التوكل على الله: كيف ولماذا


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مقال في استعادة التوكل في زمن صعب:   د.غُـنْــيَــة عبد الرحمن النحلاوي

مقدمة:

أهمية البحث:

شبابنا اليوم.. سوادهم الأعظم يجدون "التوكل على الله" فكرة لا تتناسب مع العصر، حتى وأحدهم يريد اتخاذ خطوة مصيرية: يُشار عليه بصلاة الاستخارة.. فيؤجل ويتهرب! كأن الاستخارة وما تحمله من معاني التوكل.. تقدح في "عصرنته"! وأفراد هذا الجيل معظمهم إلا من رحم ربي، للإغراق بالمحسوسات، لا يُـحسنون التوجه لربّ العباد بالدعاء وطلب الرحمة، ناهيك عن الاستغفار والتوكل! وهي خسارة مؤسفة!

 فهل هو إرثُ الفهم الخاطئ للتوكل وربطه المغلوط بـ"التواكل"، أم هو انبهارهم بحضارةٍ السيادة فيها للمادي والمحسوس، مع ابتئاسهم لواقع أمتهم المتقهقر في الركب؛ من جهة أخرى فالأمة اليوم من تناقضاتها أنها تطلب الفرج من الله تعالى وتتوكل عليه بلسانها، بينما قلبها في بعدٍ عنه وعملها مع العبيد!! ويثير استغرابك الجهل بمعنى التوكل وبأنه عبادة نثاب عليها، وانظر ،لأهميته، تخصيصه من بين العبادات بالاسم في قوله تعالى {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}هود 123؛  فالعبودية لله هي"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"(1) والتوكل عمل يحبه الله ويرضاه، قال تعالى {إن الله يحب المتوكلين}آل عمران من الآية 159؛ وكذلك نفقد مفتاحا عظيما للفلاح حتى بالمفهوم المادي العصري عندما نفقد القوة الهائلة المستمدة من توكيل وكيل لا ندّ له.. وهو القاهر فوق عباده.. إنه رب الكون والكائنات وخالقها ومقدرها سبحانه.. جلّ شأنه! وفي ما يلي أسئلة وإجابات حول التوكل:

"*"كيف:[1] كيف أبدأ بالتوكل؟

<لا توكل بدون إيمان>آمن ثم توكل إن أول مرحلة لتجاوز العقبات المذكورة: الإيمان والعمل، قال تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}36 الشورى، وفي تفسيرها قال الشوكاني مبينا معنى التوكل ((بيّن الله سبحانه لمن هذا "الخير وأبقى" فقال"للذين آمنوا" أي: صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان "وعلى ربهم يتوكلون" أي يفوّضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره))؛ فهم:

  *آمنوا     *اتخذوا الأسباب فعملوا بموجب الإيمان   *ويميّزهم أنهم"على ربهم يتوكلون".

 وإذ تتدبر الآية بالارتباط مع ما تلاها (الآيات36-43) تجد كوكبة من الصفات الحميدة لتلك المجموعة البشرية المتميزة مبدأها ومفتاحها ثنائية الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه، وصولا لـ"الخير"و"الأبقى" عنده، وكأني بها مسيرة حياة بين الدنيا والآخرة لمجموعة ذات استحقاق عظيم: فمن جهة "الإيمان"هو سابق وأساس لصحة"التوكل" وجني ثمراته، ومن جهة أخرى أنت عندما تؤمن مأمور بالتوكل، قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}آل عمران من الآية 160، بينما كثيرا ما نتجاهل هذا فنضع التوكل في غير مكانه في حياتنا كأفراد ومجتمعات  ففينا مع الأسف طلبة يغشون في الامتحان ويتوكلون على الله! وآكل ربا مستعلن ومصرّ.. يتوكل على الله!!وفينا وفينا.. وبيننا.. !

=< لا توكل بدون اتخاذ الأسباب(مع تحري الحق)>:في القرآن العمل هو توأم الإيمان، وأُحصيَ الإيمانُ مقروناً بالعمل الصالح في قرابة مائة آية، قال تعالى {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصّالحات فأولئك لهم الدرجت العُلى} فالمؤمن يتخذ الأسباب بالعمل الصالح متحريا الحق ومتجنبا الشبهات، ويتوكل على الله من أعماقه مطمئناً ومفوضا أمره لله وحده في إنجاز العمل وتحقيق الغاية ، ذلك أن التوكل الحق هو الضابط للموازنة الدقيقة بين الأخذ بالأسباب وعدم تعبّد تلك الأسباب، يروى أن عمر بن الخطاب لقي ناسا من اليمن فقال "من أنتم؟ قالوا نحن المتوكلون، قال بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبّه في الأرض ويتوكل على الله"(2).

 [2]كيف أصحح توكلي على الله وأرفع درجته؟ بفرض وجود سلّم لدرجات التوكل من (1حتى5 مثلا) فهناك من توكلهم صفر، وقلة بلغوا أعلاه، وأكثرنا توكله ضعيف! وهذه بعض سبل رفع درجة التوكل، ليقاس عليها (كل بحسبه):

 حسن الظن بالله واليقين:حاول أن تحسن الظن بما عند الله تعالى القائل ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هود:123، والاطمئنان للوكيل شرط نجاح القضية، ولله المثل الأعلى؛ فيقينك بأنه تعالى ليس بغافل: يطرد غفلتك عن التوكل، ويقينك بأنك تتوكل على الحي الذي لا يموت وأن الله بكل شيء عليم.. يرفع درجة توكلك، وأنت تفوض له مطمئناً ليقينك أنه يعلم وأنت لا تعلم.. مهما كنت عالماً! قال تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقرة من الآية 232؛ وهذا مثال قرآني شامل للاقتداء، فيقين نبي الله هود بأن ربنا على صراط مستقيم وأنه مالك لكل ناصية وقادر عليها، جعله يصدع بقوة توكله عليه سبحانه بالبراءة من الشرك مواجها كيد المشركين بحزم: {إنّي توكلتُ على الله ربي وربِّكم ما من دابّة إلا هو آخذٌ بناصيتها إنّ ربّي على صِراطٍ مُّستقيم}هود56(وانظر الآيات من 50-60)؛ ويكاد التوكل على الله يندخل في كل تفاصيل حياة المؤمن الحقّ الذي يتلمسه في كثير من آيات الله سواء باللفظ كما مر بنا أو المعنى كقوله تعالى: {ففروا إلى الله}الذاريات؛ وكما أن يقينك وإيمانك جعلك تحسن التوكل على الله، فإن هذا التوكل كان معك حارسا يثبت إيمانك.. ويمنعك من الخروج عن الحق، ويعينك على اجتناب الحرام وتنفيذ الأحكام ولو خالفَت هواك!

الأخذ بالأسباب متجنبين الشبهات وبالتوازن مع عدم تعبّد تلك الأسباب: غني عن القول أن تجنب الشبهات بتوجيه وتصحيح نيتك(3) وأنت تتخذ الأسباب يقوي توكلك إن كنت خَبِرت التوكل وعرف طيب ثمراته، أو يدخلك في رحابته إن لم تكن تحسنه من قبل؛ وعن الموازنة بين الأخذ بالأسباب والنجاة من رقّها، نضرب مثلا في عدم التذلل للرزق بل للرزاق: وإن الرزق من أكبر هواجس الإنسان وهو لا يقتصر على الكسب المادي كما نعلم.. فالعمل رزق والصحة رزق، والزواج رزق والبنين والحفدة رزق..؛ والغني يرزق والفقير يرزق، بل الناس مهما أثروا، مفتقرون للرزاق  ذو القوة المتين، وللتوكل عليه..؛ ولخصوصية التوكل في الرزق تبرز درجة"حقّ التوكل"، وببلوغها أنت تسبَح محلقا كالطير تحفّك الحرية والكرامة، وبحق التوكل على الله الكريم {الغني الحميد}15فاطر، فأنت تتخفّف من القيود الدنيوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطاناً)) وهنا عندما تتحرر كالطير.. وتزيد عليها بكرامتك كابن آدم فتذكر أنها "تغدو خماصا وتعود بطانا" وأنك رغم علمك وقوتك تتعلم من الطير اتخاذ الأسباب في غدوك ورواحك متوكلا، فيقيك التوكل على الله حق توكله من التذلل للرزق لدرجة الاستعباد!

التقوى:التحلّي بالتقوى يصحح مسار توكلنا ويبلغه كماله، ثم عندما يأمرنا تعالى به نأتيه على وجهه الحق، قال تعالى {ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}المائدة11،وهو موقف يتكرر: الهمّ بإيذاء المؤمنين.. ولدرجة البطش بهم كحالنا اليوم ..ونحن بعيدون عن التقوى!! مع شدة حاجتنا لها للارتقاء بتوكلنا عليه سبحانه، ليكفّ أيديهم عنا! غفر الله لنا!

الرضا:المتوكل بين خطرِ كِبَر يحرفه عن التوكل ونعمة رضا تبلّغه أحسنه.. فمن تكبر خسر التوكل وفشل فيه.. ومن رضي حقق أعلى درجاته..؛ نقل عن ابن أبي الدنيا في جامع العلوم"التوكل ثلاث درجات أولها ترك الشكاية، والثانية الرضا، والثالثة المحبة بترك الشكاية"..، وإن إتقانك التوكل من دلائل تمتعك بنعمة الرضا(4).. ولعلك تبلغ مرتبة الذين {رضيَ اللهُ عنهُم ورضوا عنه}.

الدعاء: الدعاء هو أحد أشكال اتخاذ الأسباب وهو يجعل المتوكلين كالطود الشامخ ، ويجعل توكلك على الله تعالى راسخا :قال تعالى على لسان ثلة من المؤمنين {ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}البقرة 250 ، فالمراحل في دعائهم: *طلب إنزال الصبر من الله تعالى (إفراغا)؛ *طلب التثبيت *ثم طلب النصر وتحققه => {فهزموهم} (251) ولكن: بإذن الله تعالى فقط؛ فالتدبر المستفاد: اتخذ الأسباب، وادعُهُ سبحانه ليجعلها فعالة (بالتثبيت والصبر هنا)، وتوكّل عليه سبحانه في جميع المراحل وصولا لتحقيق الهدف؛ وهذا المثال، يبين أننا نستنبط التوكل ونتعلمه من القرآن ولو لم يرد باللفظ.

"**"لماذا:ما ضرورة التوكل:

أولا: التوكل العام في كل قول أو عمل (حسب تعريف العبودية أعلاه) واخترت منه:

 توكل الملمات والنوائب:في الملمات تبرز حاجتنا للتوكل على الله تعالى، من خلال فطرتنا السليمة، ومقتدين بالأتقياء من الأنبياء والصالحين في كل زمان ومكان نستلهم صدق التوكل من تقواهم وتواضعهم، ونستمد القوة من توكلنا على القوي العزيز فلا عزة إلا لله.. وهو حسبنا، فليس في التوكل أثارة ضعف ولا هوان.. ولا حتى ظل لها! 

1>توكل نبي الله يعقوب: قال تعالى {فلما آتوه موْثقهم قال الله على ما نقول وكيل}66، وبعد أن اتخذ اللهَ تعالى وكيلا على موثقه مع أولاده: ها هو أبو يوسف عليهما السلام يوسّع معنى التوكل ويعمقه بأسلوب تربوي للنصح غير المباشر معهم.. فنجده باليقين الثابت: بأن الحكم لله في جميع أمورنا، وبصيغة تفيد الحصر{إن الحكم إلا لله}، يضرب لنا ولهم مثلا بنفسه بقوله في سورة يوسف {وما أُغني عنْكم من الله من شئٍ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}67 ؛ فالتوكل بعد اتخاذ الأسباب يمنحنا التوازن في الملمات،سبحان الله، وانظر كيف أن المتوكل يواثق حتى أولاده، ولا يترك أمرا ذا بال دون توثيق وعقد، ثم يتواضع لله متوكلا.. وكأن الآيات تدعونا لحسن وصدق التوكل، ولإسقاطه على واقعنا وليس مجرد التظاهر والتباهي! ونعم الدعوة هي؛ وبالتوكل نستشعر في ضمائرنا أن شؤوننا مع الآخرين مواثيق أمام الله وهو عليها وكيل.. ونحيل هذا واقعا ماديا ملموسا ما استطعنا! مما يوقظ خشية الله تعالى عند الغافلين ويقيهم من منزلق النكث بالعهد وخيانة الأمة وزغل النية ، ثم لنتذكر أننا منذ ولادتنا وحتى مماتنا نحن في موثق وعهد مع الله تعالى وهو سبحانه عليه وكيل(5)، فنحسن التوكل عليه وحده.. ربنا ألهمنا حسن التوكل..  

2>توكل الدعاة: ولنا في أنبياء الله قدوة، وتأمل حالهم في قوله تعالى {ومالنا ألّا نتوكَّلَ على الله وقد هدانا سبلنا ولنصْبـرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}12ابراهيم، فهم وقد اهتدوا: 1)اتخذوا الأسباب لهداية غيرهم  إلى سبيل الله  2) واتخذوها بالصبر على الدعوة.. 3)واتخذوها بالأشق: بالصبر على الأذى!

   وخلال كل خطوة هم متوكلون على الله، والعجيب أنهم وهم المتوكلون بالاسم والوصف.. فالآية تختم بدعوة للتوكل فيها نوع من استنهاض الالتزام لهم ولنا ولكل متوكل: أنتم المتوكلون!.. فلتتوكلوا عليه سبحانه؛ وذلك في كل شأن كما في التبليغ والتبيين والصدع بالحق والإخلاص في دمغ الباطل.. قال تعالى للحبيب {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كَنْزٌ أوْ جاءَ معهُ مَلَك إِنّما  أنْتَ نذير والله على كلّ شئ وكيل}12هود، حتى لو ضاق صدرك.. وإنه لضائق توكل وقل أسوة بالحبيب (الحمد لك ربي أنك على كل شئ وكيل)، وتذكر أن الدعوة بكافة الطرق المتاحة للحق ولدين الحق هي من اتخاذ الأسباب، فالناس لن تهتدي وأنت جالس تتأمل في القرآن متوكلا؛ وإذا قيل هؤلاء أنبياء, فإليك مثالين لتوكل الملمات لغير الأنبياء:

<حسن التوكل امتحان لصدق الإيمان في الطاعة والجهاد>المثال من بني إسرائيل إذ أمروا بدخول الأرض المقدسة بعد اتخاذ الأسباب.. وعندما أحجمت العصبة التي ارتضاها الله تعالى لأداء أمره عن المواجهة، برز رجلان من صالحي قوم موسى بخطة فيها امتحان لإيمانهم بالتوكل فقالوا لهم: توكلوا على الله وحده في دخولكم على القوم الجبارين ينصركم الله .. {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}المائدة23، فنكصوا! وكان نبذهم التوكل سقوطا مدويا {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}المائدة24! واستحقوا عقوبة التشريد في التيه، قال تعالى {فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرضِ}.

<التوكل لمواجهة الحرب الإعلامية خلال الرباط>: قال تعالى {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيزٌ حكيم}الأنفال49، وهنا والمؤمنون في بدر في موقف شديد، قد تعجب لختام المولى الآية بـتذكير"هؤلاء"كما لقبهم المنافقون! وهم الأخيار الأبرار، وتذكيرنا من بعدهم بـ"التوكل" عليه سبحانه! في موطن قتالي شديد الوطأة يواجهون فيه الكثرة الكافرة.. وحيث الحاجة ماسة للتسليح المادي بالعتاد والرجال..! وإن هو إلا أسوأ موطن لبذر الشك بالعقيدة وزعزعتها ولرميهم بأنهم خدعوا واغتروا بالإسلام"حتى تكلّفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش"؛ لذلك ينبهنا المولى لسلاح التوكل الذي قد يغفل عنه المؤمنون في ساعة عصيبة مماثلة: تتفجر فيها مفاجأة النفاق وينقلب الأصدقاء أعداء كاشفين عن وجه الخداع.. حيث لا يثبّت المؤمنين مثل التوكل على الله تعالى:

*بأنه العزيز.. فيذلّ العدو الظاهر والباطن المنافق..

**وبأنه الحكيم فلا مكان لشبهة الغرور في دين وشرعة رب حكيم تغنينا حكمته عن كل المشككين أدعياء تحكيم العقل البشري بالنص المنزّل من لدنه!  

واليوم.. وأمتنا مستهدفة.. والنفاق على أشده بين ظهرانينا.. ونتهم بالغرور في ديننا! ما أحوجنا لتلك الأسلحة الفعالة وتحديدا للتوكل الحق على الله تعالى!

3>التوكل للشفاء ورفع البلاء :علمك بأن الله القدير هو الذي يطعمك من جوع ويؤمنك من خوف، وهو الكافي الشافي، يجعل التوكل عليه وأنت تتخذ الأسباب ضرورة حتمية؛ ومن جهة أخرى فعدم التوكل عليه سبحانه يورث من قسوة القلب وضيق الصدر ما يشقيك ويجهدك، بل ويضعف المناعة ويقوي أمراض النفس والجسم؛ ونستأنس بالخليل عليه السلام في قوله متوكلا للشفاء، كما للرزق، والهدى {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}الشعراء 78-80؛ وعندما يعتاد العبد التوكل ويذوق ثمرته، فهو تلقائيا لن يهمّ بعمل إلا متوكلا على الله، وهذا سيستدعي أن يتحرى الحق في كل أعماله.. إذ لا توكل في باطل.. سبحان الله؛ قال ابن القيم "الأدوية الإلهية كالتوكل على الله والالتجاء إليه والتوبة والصدقة والإحسان للخلق لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم الأطباء"؛ ومع كل مرض أعالجه وأقول:"اللهم هذا الدواء ومنك الشفاء" ومع كل بلاء نحاول الاقتراب فيه من {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران /173،نتعلم أكثر عن ضرورة التوكل على الله تعالى وثمراته.

ثانيا:التوكل في العمل بالشعائر التعبدية: الناس هنا بين إفراط وتفريط: إما فئة لا تتخيل لزوم التوكل في العبادات الشعائرية إذ تجتهد في الصلاة والقيام والصيام والحج والعمرة وكأنها ضامنة! وهذا غرور، أو فئة تجعل التوكل في الشعائر كل شئ وتسند له الأهداف والنتائج مع أقل قدر من العمل! وهذا إخلال بأساس التوكل: بتجريد الإيمان من توأمه العمل الصالح(6) .. فالصحابي الذي أراد رفقة الحبيب في الجنة قال له صلى الله عليه وسلم:"أعني على نفسك بكثرة السجود"(5)؛ والتوكل هنا يلازم أدق أسرار العبد مع ربه: وحتى في أرجى الساعات.. وأكثر الأماكن قربا لله تعالى.. توكل عليه سبحانه، لا تكل نفسك للنفحات (كرمضان أو في الحرم أو قيام الليل).. تواضع لعظمته حتى في أبسطها: في سجدة هي بلل للقلوب الظامئة، وتذكر قوله تعالى للحبيب ولأمته من بعده{ وتوكل على العزيز الرحيم() الذي يراك حين تقوم() وتقلبك في الساجدين}الشعراء (217-218-219) تدبرها أخي: من الذي يراك حين تقوم.. بأي عمل، في أي لحظة.. وفي كل لحظة ؟!! ليس إلا العزيز الرحيم سبحانه فتوكّل عليه وحده.. بعزته تعلو، وبرحمته تنجو..، وعندما تظلم الدنيا .. تذكر الرؤية الأخص بينك وبينه سبحانه التي لا يتطفل عليها أحد.. لحظات القرب.. أقرب ما يكون القرب! حين يراك سبحانه في {تقلبك في الساجدين}؛ وإذ نستحضر تلك الآية في سجودنا بالمعنى وربما بالنص، يتسع التوكل في نفوسنا نشورا ويقينا، نتخفف من أثقالنا المرهقة إذ نطرحها على أعتاب مولانا.. نعم المولى ونعم الوكيل ، وتتوق أرواحنا للسعي لما يرضيه وبيان ما نجده للناس من نعمة الهدى والرحمة للعالمين، ونحن نستشعر أنه لا يضئ الظلمات في حنايانا مثل سجودنا بين يديه سبحانه، وأنه: "أقرب ما يكون العبد إلى ربّه وهو ساجد"(8).. فيزداد توكلنا عليه مع كل سعي في أعمال الدنيا والدين .

= في الختام : هنالك الكثير مما يقال ويكتب في التوكل على الله، وأن نتذوق طعم التوكل وثمرته: فهذا شئ لا يوصف! وعندما نتحراه ونجد جناه.. نتنبّه لنكفّ عن التشبث بأي شئ بمعزل عن التوكل مهما عظمت قيمته.. حتى لو كان عملا للآخرة يُرجى ثوابه، ويخف قهرنا وحزننا إذ لم يتحقق..! مثل دعوة من ضلّ إلى الهدى، وهذه الهداية التدبرية وجدتها في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}105 المائدة، ذلك أنه مثلما الرزق في المال وكل ما له كيان ملموس:عمل وتوكل،.. فكذلك الرزق في الأرواح.. في الهداية والاهتداء.. فلا يضرنا ضلالهم بعد العمل المخلص لدعوتهم والتوكل على الله لهدايتهم.. والله منبئنا كل بعمله وجهده ونيته!!     =اللهم ألهمنا حسن التوكل=               د. غُنية عبدالرحمن النحلاوي

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 هوامش:

 1)كتاب العبودية لابن تيمية ، بمقدمة الأستاذ عبدالرحمن الباني / طبعة المكتب الإسلامي 1963

 وألفه ردا على سؤال عن الآية (21)في البقرة مؤداه: نحن مأمورون بعبادة الله تعالى فكيف نعبده؟

2)قول عمر بن الخطاب عن التواكل من جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي طبعة المكتبة العصرية بيروت-صيدا-2002؛ وحديث"لو أنكم توكلون على الله حق توكله"عن روايته رضي الله عنه: قال الترمذي حسن صحيح.

3) وليس في توجيه النية وتجديدها صعوبة أو تعقيد، وانظر للكاتبة النية ببساطة: تجربة "أيام لتوجيه النية" على الرابط:

http://www.alukah.net/sharia/0/111874

4)إذا كان التوكل كالخبز لحياة المؤمنين فالرضا غذاء روحي متميز ، وانظر: كلمات في الرضا والوقاية الإيمانية على الرابط http://tadabborq.com/tadabbor/detailspensforethought/tadaborbyane/41

5)مقال عهد وعقود قرآنية نشرف بها د.غُـنْــيَــة عبد الرحمن النحلاوي رابط المقال :

http://www.tadabborq.com/tadabbor/detailspensforethought/tadaborhuman/16.html

6) مقال توأمة الإيمان والعمل الصالح، د.غنية عبدالرحمن النحلاوي، قيد النشر. موقع تدبر.  

7)الحديث رواه مسلم في " صحيحه، والصحابي هو رَبِيعَة بن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه

8)حديث: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء}. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply