الخطاب الإسلامي بين الأصالة والانحراف


 
بسم الله الرحمن الرحيم

 هبت رياح عاتية بعد أحداث سبتمبر 2001م أتت على الخطاب الديني المقيَّد بأعنة الكتاب والسنة، ونادت عليه بالتغيير والتعديل والتبديل، وفي المقابل أفسحت المجال لخطاب بمواصفات معينة، فاغتنمها دعاته في إبراز مضامين فكرهم، وبذلك انتعش أمرهم وبقيت مراكزهم في منأى عن قوة هذه الهجمة الشرسة.

فالدعوة التي تتبنى الإسلام بمفهومه الشامل وتنابذ الجاهلية وتشد بيديها على هذا المفهوم ولا تحيد عنه نرى أن الأبواب أمامها تؤصد، وجميع تحركاتها تُرصد، ويمارَس ضدها كل الأساليب لمساومتها في التخلي عن بعض هذا المفهوم حتى يؤول الأمر في نهايته إلى الاستفزاز من الأرض، وتلك سنَّةٌ ماضيةٌ، وطريقة باقية، تواجهها الدعوة حين لا تغضي على ضيم الأعداء ولا تنعم عيناً مع وجود الباطل.

أما الدعوات التي تنتسب إلى الإسلام، وتتخلى عن المنهج الرباني والإرث النبوي الذي بنيت عليه الدعوة في خطابها، وتصدف عن مفهومه الصحيح، طلباً للسلامة حيث لا يصيبها العنت، نجد الأعداء يلوون في تفسير الدين عليها، ويسندون القياد إليها، ويفتحون أمام أربابها الأبواب، فلا عجب أن ترى أعلامها منشورة، وإبانة الإسلام عليها مقصورة، ذلك أنهم لما مالوا بعض الميل، وتحدثوا فطففوا في الكيل، طمعوا في خطابهم، وأمالوا برؤوسهم نحوهم، وخاصة أن الحاجة ماسة إلى الخطاب الديني بعد أن فرضت الصحوة المباركة نفسها في الواقع، وتراجعت الشعارات التي كانت سبباً في ضعف الأمة، وسقطت أوراق العلمانيين وغاب دورهم فلم يعد يعوَّل على رأي النخب منهم.

وحديثنا هنا يكون على محورين: أحدهما: بيان طبيعة خطاب المنهج النبوي المتمثلة في العبودية لله وحده، وإقامة نظام الله على الأرض وإزهاق ما علق بالنفوس من تصورات الجاهلية. وثانيهما: ذكر نماذج من الخطاب الديني الذي مد الأعداء له الحبال حين انحرف عن الجادة، ونأخذ منه ثلاثة: خطاب أهل التصوف، والإرجاء، والجبر.

 

الإسلام هو الاستسلام لله وحده:

لقد جاء الإسلام بالعدل الذي أُرسلت من أجله الرسل، وأُنزلت لبيانه الكتب، وهو النظام للحياة كلهاº حيث ينقل الناس من الوثنية التي ألفوها إلى النظام الإسلامي الذي يتميز بالشمولية والاتزان. قال - تعالى - : {لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ} [الحديد: 25] وذلك من خلال غرس العقيدة الإسلامية لتكون أساساً تنطلق منه الدعوة لتحقيق تغيير شامل للحياة واصطباغها بصبغة الحق تكون العبودية لله وحده، وتمحى بها كل تصورات الجاهلية التي سادت حيناً من الدهر وأدت إلى الانحراف عن الفطرة.

فالإسلام بهذا المفهوم (يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص لقوله - تعالى - : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ,} [الزمر: 29] فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قول (لا إله إلا الله) فمن استسلم لله ولغيره فهو مشركº والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال - تعالى - : {وَقَالَ رَبٌّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60])(1).

 

الحنفاء وقريش:

وقد أدرك (ورقة بن نوفل) طبيعة هذا الخطاب من أول وهلة، وأن الجاهلية لن تدعه يقوِّض خيامها لكونه يحمل منهجاً تغييرياً، فقـال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ـ حـين قص عليه ما حصل له في الغار ـ: «ما جاء رجل قَطٌّ بمثل ما جئت به إلا عودي»(2). صرح ورقة بهذه القالة مستشرفاً المستقبل المحفوف بالمخاطر، والإخراج من الأرض، مرجعاً نظرته إلى خلفية استقاها من أسفاره إلى أهل الكتاب، ودراسة أسفارهم، و (ورقة بن نوفل) هذا مع (زيد بن عمرو بن نفيل) يعدان من أبرز الباحثين عن الحق من قريش قبل الإسلام. قال الذهبي في السِيَر: (فأما ورقة فتنصر، واستحكم في النصرانية، وحصّـل الكتب، وعلم علماً كثيراً..ولم يكن فيهم ـ الحنفاءَ ـ أعدل شأناً من زيد اعتـزل الأوثـان، والمـلل إلا ديـن إبراهيم، يوحد الله - تعالى -  ولا يأكل ذبائح قومه)(3).وهؤلاء الحنفاء الذين فارقوا ما عليه قومهم من عبادة الأصنام، وأكل ما ذُبح عليها، ووأد البنات وغيرها من المنكرات لم يكونوا يحملون خطاباً عاماً لقومهمº ولذلك لم تشن قريش ـ بمجموعها ـ حرباً عليهمº إذ لا يشكلون تهديداً حقيقياً على المعتقداتº ومن ثَمَّ لم يتعرضوا للنفي إلا ما كان من شأن زيد مع عمه الخطاب (وكان عمه الخطّاب قد آذاه، فنزح عنه إلى أعلى مكة فنزل حراء، فوكَّل الخطّاب شباباً سفهاء لا يَدَعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سراً)(4).

 

العداء السافر لدعوة النبي:

أما دعوته - عليه الصلاة والسلام -  التي سفَّهت أحلامهم، وعابت أصنامهم، وجاءت بالعبودية لله وحدهº فقد رأت فيها قريش أنها تريد تغيير دينها، وموروثاتها السابقة التي شاخت عليها، وتسلبها نفوذها الذي يكسبها قداسة عند الناس من حولهم، وتذهب بسلطانها الذي يحقق لها مكاسب مادية، فلجأت إلى العداء السافر الذي أخذ أشكالاً مختلفة، منها حصار الشِّعب الذي دام ثلاث سنوات أرهق الفئة المسلمة أيما إرهاق، ومنها حرب نفسية تمثلت في رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - بألقاب منفرة كالقول بأنه شاعر أو كاهن أو مجنون لتنقض قريش غزلها الذي نسجته بالأمس في مدحه - عليه السلام -، ومنها الأذى الجسديº غير أن المسلمين لم يستكينوا لهذه الأساليب كلها، وكان زوال الجبال أهون عندهم من الحيدة عن المنهج قدر أنملة، ولسان حالهم لقريش هو لسان الشاعر في قوله:

فرُم بيديك هل تسطيع نقلاً جبالاً من تهامة راسياتِ؟!

 

المساومة في المنهج:

ولما رأت قريش أن قناة المسلمين قوية لا تلين لغامز، عاجت(5) على مكر أمضى تأثيراً مما سبق ذكره، هو الاعتراف بالإسلام مقابل التخلي عن بعض مقومات خطابه، واعترافه بالجاهلية أولاً، وقد حشدت لهذا كل طاقاتها، وأبدت لِيناً، وسعت في تحقيقه حتى كاد السعي أن ينجح لولا أن ثبت الله نبيه بثبات من عنده، فباءت هذه الجولة أيضاً بالفشل.

فعقد من بيده الحل والعقد من مشركي مكة مؤتمراً مهماً بدار الندوة قرر المجتمعون فيه قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو استفزازه من الأرض بكل ما يكمن وراء هذه اللفظة القرآنية من معان، وذكر القرآن هذا المسلك في قوله - تعالى - : {وَإن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إلَيكَ لِتَفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَولا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَّ تَركَنُ إلَيهِم شَيئًا قَلِيلاً * إذًا لأَذَقنَاكَ ضِعفَ الـحَيَاةِ وَضِعفَ الـمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينَا نَصِيرًا * وَإن كَادُوا لَيَستَفِزٌّونَكَ مِنَ الأَرضِ لِيُخرِجُوكَ مِنهَا وَإذًا لاَّ يَلبَثُونَ خِلافَكَ إلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنَا قَبلَكَ مِن رٌّسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحوِيلاً} [الإسراء:

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply