تنبيهات في جمع الصلاة لأجل المطر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فهذه تنبيهات مختصرة حول مسألة جمع الصلاة لأجل المطر، وهي رؤوس أقلام، وأدعو إخواني أئمة المساجد لتأملها ومراجعة كتب العلماء في الفقه وغيره، إذ هناك تساهل في الجمع دون تحقق شروطه.

فجمهور العلماء على (جواز) الجمع للمطر المبلل للثياب، وخالف في ذلك الحنفية ومتقدمي علماء الأمصار -إلا أهل المدينة- = فلا يرون الجمع للمطر.

قال القدوري الحنفي في «التجريد» 2/912: «قال أصحابنا: لا يجوز للمقيم الجمع بين الصلاتين، وقال الشافعي: يجمع بينهما في المطر.. ».

وقال السرخسي الحنفي في «المبسوط» 1/149: «قال: (ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر) ما خلا عرفة ومزدلفة».

وقال الكاساني الحنفي في «بدائع الصنائع» 1/327: «قال أصحابنا: إنه لا يجوز الجمع بين فرضين في وقت أحدهما إلا بعرفة والمزدلفة فيجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة.. ولا يجوز الجمع بعذر السفر والمطر».

وقال ابن المنذر في «الأوسط» 2/430: «قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي عمّن جمع بين الصلاتين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة؟ فقال: أهل المدينة يجمعون بينهما، ولم يزل مَن قبلنا يصلون كل صلاة في وقتها. قال: وسألت الليث بن سعد وسعيد بن عبد العزيز؟ فقالا مثل ذلك».

الأوزاعي إمام أهل الشام وعالمهم في زمانه، توفي عام 157 هـ، وسعيد بن عبد العزيز شامي من أقران الأوزاعي، توفي عام 167 هـ، والليث إمام أهل مصر وعالمهم في زمانه، توفي عام 175 هـ.

ويفهم من كلام هؤلاء الأئمة: أن سائر أمصار الإسلام غير أهل المدينة= لم يكونوا يجمعون في المطر، ويقويه: أن عامة المروي في الجمع عن الصحابة والتابعين إنما هو عن أهل المدينة، ويؤكده:

ما رواه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» 1/690، والدوري في «تاريخ ابن معين روايته» 4/491 في رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك رحمهما الله: «.. وقد عرفتُ مما عبتَ إنكاري إياه: أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله، لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم: أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل ـ وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وقال: «يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة» ـ وشرحبيل بن حسنة وأبو الدرداء وبلال بن رباح، و

كان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص.

وبحمص سبعون من أهل بدر وبأجناد المسلمين كلها.

وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين، ونزلها علي بن أبي طالب سنين بمن كان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.. ـ ثم ذكر عمر بن عبدالعزيز وبعض ما كان منه في الشام ثم قال الليث: ـ ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط ليلة المطر، والسماء تسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا.». اهـ.

وسندها صحيح. ونقلها عن «المعرفة والتاريخ» ابنُ القيم في «إعلام الموقعين» 3/1607.

وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» 6/30 و«التمهيد» 12/211: «روى زياد بن عبدالرحمن عن مالك أنه قال: لا يجمع بين الصلاتين ليلة المطر في شيء من الأمصار وغير الأمصار إلا بالمدينة خاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وأنه ليس هناك غيره، وهو يقصد من بعد».

وقال ابن مفلح الحنبلي في «الفروع» 3/105: «ويجوز لمطر..، وحكي المنع رواية».

وقال المرداوي في «الإنصاف» 5/92: «وقيل: لا يجوز الجمع، وهو رواية عن أحمد».

فهذه إشارة لرأي مَن لا يرى الجمع للمطر من العلماء، وأنت ترى أنه قول لأمم من الأئمة المتقدمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ويفهم من كلام الإمام الليث أن الجمع لم يفعله إلا أهل المدينة، وأن عامة الصحابة والتابعين ممن في بقية الأمصار لم يفعلوه ولا يرونه.

ويقوي قولهم: أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا خلفاءه الراشدين، وقد مطرت المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مرة مطرا غزيرا متواصلا أسبوعا كاملا، ففي «البخاري» (933)، و«مسلم» (897) واللفظ لـ«البخاري» في قصة استسقاء الأعرابي يوم الجمعة، قال أنس رضي الله عنه: «.. فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال.. ـ وفيه ـ وسال الوادي (قناة) شهرا».

وفي لفظ لـ«البخاري » (1015): «فدعا فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة».

وفي لفظ لـ«البخاري » (6093): «ثم مطروا حتى سالت مثاعب المدينة، فما زالت إلى الجمعة المقبلة ما تقلع، ثم قام ذلك الرجل أو غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: غرقنا، فادع ربك يحبسها عنا، فضحك ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا».

وفي لفظ لـ «مسلم»(897): «ومكثنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله».

فهذا المطر الغزيز المتواصل الذي استمر أسبوعا كاملا، ورأيتَ في هذه الروايات صفته وما نتج عنه لم يرد فيه أنه صلى الله عليه وسلم جمع للمطر، ولو فعله لنقل.

ولم يأت حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لأجل المطر، وأكبر ما احتج به من جوّز الجمع من السنة (منطوق) حديث ابن عباس رضي الله عنهما في «البخاري» (543)، و«مسلم» (705) ـ واللفظ له ـ: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف ولا سفر».

قال أيوب ومالك والشافعي وغيرهم: «نرى ذلك كان في مطر».

وهذا ظن كما ترى وخالفهم غيرهم من الأئمة في فهمه.

أو: (مفهوم) رواية مسلم (705): «من غير خوف ولا مطر».

و حديث ابن عباس هذا أشكل على العلماء، واختلفوا في توجيهه، ولهم فيه ثمانية مسالك، ذكرها ابن رجب في «فتح الباري» 4/264، وغيره من أهل العلم

وسأذكرها لك مختصرة:

1-              أنه منسوخ بالإجماع على خلافه.

2-              معارضته بما يخالفه، وهي أحاديث المواقيت المتواترة.

3-              حمله على الجمع الصوري، وهو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها ويقدم الأخرى إلى أول وقتها.

4-              أنه كان لأجل المطر.

5-              أنه كان في السفر.

6-              أنه كان للمرض.

7-              أنه كان لشغل.

8-              أنه على ظاهره.

فأكثر أهل العلم أو عامتهم: أنه متروك الظاهر.

وجاء في بعض رواياته عند «مسلم» (705) أن ابن عباس لما سئل عن السبب قال: «أراد أن لا يحرج أحدا من أمته».

وهذا المعنى دل عليه القرآن، قال الله عز وجل: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَج}(الحج:78).

فالحرج منفي عن هذه الشريعة ومرفوع عنها.

لكن ما ضابط «الحرج» الذي إذا وجد جازت الرخصة؟

كل طائفة من الفقهاء لهم نظر وتقدير لـ «الحرج» الذي يصح فيه الجمع أو لا يصح، وشروط ذلك..

والمطر اليسير الذي يستمتع به الناس ولا يمنعهم من الخروج لحاجاتهم= لا يصح أن يجمع له ويستدل بهذا الحديث، فالخروج للصلاة في الحر والبرد أشد منه، ولا يُجمع من أجل ذلك عند عامة العلماء.

ومن أقوى ما احتج به لجواز الجمع للمطر: ما رواه مالك في «الموطأِ» (386) عن نافع: «أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر= جمع معهم».

وكذلك كان يفعل أئمة تابعي أهل المدينة، يصلون معهم إذا جمعوا من غير نكير.

فمتابعتهم تدل على أنهم: يرونه جائزا،

أو أنهم: رأوه اجتهادا سائغا فتابعوهم جمعا للكلمة، لا اختيارا منهم له فقها.

وقد جاءت عدة أحاديث في «الصحيحين» وغيرهما من رواية عدد من الصحابة: أن المطر عذر في التخلف عن الجماعة، وأمر المؤذن أن ينادي: (الصلاة في الرِّحال).

منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في «البخاري» (543)، و«مسلم» (697) ـ واللفظ له ـ :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر، يقول: «ألا صلوا في الرحال».

وعن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: «إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم»، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: «أتعجبون من ذا، قد فعل ذا من هو خير مني..». رواه «البخاري» (668)، و«مسلم» (699) واللفظ له.

وهذه الرخصة لمن كان في بيته فيها رفع الحرج؛ لأنه إذا وُجد مطرٌ يضر ويؤذي ويشق الخروج معه فتكلف الرجل الخروج في المطر حصلت المشقة وتبللت ثيابه، مع أنه ربما يكون وقت الصلاة الأخرى قد وقف المطر، فيكون قد خرج في وقت الحرج، وسقط عنه الخروج للجماعة في وقت اليسر، بحجة التيسير ورفع الحرج!

أما إن نزل المطر وهم في المسجد أو قريب منه، فهنا انتفاعهم بهذه الرخصة متوجه.

وقد أخذ بقول أهل المدينة بجوز الجمع للمطر: المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، فقالوا: إن الجمع لعذر المطر، (جائز)، بشروط.. وهذه بعض النقول من كتبهم:

قال القاضي عبد الوهاب المالكي في «الإشراف» 1/315: «(يجوز) الجمع بين الصلاتين في الحضر لعذر المطر».

قال ابن رشد المالكي في «المقدمات الممهدات»1/186: «اتفق مالك وجميع أصحابه على (إباحة) الجمع بين الصلاتين المشتركتي الوقتِ؛ لعذرِ.. المطر في الجملة».

وقال القرافي المالكي في «الذخيرة» 2/377: «هو عندنا جائز».

وفي «مختصر خليل» ص44 «ورخص له.. في جمع العشاءين.. لمطر».

وفي «مواهب الجليل شرح مختصر خليل»: 2/434: «في كون الجمع راجحا أو مرجوحا طريقان؛ الأكثر: على أنه راجح، نقله ابن عرفة».

وقال العمراني الشافعي في «البيان» 2/489: «(يجوز) الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت الأولى منهما في الحضر في المطر، وقال أبو حنيفة والمزني: لا يجوز».

وقال النووي الشافعي في «المنهاج» ص46: «(يجوز) الجمع بالمطر»، ونقل في كتابه «المجموع» 4/378 عن الغزالي الشافعي: «لا خلاف أن ترك الجمع أفضل».

وذكره أيضا جماعة من متأخريهم.

وقال ابن مفلح الحنبلي في «الفروع»3/105: «يجوز لمطر».

وقال المرداوي الحنبلي في «الإنصاف» 5/85: «تنبيه: يؤخذ من قول المصنف [ابن قدامة] (ويجوز الجمع) أنه ليس بمستحب، وهو كذلك؛ بل تركه أفضل على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، قاله المجد وصاحب مجمع البحرين، ونص عليه، وقدمه في الفروع وغيره. وعنه: الجمع أفضل، اختاره أبو محمد الجوزي وغيره، كجمعي عرفة ومزدلفة. وعنه: التوقف».

وقال ابن النجار الحنبلي في «منتهى الإرادات» 1/334: «يباح.. وتركه أفضل».

وقال الحجاوي الحنبلي في «الإقناع» 1/183: «وليس بمستحب؛ بل تركه أفضل».

لاحظ هنا: أن (أكثر) العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم على أن الجمع للمطر= إما ممنوع، أو مباح تركه أفضل، وليس كما يظن كثير ممن يسارعون فيه، وكأنه من السنن المتواترة!

ومع ملاحظة أيضا: أن من أباح الجمع للمطر اشترط لجوازه من حيث الجملة عدة شروط على اختلاف بينهم فيها، ومن هذه الشروط:

1-              نية الجمع.

2-              أن يكون المطر موجودا عند افتتاح الصلاتين.

3-              أن يكون لهذا المطر مشقة كتبليل الثياب.

قال الشافعي في«الأم»1/95: «لا يجمع إلا والمطر مقيم في الوقت الذي تجمع فيه؛ فإن صلى إحداهما، ثم انقطع المطر=لم يكن له أن يجمع الأخرى إليها».

وقال المحلي في «كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين» 1/281: «(وشرط التقديم: وجوده) أي: المطر (أولهما) أي: الصلاتين؛ ليقارن الجمع العذر».

وذكر جماعة من الحنابلة: «لو أحرم بالأولى مع قيام المطر، ثم انقطع ولم يَعُدْ ـ فإن لم يحصل منه وَحَل ـ بطل الجمع».

فعلى الإمام أن يتقي الله في جماعة مسجده، وأن يحتاط لصحة عباداتهم، وأن يحملهم على ما عليه أهل العلم الذين يتبعونهم أو جمهورهم، وألا يتساهل في الجمع من غير تحقق شروطه، وأن يخبرهم أنه ليس من السنن الثابتة؛ بل من الرخص المختلف في جوازها، وأن أكثر من جوّزه يرون أن ترك الجمع أفضل من فعله، وأن لهم رخصة في التخلف عن الجماعة حال المطر.

والله أعلم،

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply