ويل لحزب الهمزة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فمن المعلوم بالضرورة من فقه الدعوة؛ أن لا يزال أهل الإصلاح والعلم رميةَ غَرضٍ لأهل الشقاق والإفساد، يديرون أسماءهم على ألسنة حداد يبغونهم العنت .

ولقد عدّد ابن القيم حيل الشيطان وعوائقه فذكر آخر ما يعلقه الشيطان من أهل الإيمان فقال: "ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻟﻬﻢ ﺇﻻ ﺣﻴﻠﺔ ﻭاﺣﺪﺓ، ﻭﻫﻲ ﺗﺴﻠﻴﻂ ﺃﻫﻞ اﻟﺒﺎﻃﻞ ﻭاﻟﺒﺪﻉ ﻭاﻟﻈﻠﻤﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻳﺆﺫﻭﻧﻪ، ﻭﻳﻨﻔﺮﻭﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻨﻪ، ﻭﻳﻤﻨﻌﻮﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺪاء ﺑﻪ؛ ﻟﻴﻔﻮﺗﻮا ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﺪﻋﻮﺓ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻭﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻹﺟﺎﺑﺔ". (إعلام الموقعين 256/3)

-       وإن من حكمة هذا القضاء الكوني والأمر القدري أن يستخرج الله به من عبوديات المصلحين -ما لن يتم لولا افتراء المفترين على المتقين- فيستخرج به من عبودية الصبر على الأذى والتذلل لله لرد كيد البغاة، والرجوع للنفس لاستكمال الفضائل، وصرف القلب عن مدائح الخلق والتعلق بثناء الله ومدحته، وعظيم استقذار ذنب الافتراء واستقباحه -بعد أن وجد حرقته ولذعته- وغيرها من التعبدات .

-       ومن تصدّر للدعوة وهداية الناس وجمع شعث الأمة؛ فلابد أن يعد للأذى تجفافاً من الصبر يقي به ظهره من طعنات الطاعنين، وهمزات الهُمزة المفترين، فلقد جرى قضاء الله الكوني أن يبتلي المتقين بالمفترين ، كما قال -جل شأنه- في تسلية نبيه محمد بعد تهويمات قريش على الدعوة المحمدية، وتساؤلاتهم الباردة:"مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق". فقال الله: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون "

-       وإذا ابتلي العبد المؤمن بجفاء أهل الأذى فمن الأدب الواجب عليه أن لا تحمله هجنة الزور أن يقع في الزور، ولا تأخذه خصومة الفجور أن يركب الفجور، فيردّ البغي بالبغي والكذب بالكذب، بل يتجمل بالحلم والعفاف، ويضم لحييه عن الافتراء والبهتان، ويحذر أن تبدره الغضبات فينتقم لنفسه بغير حق .

-       ثم لا يمنعه تحامق المفترين من قبول ما في طيّات كلامهم من الحق، فالحق نشيد المؤمن أينما وجده انتحله، وكثير من أهل الباطل يخلط باطله بنوع من الحق لتسوغه آذان السامعين، وصاحب التقوى يرعى أمر ربه، ويستجيب للحق لذات الحق، فيَسُل الحسن من القبيح، وينفض الكلام لينخل ما فيه من الباطل ويقبل ما فيه من الحق لا يبالي من أي وجه جاءه ، وفي ذلك معاملة لخصمه بنقيض قصده حين أراد شينه ! فيتزين بزينة الحق الذي في كلام خصمه ويفيد من نقده، ليكون له غنمه ولخصمه غرمه .

-       ومن ابتلي ببهتان المفترين وتلبيسهم؛ فليس عليه من بأس أن يدفع قالة السوء عن نفسه ويستبرئ لها، وذلك لا ينافي العمل بمقتضى قول الله: "إن الله يدافع عن الذين ءامنوا" فإن هذا الوعد لا يحصر الدفع عن المؤمنين في القضاء الكوني القدري، ولا يدل على المنع من دفع المرء عن نفسه التهمة والفرية، فالدفاع الربّاني عن المؤمن قد يكون بالقضاء الكوني الذي يقدره الله، وقد يكون بامتثال الأمر الشرعي بمدافعة أهل الباطل، وقد ثبت في الصحيحين من حديث اﻟﻨﻌﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺑﺸﻴﺮ قال: ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﻳﻘﻮﻝ: "اﻟﺤﻼﻝ ﺑﻴﻦ، ﻭاﻟﺤﺮاﻡ ﺑﻴﻦ، ﻭﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺸﺒﻬﺎﺕ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻬﺎ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻤﻦ اﺗﻘﻰ اﻟﻤﺸﺒﻬﺎﺕ اﺳﺘﺒﺮﺃ ﻟﺪﻳﻨﻪ ﻭﻋﺮﺿﻪ "

قال ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: "ﻭﻓﻴﻪ ﺩﻟﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻃﻠﺐ اﻟﺒﺮاءﺓ ﻟﻠﻌﺮﺽ ﻣﻤﺪﻭﺡ ﻛﻄﻠﺐ اﻟﺒﺮاءﺓ ﻟﻠﺪﻳﻦ "جامع العلوم والحكم 213 .

-       وضميمة ذلك أن ينظر -من وقع عليه الأذى- في فعال عدوه الذي آذاه بالباطل، فإن رأى مصلحة شرعية في كشف سوءاته -التي نادته للافتراء على الخلق- فليبثبثها وينشرها ويهتك حجبها، فتستبين سبيل المفترين، وينكشف حالهم، وليس هذا من الاعتداء المذموم بل هو من العقوبة الشرعية التي نهجها القرآن، فحين قذف رأس المنافقين عبد الله بن أُبَي عرضَ النبي ، أنزل الله تعريضاً به -في السورة التي أنزل فيها براءة الصديقة رضي الله عنها- أنزل قوله: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا "

وفي صحيح مسلم ﻋﻦ ﺟﺎﺑﺮ بن عبد الله: "ﺃﻥ ﺟﺎﺭﻳﺔ ﻟﻌﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ اﺑﻦ ﺳﻠﻮﻝ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ: ﻣﺴﻴﻜﺔ، ﻭﺃﺧﺮﻯ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ: ﺃﻣﻴﻤﺔ ﻓﻜﺎﻥ ﻳﻜﺮﻫﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺰﻧﺎ، ﻓﺸﻜﺘﺎ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﻓﺄﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ: (ﻭﻻ ﺗﻜﺮﻫﻮا ﻓﺘﻴﺎﺗﻜﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻐﺎء) "(صحيح مسلم 3029)

فتأمل هذا المسلك القويم في الرد على أهل الافتراء والبغي، فإنه يكسر من سَوْرة بغيهم، ويرد من ظلمهم، لما يتخوفونه من تتبع الناس لزلاتهم بالحق حين تتبعوا عنت الخلق بالباطل .

وإني أبشرهم بقول النبي : "ﺷﺮاﺭ ﻋﺒﺎﺩ اﻟﻠﻪ اﻟﻤﺸﺎؤﻭﻥ ﺑﺎﻟﻨﻤﻴﻤﺔ، اﻟﻤﻔﺮﻗﻮﻥ ﺑﻴﻦ اﻷﺣﺒﺔ، اﻟﺒﺎﻏﻮﻥ اﻟﺒﺮﺁء اﻟﻌﻨﺖ". (رواه البخاري في الأدب عن أسماء بنت السكن 323، ورواه أحمد في المسند عن ابن غنم 17998)

-       وينبغي للمصلح -حين يبلغه أذى الهمازين- أن لا يحتويه الحزن ويأخذ به فيشاغله عن مشروعه الإصلاحي، ولئن كان الحزن مما لا يد له في دفعه عن قلبه، إذ قد أحزن كلامُ المفترين سيدَ ولد آدم ، فقال الله عن نبيه : "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون "

ولكن ليحذر أن يفتنوه عن مشروع نهضة الأمة، فإنه إن تشاغل بهم حقق لهم بعض ما يريدون، وليس يغيظهم شيء كمعاودة المصلح لإصلاحه وإكمال بنائه، وليس عليه إلا أن يرقب كيف ستذوي زوابع باطلهم .

-       وختاماً فلست أنعى في مقالتي هذه من عادته تتبع عورات المؤمنين والافتراء عليهم -فلكل امرئ من دهره ما تعودا-، لكن جُمع ملامتي على بعض أهل الفضل ممن غرهم الهمّازون بزخرف القول، فأرخوا لهم آذانهم وأدنوا منهم رؤوسهم، ولقد بلوت هؤلاء ورأيت تقلبهم في الوعر والسهل ووقفت على عظيم تفريقهم لصفوف المؤمنين، وعدم تحريهم للورع في النقل، وشهدت من رواج باطلهم على بعض أهل الصلاح ممن صدقهم في دعاويهم، ولم يطالب بالبينات على ما قالوه، وهذا أول القصور في هيئة التلقي وأدب المتلقي، وهو ما لا يليق بأهل العلم والصلاح والتقوى، وربما رأيت بعضهم إذا دعي يلوي برأسه يأبى أن يتثبت أو أن يتحرى وهذا إثم على حياله، وربما زاد -فنغر الجرح- فأصبح ينقل ما سمعه مما لم يتثبته ، وأخذ يروي عن الهُمَزة همزهم وينقل عن أهل الباطل باطلهم و(إن الله لا يصلح عمل المفسدين) .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply