بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى، واشكروه على نعمه العظمى وآلائه التي تترى، اشكروه على إتمامكم عدّة الصيام، واذكروه وكبِّروه على ما حباكم من نعمة الإسلام، أخلصوا العبادة لله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، فهو وحدَه المستحقٌّ أن يعبَد وأن يُرجى ويقصَد، وأن يُستغاث ويستعان به، فهو - سبحانه - مالك الملك، وبيده النفع والضر، وغيرُه لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورا.
وإن من الشرك بالله قصدَ المقاماتِ والقبور لطلب نفعٍ, أو دفع ضر، يقول جل شأنه: "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبٌّكُم لَهُ المُلكُ وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ, إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَـامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِـكُم وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ," [فاطر: 13، 14].
أيها المسلمون، إن واقعَ الأمة الإسلامية اليوم واقعٌ مرير في كثير من أرجائها، فالأمة تعيش أوضاعاً محزنة ومآسيَ مؤلمة، يندى لها الجبين وتتفطر لها القلوب، في أماكن كثيرة من بلاد المسلمين، نهبٌ للأموال، وتدميرٌ للممتلكات، وإخراجٌ من الديار، وقصف وتهديد، وقتل وتشريد، اغتصابٌ للأرض، وهتك للعرض، عقودٌ من السنين وأرضُ الإسراء والمعراج تئنٌّ تحت ظِلال غاشم، تآمر على أرض الإسلام فاغتصبها، وعلى مقدَّسات المسلمين فدنَّسها، وعلى أبناء الإسلام فقتَّلهم وشرَّدهم، وفي مواقعَ أخرى جرائمُ مختلفة، ومآسٍ, متعددة، تُرتكب بحق المسلمين. كل ذلك يحدُث بمرأى ومسمعٍ, من أمة الإسلام ومن دعاة السلام وحقوق الإنسان، دون أن يكون هناك جهودٌ مؤثرة تحفظ الدماء، وتحمي الديار، وترفع الظلم، وتعيد الحقَّ إلى أهله. إن ذلك دون ريب تآمر على دين الله، وعلى أمة الإسلام، من أمم انفردت بالهيمنة والسيطرة، فطغت في الأرض، وفقدت ميزانَ العقل والمنطق، "يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفواهِهِم وَيَأبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَـافِرُونَ" [التوبة: 32].
إن الأمر يتطلب من أمة الإسلام أن تنظر في واقعها، وأن تعود إلى منهج الإسلام القويم، ليكون أساساً لإقامة العدل والوئام. وعلى قادة المسلمين أن يتَّحدوا في مواجهة المآمرة الكبرى، وأن يضعوا حداً لهذه التبعية التي نجدها اليوم قد هيمنت على كثير من مناحي الحياة. حريُّ بالقادة والعلماء أن يسعوا للعمل الجادِّ المثمر من منطلقات اقتصادية وسياسية، لإيجاد مزيد من التكامل والتآزر بين أوطان المسلمين.
إنَّ أمة الإسلام تملك من الثروات والمقدرات ما يمكن أن يضع لها وزناً في عالم اليوم، إلا أن ذلك يتطلب من قادة الدول الإسلامية أن لا يركِّزوا على أوطانهم فحسب، بل إن الأمر يقتضي إعطاءَ أهميةٍ, كبرى لمصلحة أمة الإسلام عامة، والحرصَ على الاستفادة مما منحه الباري - سبحانه - لكثير من الدول من إمكانيات بشرية وخبرات علمية وثروات متنوعة. فالتعاون بين بلاد الإسلام وتحقيق التكافل والتكامل أمرٌ يفرضه واقع اليوم، من أجل أن تتمكن أمة الإسلام من تحقيق السيادة والريادة، لتعيد مجدَها السالف في قرون خلت، وتكونَ قادرة على سدّ الظلم وردّ العدوان الواقع على أمة الإسلام اليوم في أماكن كثيرة من عالمنا الإسلامي، "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىُّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].
أيها المسلمون، إن من أبرز ما عانت منه الأمة عبرَ القرون ما وُجد من غلوٍّ, وتنطّع لدى بعض أتباع الأنبياء والمرسلين على مدى الأزمان والأديان، ولا يزال الغلو والتنطع موجوداً في كثير من الأمم والشعوب في عالم اليوم، وقد جاء التحذير الإلهي لأهل الكتاب من التنطّع والغلوّ في قوله - عز وجل -: "قُل يا أهل الكِتَـابِ لاَ تَغلُوا فِى دِينِكُم غَيرَ الحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهوَاء قَومٍ, قَد ضَلٌّوا مِن قَبلُ وَأَضَلٌّوا كَثِيراً وَضَلٌّوا عَن سَوَاء السَّبِيلِ" [المائدة: 77]، وهذا أبرز أسباب الانحراف عن الطريق السليم والمنهج القويم.
وحين بعث الله - سبحانه - نبيَّه محمداً عليه أفضل الصلاة والتسليم خاتِماً به الرسالات جاء التأكيد الإلهي على منهج الوسطية في الدين، بعيداً عن الإفراط والتفريط، يقول - سبحانه -: "وَكَذالِكَ جَعَلنَـاكُم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا" [البقرة: 143]. فحريُّ بالأمة أن تحقِّق ذلك، وأن تبتعدَ عن الغلو والتنطع، وتعمل على تحقيق الإيمان بالله، وتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتحقَّق هذه الخيريَّة الحقّة، "كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
إن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر يا عباد الله من أعظم الواجباتِ التي أمر بها الإسلامُ حمايةً للدين والأخلاق، ودرءاً للفساد على العباد والبلاد، فعلى المسلم أن يقوم به وفق شرع الله وهدي نبيه حيث يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[1]. فالتغيير باليد لولي الأمر أو من يكلّفه بذلك، والتغيير باللسان للعالم المؤهَّلِ بعلمه وحكمته، والتغيير بالقلب لمن ليس له ذلك. فالمسلم مأمور بإنكار المنكر وتغييره في حدود قدرته واستطاعته، دون تقصير وإخلال أو زيادة وتعدي.
وإن من التعدي في إنكار المنكر ما قد يصل إلى حدّ البحثِ عن العورات وتتبّع الزلات والتجسّس، فإن ذلك مما نهى عنه الإسلام، وحذَّر منه، فالتزموا الحكمة واللين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك أدعى للقبول. وحريّ بالمجتمع والأفراد أن يستجيبوا لما أُمروا به أو نهوا عنه تحقيقاً لقوله - سبحانه وتعالى-: "يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرء وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ" [الأنفال: 24].
إن مما يؤسف له اليوم يا عباد الله أن نرى كثيرين من المتسمين بالإسلام لا يعيشون واقعاً عملياً، يفرِّطون في أركان الإسلام، ويهملون شرائعَ الدين، يقعون في كثير من المحظوران، فيأكلون أموال الناس بالباطل، ويميلون في حياتهم إلى اللهو وارتكاب المآثم، ويستجيبون لداعي النفس الأمارة بالسوء، ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا الوقوع في ما يبعدكم عن حقيقة دينكم، ويوردكم في حمأة المآثم والمعاصي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وَأَنِـيبُوا إِلَى رَبّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُـوا أَحسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مّن رَّبّكُـم مّن قَبلِ أَن يَأتِيَكُـمُ العَذَابُ بَغتَةً وَأَنتُم لاَ تَشعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفسٌ ياحَسرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ" [الزمر: 54-56].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (49) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وفَّق من شاء للرضا والقناعة، وهداهم لسلوك سبيل أهل البر والطاعة، وحماهم عن طريق أهل التفريط والإضاعة، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة، ونصح الأمة، وقام بأمر الرسالة خير قيام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله ربَّكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، إن من كمال هذا الدين وشمولية أحكامه وتشريعاته أنه ليس دينَ عبادة يؤديها العبد لله - سبحانه - فحسب، بل هو إلى جانب ذلك دينُ أخلاق كريمة، ومثل عالية ومعاملات مع الناس حسنة، فعلى المسلم أن يكونَ محققاً لإيمانه بربه، مخلصاً له - سبحانه وتعالى- في طاعته، ملتزماً بأوامره، متجنباً نواهيَه.
عباد الله، حسِّنوا أخلاقَكم مع أهليكم وإخوانكم وجيرانكم، تخلَّقوا بأخلاق القرآن، وتأدَّبوا بآداب سيِّد الأنام، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً))[1]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء))[2].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن يومكم هذا يومُ بشر وسرور وحبور، فأظهروا البهجة والسرور أمام أهليكم وإخوانكم المسلمين.
أيها المسلمون، لقد ابتُلى مجتمع الإسلام اليومَ بكثير مما تبثٌّه أجهزة الإعلام عبر وسائلها المختلفة من تزيينٍ, للباطل، ومحاربةٍ, للفضيلة، وبثّ للفرقة، ونقلٍ, لكثير من الآراء المخالفة لمنهج الشرع الحنيف، وقد انشغل بها كثيرون عن ذكر الله وإقام الصلاة، وهذا مؤذن بخطر عظيم على الأفراد والمجتمعات، ألا فليتق الله مسئولو الإعلام، وأن يتجنَّبوا التبعية لأعداء الإسلام، وأن لا يقدموا للأمة إلا ما يتفق مع تعاليم ديننا الحنيف، فإنكم محاسبون، وغداً بين يدي الله موقوفون. واحرصوا ـ رحمكم الله ـ على مراقبة النشء وتربيته على منهج الإسلام، والبعد به عن كل ما يتنافى مع تعاليم الدين. تلكم مسؤولية الآباء والأمهات، ورجال التربية والتعليم، فكلكم راعٍ,، وكلكم مسئول عن رعيته.
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله، وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك، وما استرعاك الله عليه، احفظي كرامتَك بالتزام الحشمة والوقار والبعد عن مزاحمة الرجال، مُري أبناءَك بالصلاة وعوِّديهم على الطاعات ومكارم الأخلاق.
عباد الله، إن من شكر الله - تعالى - على إتمام هذا الشهر العظيم المداومةَ على الطاعة، ومواصلةَ الإحسان بالإحسان، وإن مما ندب إليه صيامَ ستٍّ, من شوال حيث يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر))[3]. فاغتنموا ـ رحمكم الله ـ مواسم الخيرات، وتعرَّضوا لنفحات ربكم في جميع الأوقات.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبيِّ الهدى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك المولى - جل وعلا -: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النبي يا أيها الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً" [الأحزاب: 56].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] أخرجه الترمذي في الأدب (2018) من حديث جابر - رضي الله عنهما -، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أخرجه أحمد (2/185)، والبخاري في الأدب المفرد (272)، البيهقي في الشعب (7986)، وصححه ابن حبان (485ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "إسناده جيد"، وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه عند أحمد (4/193)، والطبراني في الكبير (22/221)، وصححه ابن حبان (482ـ الإحسان ـ)، وقال الهيثمي في المجمع (8/21): "رجال أحمد رجال الصحيح"، والأحاديث الثلاثة كلها في صحيح الترغيب (2897، 2650، 2662).
[2] أخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب (4799)، والترمذي في كتاب البر والصلة (2002) من حديث أبي الدر داء رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (481 ـ الإحسان ـ)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد