استشهاد الرنتيسي.. واستهداف الأمة !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

فإننا نحتسب عند الله - تعالى - أخانا الدكتور "عبد العزيز الرنتيسي" وصحبه، الذين استشهدوا بصواريخ الغدر الصهيوني، ليلحقوا بمن سبقهم من إخوانهم، وتزدان بهم قوافل الشهداء تحت عرش الرحمن - جل وعلا -، ونسأل الله أن يكونوا ممن صدقوا عهدهم مع ربهم، ووفوا بيعتهم، وأدوا رسالتهم، وأقاموا بجهادهم النبيل وشهادتهم الدامية، الحجة على القاعدين والعاجزين: "مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً" (الأحزاب: 23)، وإننا لنتصبر على فجيعتنا فيه وفي إخوانه الأبرار، وألمنا لفراقهم بعد أقل من شهر من استشهاد الشيخ "أحمد ياسين"، نتصبر بما ندركه من عظيم أجر الشهداء، ونحسبهم عند الله كذلك وهو حسيبهم، وأن ما هم فيه الآن من نعيم الجنات ورحمات الله ورفيع الدرجات- حيث لا صخب ولا نصب- خير مما غادروه في الدنياº حيث غَدر من يجهر بالعداوة، وغَيظ من يدعي الصداقة، ومهانة من يطلب الحياة بذلة، وإن ما أسعدهم في الدنيا من جهاد العدو وصحبة الأولياء وعزة المجاهدين، قد آن لهم أن ينالوا جائزتهم من رب كريم، يغفر الذنب ويجزل العطاء.

 

وإننا لعلى يقين أن دماءهم لن تذهب هدرًا، ولن تضيع سُدًى، وأن الراية التي طالما أعلوها، وحافظوا عليها قد تلقفها خلف عدول، سيبذلون في سبيلها الغالي والثمين، ويهتفون من أعماق نفوسهم وبكل ضمائرهم أن الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

 

إنه لسبيل واضح: صبر وجهاد، فإما نصر أو استشهاد، وهل من بديل أمام مسلم يتلو قوله - تعالى -: "وَلا تَهِنُوا فِي ابتِغَاءِ القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً" (النساء: 104)، وقوله - تعالى -: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ" (آل عمران: 139)، وقوله - تعالى -: "وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ" (المنافقون: 8)، ويتردد في سمعه قول المرأة المجاهدة تبصِّر ولدها: "والله لضربة بسيف في عزٍّ, خير من ضربةٍ, بسوطٍ, في ذل".

 

وإن من عظمة هذه الدعوة المباركة أن يتقدم قادتها الصفوف صدقًا مع ربهم، وقدوةً لإخوانهم، وأن يردوا كرامة الإيمان، وعزة الإسلام بالدم الطهور والنفوس الزكية، وإن لنا في الإمام الشهيد "حسن البنَّا" والشيخ "أحمد ياسين" لأسوة.

 

فلسنَا عَلَى الأعقابِ تَدمِي كُلومُنَا *** ولكن عَلى أقَدامِنَا تَقطرُ الدِّما

 

فلا نامت أعين الجبناء، ولا قرَّت نفوس القاعدين، وإنَّ لكل نفس أجلاً لا يُؤخر، فطوبى لمن أحسن صناعة الموت العزيز: "وَلِيَعلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُم تَعَالَوا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادفَعُوا قَالُوا لَو نَعلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعنَاكُم هُم لِلكُفرِ يَومَئِذٍ, أَقرَبُ مِنهُم لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفوَاهِهِم مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم وَاللَّهُ أَعلَمُ بِمَا يَكتُمُونَ* الَّذِينَ قَالُوا لإِخوَانِهِم وَقَعَدُوا لَو أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُل فَادرَأُوا عَن أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ* وَلا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتاً بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ" (آل عمران: 167- 169).

 

سلاح الاستشهاد:

إن الأمر أصبح جليًّا، وقد كان كذلك منذ بدئهº ولكن لا عذر اليوم لجاهل.. إنها الحرب على الإسلام نفسه، وليس على أفراد- وإن كانوا قادة عظامًا فقط- ولا على جماعة- وإن كانت مجاهدة مصابرة فحسب- وما عاد أعداؤنا يخفون ذلك، بعدما ظلوا عقودًا يستنزون خلف أكاذيبهم المضللة، وقد أعلنوا ذلك مضطرين، بعدما وجدوا الإسلام يقود الجهاد ضدهم، وكانوا يبذلون كل جهودهم لإبعاده عن ساحة الصراع.

 

واليوم باستهداف الشيخ "ياسين" والدكتور "الرنتيسي" وإخوانهما يريد الأعداء أن يبلغوا رسالة واضحة.. إن الخندق الأخير الذي يتخندق فيه الوطن- وهو سلاح الشهادة- قد أصبح مستهدفًا، ليصلوا من وراء ذلك إلى إشاعة اليأس والإحباط في نفوس المسلمين، يريدون أن يقولوا: حتى الشهادة لن تنفعكم، ولن توقفناº فماذا أنتم فاعلون؟ وهم مخطئون في ذلك أشد الخطأ، فإن مليارًا ونصف المليار من المسلمين هم مشاريع شهادة في سبيل الله، وإن استمرار العدوان على ذلك النحو لن يحقق البأس من جدوى الشهادةº بل سيحقق اليأس من جدوى الاستسلام المهين، والقعود المذل، والتسوية الموهومةº بل إنه حتى التسوية والسلام الذي طالما خدعوا به السذج والغافلين ما عادوا يقدمونه ولا يتحدثون عنه.

 

ألم يعلن أركان النظام الصهيوني مرارًا أنهم لا يجدون شريكًا يتفاوضون معه من أجل السلام؟! ألم يطرح سفاحهم "شارون" خطته من أجل الحل المنفرد للصراع الذي يفرضه علينا فرضا؟! ولا رحم الله خريطة الطريق البائسة، ولا اتفاقات مدريد وأوسلو وواي ريفر.. فلم تعد تجد عندهم باكيًا، وإن طال أمامها نحيب المخدوعين عندنا، الذين لا يريدون دفع ضريبة الحرية ولا ثمن العزة، ويتحدثون في استهزاء مهين عن العودة إلى مائدة المفاوضات، وأهمية السلام كخيار إستراتيجي لا بديل عنه!

 

عن أي سلام يتحدثون؟!

عن أي سلام يتحدث حكامنا؟! وأية مفاوضات يريدون استئنافها؟! بل بعثها من القبور؟! هذا هو الهزل في موطن الجد، والعبث في مواجهة الخطر الجسيم، وهو عبث بمستقبلنا وحاضرنا، وبأرضنا ومقدساتنا، وبكرامتنا وقيمناº بل بديننا وإسلامناº فهل يدرك حكامنا أن أوضاعهم في خطر وكراسيهم في مهب الريح؟ وأن شعوبهم في وادٍ, وهم في آخر؟ هل يدركون حجم الغضب في الشارع العربي والإسلامي؟ وأن حديثهم عن السلام المزعوم مع شارون ويداه مملوءتان بدمائنا، قد بات حديثًا مستفزًا أكثر من أي وقت مضىº بل إنهم أصبحوا بحديثهم عن حتمية التفاوض في وادٍ, وشارون نفسه وعصابته والإدارة الأمريكية الداعمة له في وادٍ, آخر.

 

إننا ننصح في صدق وإخلاص حكام الأمة من المضي في ذلك الطريق، ومن الاستمرار في إغماض العين وإغلاق السمع عن حال أمتنا، ونداء جماهيرها وغضب أبنائها، إن أوضاعنا شديدة التفجر والخطر، وإن الهوة بيننا وبين حكامنا تزداد اتساعًا، وذلك نذير شؤم في هذا الوقت العصيب، ولا سبيل أمامهم إلا إرضاء ربهم والأخذ بيد شعوبهمº إذ لابد من مصالحة تاريخية يجتمع فيها شمل الأمة وحكامها، وإن حدث ذلك فسيسارع العدو المتمنع الآن بطلب التفاهم معهم.

 

إن عدونا لا يفهم غير لغة القوة، وعلى القوة وحدها قامت الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى القوة وحدها قام الكيان الصهيوني، والقوة وحدها هي التي أجبرت الصهاينة على الانسحاب الذليل من جنوب لبنان، والتفكير الجدي في الانسحاب من غزة، والقوة وحدها هي التي عرَّت العدوان الأمريكي في العراق، وفضحت تهافت حجته وضعف موقفه، وقد بدأ أنصاره يعيدون التفكير في مواقفهم، وبدأ تحالفهم الأثيم يتفكك، وإن قرار إسبانيا بسحب قواتها من العراق باكورة ذلك إن شاء الله.

 

وبسبب جنون العظمة وغطرسة القوة تقف أمريكا والصهاينة منَّا هذا الموقف، وإننا لننبه بقوة إلى خطورة الضمانات الأمريكية الممنوحة لشارون في زيارته الأخيرة لواشنطن، وهي تعبر بوضوح عن الاستهانة الأمريكية بمشاعر المسلمين، فمن أجل ضمان بوش أصوات اليهود في الانتخابات المقبلةº بل للتعبير عن حقيقة عقيدته الصليبية التي أعلنها سافرة يوم قرر غزو العراق، منح بوش الحق لشارون في عدم الانسحاب إلى حدود 1967م، وزعم قانونية المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية، وإلغاء حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وأرضهم، هكذا في صلافة وتبجح تقرر مصائرنا دون علمنا.

 

ويُقضَى الأمرُ حين تغيبُ تيمٌ *** ولا يستأمرونَ وهم شهودُ

 

وهكذا تنظر أمريكا إلى ما تسميه بالشرعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية، فتقضي بما يخالفها ويناقضها، وهي قرارات سبق أن أيدتها أمريكا نفسها ووافقت عليها، وليس من العجيب أن السيد "كيري"- المرشح الجديد للرئاسة الأمريكية- قد رحب بضمانات بوش لشارون، وتعهد- في حال فوزه بالرئاسة- أن يستمر في دعم الكيان الصهيوني.

 

ثم برح الخفاء عن خطة شارون للانسحاب من غزة في ظل الغطرسة الصهيونية والدعم الأمريكي، فإذا الأمر كله أمر إعادة توزيع للقوات الصهيونية، لتترك الشوارع والأحياء السكنية، وترتكز على الحدود، وتظل معها أمور السيادة السياسية والعسكريةº بل إمكانية الرجوع إلى احتلال الأحياء السكنية، وفعل ما شاءت في أي وقت تريد!

تلك هي النهاية غير السعيدة لمشاريع السلام مع الصهاينة والأمريكان.. فهل نفيق؟!

 

إن أمريكا هي العدو الأول، ولولاها ما كان لدولة الصهاينة بقاء، ولولا دعمها ما استباح الصهاينة دماءنا، وليس آخرها دماء الشهيد عبد العزيز الرنتيسي وإخوانه الذين أمر شارون بقتلهم فور عودته من واشنطن، التي أعلنت أن من حق الصهاينة الدفاع عن أنفسهم، وأن حركة حماس وأخواتها من فصائل الجهاد الفلسطيني حركات إرهابية.

 

الإدارة الأمريكية لا تقل عداوةً عن الكيان الصهيوني، وجرائمها تلك لا تقل عن جرائمها في العراقº حيث تحاصر قواته الهائلة بلدة صغيرة تدعى (الفلوجة)، وتهدر دماء من فيها من أهلناº لأن منهم من تحرك وقاوم الاحتلال الأجنبي والمغتصب الأمريكي!

 

نسأل الله لأهلنا في العراق الثبات والوحدة، ولزوم الجهاد حتى يتحقق النصر لهم- إن شاء الله- ونسأل الله لهم الصمود في وجه التدمير الأمريكي، وقصف المساجد، وقتل المصلين، وحصار المدن، وإرهاب الدولة العظمى، وما أعظم الشبه بين الفعل الصهيوني في فلسطين والصنيع الأمريكي في العراق.. وإن مما يؤكد اليقين في عظمة الإسلام أن المؤمنين به هم أبرز الذين يتصدون لقوى الاحتلال والغزو، وإن الدعاة إليه هم المدافعون الأول عن حرية الأوطان واستقلالها وعزتهاº سواء في فلسطين أو العراق أو أفغانستان وكشمير وغيرها من بلدان الإسلام الممتحنة.

 

واجب العلماء والشعوب:

وإننا في هذا الظرف العصيب- وبين يدي شهيد جديد من قيادات العمل الإسلامي الوطني هو الأخ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي- لنوجه حديثنا إلى علماء أمتنا، وهم ورثة الأنبياء، والقائمون على الحق وأعلام الهدى، إن الأمة أشد ما تكون احتياجًا إليكمº تبصيرًا لها بمعالم الطريق، وتثبيتا على مشاق الجهاد، وتحذيرًا من خداع العدو، وبثًّا للأمل بقرب النصر، وعظيم المثوبة، وإن الله سائلنا جميعًا عن ذلك.. وإن واجبنا تجاه شعوبنا ينبغي ألا يلفتنا عن واجبنا تجاه حكامنا، فالدين النصيحة، وإننا لنشفق عليهم من عظيم التبعة أمام الله، ثم أمام التاريخ الذي لا يرحم، وإن لكل شهيد ولكل قطرة دم مهراق حقًّا في رقابهم، فهم الذين أسلموهم لعدوهم، وخذلوهم في جهادهم، ولم يقوموا تجاههم بحق المسلم: "والمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه"، ولم يقوموا تجاههم بحق الوطن، وهم صفوة المدافعين عنه، ورأس الرمح في أحشاء العدو الذي إن تفرغ لنا لم يَبقَ لحاكم عرش ولا لمحكوم أمان.

 

وإن شعوبنا المؤمنة الصابرة التي حيل بينها وبين فرض الجهاد- وهو فرض عين على كل مسلم إن استبيح وطنه ودينه- لمَدعوَّة إلى إبراء الذمة أمام الله بدعم إخوانهم المجاهدين بالمال والسلاح والدعاء وتوضيح قضاياهم، وبالثبات على الحق المرِّ، والاستمساك بالدين القويم الذي يستهدفه أعداؤناº لأنهم يعلمون قدر عظمته، وعبقرية قدرته على البناء والمواجهة وصنع الرجال، وقيادة الأمم وإسعاد العالم.

 

ولتكن دماء أخينا الشهيد، وليكن جسده الممزق وروحه الطهور زادًا لنا على الطريق حتى نلقى الله، ونموت على ما مات عليه الصالحون، غير مغيرين ولا مبدلين، ولا خزايا ولا مفتونين إن شاء الله.

 

"وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ" (الحج: 40).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply