بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة في الفكر الإيراني في ظل الإسلام:
لما وطئت أقدام العرب الفاتحين أرض فارس بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الإيراني، لكن جنود سعد بن ابن أبي وقاص وأبناء الجزيرة الذين اجتازوا رمالها الشاسعة وأرغموا الجيش الفارسي بقيادة رستم في نهاوند على التسليم والذين أنهوا بسيوفهم الاستقلال السياسي للفرس، -وهم الشعب العريق- لم يضعوا قيدا يذكر على حرية الفكر لدى الإيرانيين الذين ولوا ظهورهم للعقيدة المجوسية وأقبلوا على الإسلام طائعين، دون أن يتخلوا تماما عن كل موروثاتهم الفكرية - وان تركوا الوجه الظاهر من ثقافتهم- بل دمجوها بالإسلام الوافد الجديد إلى حد كبير مما جعل الإسلام يأخذ – ببطء - لونا فارسيا فيما بعد، يتفق مع العادات الفكرية والرسوم والآداب الآرية.
وهذا يشبه عمل العقل الهلاني - الهليني - الواقعي في الغرب في تجربة مشابهة، على تأويل دين سماوي آخر -وهو المسيحية الوافدة إليه من أرض كنعان السامية. وكانت النتائج في الحالتين متشابهة على نحو مثير ولذا قال العلاّمة الدكتور محمد إقبال اللاهوري الشاعر الإسلامي العظيم \"أن الإسلام أصيب في إيران بما أصيبت به النصرانية في أوربا
لقد كان الهدف لدى العقلية المتلقية للدين الجديد في الحالتين أن تحاول عن طريق التأويل والفلسفة التخفيف من الصرامة البالغة للقانون الإلهي المطلق الذي فرض على المجتمع من الأعلى، وبعبارة أقصر كما يقول إقبال، هي محاولة لجعل ما هو خارجي مفروض يبدو كما لو كان ذاتيا نابعا من الداخل، وقد بدأت عملية التحول أو التحويل هذه مع شيوع دراسة الفكر الإغريقي في فارس
وقد عوّق هذا الأمر - مع عوامل أخرى- نمو فكر محلي خالص، لكنه على كل حال يعتبر انتقالاً من الاتجاه الموضوعي المجرد للفلسفة الإيرانية قبل الإسلام إلى الاتجاه الذاتي الذي عرف به الفلاسفة اللاحقون، ويبدو أن تحقيق هذه النقلة يرجع إلى الدور الذي لعبه الفكر الوافد، الذي هيأ الاتجاه القديم الواهن نحو التصوف وأن يتخذ طابعا أكثر روحانية، والميل القديم إلى التصوف الذي تبلور في نهاية القرن الثاني الهجري أخذ على عاتقه تقديم المزيد من الروحانيات.
ومن خلال هذا التطور الأخير قدر للثنوية الإيرانية القديمة - ثنوية النور والظلمة- أن تنتعش وتأخذ معنى روحياً جديداً. ولعل هذه الحقيقة المتمثلة في أن الفكر اليوناني قد أنهض العقلية الإيرانية الحاذقة نحو حياة جديدة، وأسهم في إثرائها حين استطاع المجرى العام للتطور الفكري في إيران أن يتمثل أخيرا هذا الفكر الوافد.
هذه الحقيقة تسمح لنا أن نعرج على مذهب بعض المفكرين الإيرانيين المتأثرين بالأفلاطونية الجديدة -خاصة شيخهم الشيخ الرئيس ابن سينا- الذين ما كانوا بسبب ذلك يستحقون إلا عناية ضئيلة في تاريخ الفكر الإيراني الخالص. على كل حال يجب أن نذكر أن الفلسفة اليونانية قد تطرقت الى الشرق الإسلامي خلال سوريا وحران. لقد تبنى السوريون آخر اتجاهات الفكر الإغريقي، أي الأفلاطونية الجديدة ونقلوه إلى العالم الإسلامي متوهمين أنه يمثل الفلسفة المشائية الحقيقية لأرسطو
ووصلت الفلسفة اليونانية بسبب جهل المترجمين وتحريفهم وعقائدهم الدينية وإدخالها في الترجمات إلى المسلمين مشوهة منسوخة جهلا من الناقلين أو قصداً، مع أن خلفاء المسلمين وحكامهم كانوا يدفعون إلى هؤلاء النقلة ثقل الكتب التي كانوا ينقلونها، ذهبا ِإبريزا، وكانوا، فوق ذلك كله يأتمنونهم على هذا التراث
ولقد كان فلاسفة المسلمين من طهارة النفس أنهم لم يشّكوا في هذا التزوير الذي أدخله الاسكندرانيون والنقلة من بعدهم على الفلسفة، فأخذوا يجهدون أنفسهم وعقولهم في سبيل التوفيق بين هذه المتناقضات والمحاولات التي لا تركب في عقل على حدّ قول د. عمر فرّوخ- وقضوا في ذلك قرنين ونصف قرن من الزمن وكأن ذلك كان جزاء من الله للذين طلبوا الهداية في غير كتاب الله وعولوا على الفكر اليوناني لأنه إذا ظهرت البدع -سواء الفكرية أو العملية- التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لهم
ومن المدهش أن الفلاسفة العرب كما الفرس استمروا في الجدل حول ما يعتقدون أنه التعاليم الفعلية لمعلهم أرسطو وأفلاطون ولم يخطر ببالهم أبدا أنه فهم شامل لهؤلاء الفلاسفة -المشركين - من الضروري معرفة اللغة اليونانية، ولقد احتاجوا إلى قرون عديدة -من جراء ذلك- حتى وصلوا إلى مفهوم واضح للفكر اليوناني المتمثل بأرسطو وأفلاطون.
ومن جانب آخر نعلم إن اصطلاح \"علم الكلام: قد أطلق على نظام خاص من الفكر، قام بين المسلمين قبل الترجمة وسابقا على وجود الفلسفة اليونانية وأسسها، وأصحاب هذا الفن كانوا يسمون \"متكلمين\" في مقابل نوع آخر من المفكرين الذين ابتدأوا بابن سينا والكندي والفارابي وعرفوا باسم \"الفلاسفة\"
فاصطلاح علم الكلام ظهر بين المسلمين حين ثار الجدال بينهم حول مسائل العقيدة لكن اشتدت هذه الخلافات بعد الترجمة ودخول الفلسفة، كأنها كانت زيتاً على نار. ولذا قال أئمة الإسلام أقوالهم المشهورة في الكلام. وبما أننا بصدد الكلام عن علم الكلام ورصد الفكر الإسلامي، لا بد أن نعرف -بادىء ذي بدء- أن هناك فارقا بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي. فالإسلام هو دين الله - تعالى - المنزل على خاتم الأونبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومصدره الكتاب والسنة، أما الفكر الإسلامي فهو العمل العقلي للمسلمين في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، ومن ثم فإن الإسلام لأنه يعتمد على وحي معصوم، لا اختلاف ولا تناقض فيها، أما الفكر الإسلامي فهو يمكن أن يقع فيه الاختلاف حسب اجتهادات المجتهدين ومستوياتهم الفكرية، وهذا إلى جانب العلم بأن الخلاف في العقيدة غير وارد، لأنها لا تدخل في دائرة الاجتهاد وتعتمد على الوحي المعصوم الوارد في الكتاب والسنة. إن الباحث في تطور الفكر الإسلامي، الذي يمثل العمل العقلي للمسلمين يجد أن هذا الفكر قد مر في مرحلتين: الأولى: مرحلة النقاء الأولى وكان همّ المسلمين الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشر الدين . الثانية: كانت في ظهور ما دار حول مسائل اعتقادية، انتزعها العقل الإنساني، من واقع مليء بالتساؤلات بعد ما شحن هذا الواقع الفاسد بالآراء اليونانية الفاسدة التي أفسدت النصرانية في الغرب من قبل. فعلم الكلام يعني بالإلهيات والنقاش في هذا العلم على منهج عقلي فلسفي هو الذي كون علم الكلام، وإذا كان الأمر -كما قلت- فإن الفرق بين الإسلام القائم على الكتاب والسنة وبين الفكر الإسلامي القائم على العمل العقلي للمسلمين - وما كان ينبغي ذلك- ينتهي إلى علاقة وطيدة الصلة، صنع هذه العلاقة، النقاش الذي دار حول العقائد الإيمانية.وكما نعلم لقد تأثر الكلام الإسلامي بالتيار العقلي اليوناني في نهجه العقلي وفي اتجاهه الاختراعي الإبداعي وكان علم الكلام بذلك فلسفة يرتطم بكل ما يعترض الفلسفة من عقبات بمقدار قربه من الفلسفة.
وقلنا من قبل إن ترجمة الفكر اليوناني وتزعم المسلمين لهذا الفكر الأرسطي والدفاع عنه قد أجج نار الخلاف بين المسلمين وبالتأكيد أن ابن سينا كان واحدا من أولئك الزعماء لهذا الفكر الدخيل وكان أكثر تمسكا بالأصل -التعاليم الفعلية لأرسطو وأفلاطون بعد الترجمة- من الفارابي وابن مسكويه وابن رشد، ولكن لا يمكننا اتهامهم بالتقليد الأعمى لأرسطو وأفلاطون -كما يقول إقبال وتاريخ فكرهم كان محاولة دائمة للخوض في ذلك الكم الهائل من العبثية الذي نتج عن إهمال مترجمي الفلسفة اليونانية وتحليلاتهم تدل على الجهد الاكتشافي وليس العرض والتحليل فحسب ويدل ذلك على ذهن بارع سجن وأغلق عليه من قبل كومة من العبثية البائسة(2) والتي استطاع الصبر أن يزيلها تدريجيا وهكذا استطاعوا غربلة الصدق وتمييزه عن الكذب.
بعد هذه الملاحظات التمهيدية -الطويلة نسبيا- سوف ندرس بعض تلامذة الفلسفة اليونانية الأوائل من الفرس الذين حولوا الفكر الإسلامي الأصيل -الإلهي وأغرقوها بالفكر اليوناني البشري وحرفوا الكلم عن مواضعه ومن ثم كانت النتيجة أن ظهر الفكر الإيراني القديم بمظهره الجديد وفي ثوب الفلسفة والكلام بدلا من العقيدة الإسلامية الصحيحة .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد