الحرية الفكرية إلى حد النيل من العقائد والمقدسات فهذا أمر مرفوض غاية الرفض، ومن المؤسف جداً أن نرى بعض المفكرين المعاصرين من يدافع عن تلك السخافات حتى أصبحت حرية الفكر عندهم تصل إلى ذروتها وقمتها عندما ينال الكاتب من الدين والثوابت، وهو ما حصل بالفعل مع سخافات سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، وغيرهم من صعاليك الأدب كما قيل عنهم، كما شد انتباهي الوقفة الصامدة من أولئك مع رواية حيدر حيدر التي لا أتعجب أن يُمنَحَ جائزة نوبل للأدب يوماً من الأيام على أسخف وأسقط ما قرأت في حياتي، ولولا ضرورة قراءتي لها - حتى لا يدعى أحد أني أحكم عليها من غير قراءتها - لما ضيعت وقتي الثمين مع رواية نجَّسَت الورقة والقلم.

 

ومن هنا خرجوا!!

بعد أن وضعوا الحبال في عنق لينين في عقر داره، وخروا به أرضاً ليعلن الروس بذلك نهاية عهد من الحكم الشيوعي، وبداية عهد الثمار المجنية من ذلك الحكم، والتي جعلت من روسيا مسرحاً لأكبر العصابات والمافيات ومؤسسات غسيل الأموال في العالم، هذا ما حصل في مهد الشيوعية.

أما الشيوعيون والماركسيون في البلاد الإسلامية فقد باتوا كذيل الأفعى عندما تقطع رأسها، الأمر الذي أدى بهم أن يسلكوا إحدى الاتجاهات التالية:-

- طائفة بقيت صامدة وثابتة تحمل الأفكار الشيوعية.

- طائفة تخلت عن كل ما كانت تعتقده من أفكار، وجلست في بيتها تاركة كل شيء.

- طائفة تخلت عن كل مبادئ الشيوعية لتنقلب رأساً على عقب لتحمل الأفكار الرأسمالية المتعلقة بتبني مبادئ الديمقراطية بعد أن كانت تعتبرها وسيلة من وسائل البرجوازية للتسلط على العمال والفلاحين وصغار الكسبة.

- طائفة تخلت عن أفكارها، وتركتها على رفوف متاحف التاريخ ليتجهوا إلى عالم الدين والغيبيات، والخوض فيها، ووضع الدراسات حولها بعد أن حاربتها فترة من الزمن مدعية أنها أفيون الشعوب، وهذه الطائفة الأخيرة كانت ولا تزال الأخطر على تغيير عقائد الناس لأنهم دخلوا غمار الشريعة ليطعنوا في الدين من خلال النيل من مصادره الرئيسية بادعاء إعادة النظر في النصوص، ومعاودة الاجتهاد فيها من جديد!!

وتكمن خطورة هذه الطائفة في عدم دراسة هؤلاء الناس للشريعة والإسلام الدراسة المتفحصة والموضوعية، بل أعادوا ومن جديد ما طرحه المستشرقون من دراسات تشكك في الإسلام وحضارته وتاريخه، بإشاعة الشبهات وفق مبدأ الانتقائية.

 

ثوابت لكل أمة:

يطلب مدعي حرية التفكير من غير قيود أن يسير المسلمون على نهج أساتذتهم الجدد من الليبراليين الأوروبيين الذين لا تقف أمام ما يطرحونه عوائق، وأتعجب مما يقولون!!

فمن قال لهم بأن ذلك صحيح؟! أنسي هؤلاء ما هو نصوص في قوانين الدول الأوربية كدوائر حمراء لا يجوز للكتَّاب تجاوزها، كمنع المساس بذات المسيح، والذات الملكية كما في القانون الإنكليزي، وعدم الخوض في مناقشة إثبات الهلوكوست ( المحارق اليهودية أبان الحرب العالمية الثانية على يد هتلر ) كما في معظم قوانين الدول الأوروبية، بادعاء أن ذلك جرح لمشاعر السامية!! وما محاكمة المفكّر الفرنسي روحية غارودي على كتابه: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، إلا خير دليل على ذلك.

بل زاد بعض العلمانيين عندما سمعوا بهذه الحقائق أن يتجاوزوا بحرياتهم ما وصل إليه أقرانهم في أوروبا وذلك برفع القيود عنهاº حتى لا يناطحهم في مجال حرية التفكير أحد على هذه المعمورة!! فكما أن لأوروبا ثوابت لا يجوز المساس بها، فكذلك المسلمون عندهم ثوابت ومقدسات لا يجوز الاعتداء عليها، فإذا انضبطت الحرية في إيقاعها الإنساني وإطارها السليم، وانتشرت في أصولها الطبيعيةº تحققت جدواها، وآتت ثمارها وأكلها.

ويُلاحَظ أن من يدعى حرية التفكير في عالمنا الإسلامي إنما يرغب بممارستها في جانب واحد ألا وهو مهاجمة شعائر الدين، والتطاول على القرآن، والمساس بمكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

إنها جرأة باسم الحرية الفكرية لا نراها إلا في الساحة الإسلامية، وبدعوى حرية التفكير تمتهن الثوابت الدينية، ويُلفَتُ للنظر احترام هؤلاء المفكرين والكتاب للأديان الأخرى - والإسلام يدعو إلى احترامها - التي لا تعير العقل اهتماماً!! حيث تجعل معبودها بقرة أو صنماً أو شيطاناً، أو حقيقة رياضية عجيبة مفادها: ( 1+1+1= 1 ).

 

هذا كفر وليس فكر:

كثير منهم أثاروا قضية الردة وعقوبتها في الإسلام على أنها عائق وحجرة عثرة لحرية التفكير، وهذا إدعاء باطل بدليل أن الإسلام لم يجبر أحداً على اعتناق الإسلام بل ترك لهم حرية الاختيار، يختارون ما يعتقدون صوابه قال - تعالى -: (( لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرٌّشدُ مِن الغَيِّ )) فإذا ما اختاروا الإسلام بمحض إرادتهم وقناعتهم، ومن غير إجبارº ثم يرفعون دعوة الخروج منه فإنما هذا سخرية ولعب واستهتار بالدين لا يقبله عاقل، والاستهزاء بالدين والسخرية منهم كفر لا محالة يجب معاقبة فاعله، وليس هذا مانع لحرية الفكر بحال من الأحوال، فإدعاؤهم باطل.

كما أن إثارة إثبات النصوص، ورفض السنة النبوية بادعاء أن العقل لا يقبله نوع من الطعن في الدين، حيث يجردون ما يعلم من الدين بالضرورة، من حكمها الواجب، بادعاء أن القرآن لم يأت به، والسنة ليست كلها صحيحة، والصواب ما يراه عقلهم بأنه صحيح!! وهذا الادعاء أيضاً باطلº لأن السنة ونصوصها لها المختصون الذين درسوها ونقَّحوها، وبينوا صحيحها من سقيمها متناً وسنداً، فكيف يحق لمن لا يعرف أركان الإسلام - فضلاً عن تطبيقها - أن يضع مصادر تشريعه؟!

 

ماذا يريدون؟

الذي حصل وشاهدناه أن أكثر من يتجاوز الحدود المسموح له بتخطيها، والذي يتطاول المقدسات والثوابت بادعاء حرية التفكيرº إنما هو رجل تافه أراد الشهرة، أو امرأة ساقطة رغبت في تلميع اسمها على صفحات الجرائد، ثم هل وجد هؤلاء مبدأ في العالم منحهم حرية التفكير كما منحهم الإسلام؟ الذي يبدو لي - والله أعلم - أن من أهم مقاصد هؤلاء من وراء هذه الدراسات هو إلغاء مسألة الردة بادعاء أنها تناقض حرية التفكير، كما يسعون إلى إلغاء مسألة التكفير في الفكر الإسلامي باعتباره حجرة عثرة أمام الكثير من المسائل التي لا يجوز تخطي الخطوط الحمراء فيها، كما ويرغبون في معاودة النظر في النصوص واستدلالاتها على المسائل الشرعيةº ليضعفوها أو يبطلوها بدعوى عدم وجودها أو ثبوتها.

 

لا يحق للمسلم إجبار غيره باعتناق الإسلام:

فكما مر (( لا إكراه في الدين )) ولكن وفي المقابل لا يحق للغير أن يطال ثوابت الإسلام، ويحاول إلغاء مصطلحاتها التي لا يؤمن بها من يعتقد بالإسلام أصلاً، فلماذا الحرج منها؟!!

بعد كل هذا يتضح لمن أمعن النظر أن هؤلاء لا يرغبون بحرية الفكر في إطار الإسلام الرحبº إنما يقصدون حرية الكفر من وراء الكواليس!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply