أهم الأحداث التي وقعت بين غزوتي بدر وأحد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في أعقاب غزوة بدر أخذت الهيبة العسكرية للمسلمين مداها الكبير في دائرة واسعة في الجزيرة العربية، وأحس ضعفاء المشركين بالخطر وشعر أقوياؤهم بغلبة الإسلام، وبدأت النفوس تتطلع إلى الإيمانº فتوسعت دائرة الدخول في الإسلام، ورأى الكثيرون أن يدخلوا في الإسلام نفاقًا أو خديعة، وبهذا كله أصبحت الدولة الجديدة أمام أوضاع جديدة من المكر والتآلب والتحالفات، ولكن تأييد الله - تعالى -ثم جهاز أمن الدولة المتيقظ أفشل مخططات أعداء الإسلام(1).

 

أولاً:الغزوات التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر وقبل أحد:

1- ماء الكدر في بني سليم: غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سبع ليالٍ, من عودته إلى المدينة من غزوة بدر، وبلغ ماء الكدر في ديار بني سليم الذين قصدهم بغزوته هذه، غير أنه لم يلق حربًا فأقام ثلاث ليالٍ, على الماء ثم رجع إلى المدينة(2). كان سبب تلك الغزوة تجمع أفراد بني سليم لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم بعد معركة بدر مباشرة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجأهم بهجوم سريع غير متوقع، فهرب بنو سليم وتفرقوا على رؤوس الجبال، وبقيت إبلهم مع راعٍ, لها يدعى يسارًا، فاستاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإبل مع راعيها، وعند موضع صرار، على ثلاثة أميال من المدينة، قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإبل التي كان عددها خمسمائة بعير على أصحابه، فأصاب الواحد منهم بعيرين، ونال النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسها، وكان يسار من نصيبه، ولكنه أعتقه بعد ذلك(3).

 

2- غزوة السويق: قدم أبو سفيان بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير ليلا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وأسقاهم وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين، ثم قام أبو سفيان بمهاجمة ناحية العُريض -وادٍ, بالمدينة في طرف حرة واقم- فقتل رجلين وأحرق نخلاً وفر عائدًا إلى مكة، فتعقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، ولكنه لم يتمكن من إدراكهمº لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم ويلقون السويق(4) التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربا(5).

 

3- غزوة ذي أمر: جاءت الأخبار من قِبَل رجال الاستخبارات الإسلامية تفيد بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإغارة على المدينة، فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلا بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة، كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد دخل في الإسلام وانضم إلى بلال ليتفقه في الدين(6)، أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب ما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة(7). وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله بسيفه، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: «الله»، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من يمنعك مني» قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، ما لك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام(8)، ونزل في ذلك قول الله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ)[المائدة: 11].

 

4- غزوة بحران(9): كانت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم، فوجدهم قد تفرقوا، فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ,(10). ونلحظ في هذه الغزوات قدرة القيادة الإسلامية على رصد تحركات العدو، ومعرفة قوته، وخططه، ومدده لكي تحطم هذه التجمعات المناوئة للدولة الإسلامية الفتية قبل أن يستفحل أمر هذه القبائل، وتصبح خطرًا على المدينة.

 

وهذه الغزوات في هذه الصحراء المترامية الأطراف كانت دورات تدريبية تربوية للصحابة الكرام، وسعدت سرايا الصحابة بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، فقد كانت تلك الدورات العملية التدريبية القتالية التربوية مستمرة، وتمتد من خمسة أيام إلى شهر، تتم فيها الحياة الجماعية، ويتربى جنود الإسلام على السمع والطاعة، والتدريب المتقن، ويكتسبون خبرات جديدة تساعدهم على تحطيم الباطل وتقوية الحق.

 

لقد كان المنهاج النبوي الكريم يهتم بتربية الصحابة في ميادين النزال، ولا يغفل عن المسجد ودوره في صقل النفوس، وتنوير العقول، وتهذيب الأخلاق من خلال وجود المربي العظيم - صلى الله عليه وسلم - الذي أصبحت تعاليمه تشع في أوساط المجتمع من خلال القدوة والعبادة الخاشعة لله - عز وجل -، فالمنهاج النبوي الكريم جمع بين الدورات المسجدية، التربوية، والدورات العسكرية التربوية المكثفة لكي يقوي المجتمع الجديد، وترص صفوفه، ويكسب الخبرات لكي تقوم بنشر الإسلام في الآفاق(11).

 

5 - سرية زيد بن حارثة إلى القُردة: أصبح مشركو مكة بعد هزيمتهم في بدر يبحثون عن طريق أخرى لتجارتهم للشام، فأشار بعضهم إلى طريق نجد العراق، وقد سلكوها بالفعل، وخرج منهم تجار، فيهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومعهم فضة وبضائع كثيرة، بما قيمته مائة ألف درهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أحد أفراد جهاز الأمن الإسلامي يدعى سليط بن النعمان - رضي الله عنه -(12)، فبعث - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة في مائة راكب لاعتراض القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له القردة، وهو ماء من مياه نجد، ففر رجالها مذعورين، وأصاب المسلمون العير وما عليها، وأسروا دليلها فرات بن حيان الذي أسلم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعادوا إلى المدينة، فخمسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووزع الباقي بين أفراد السرية(13).

 

ثانيًا: غزوة بني قينقاع:

ذكر الزهري أنها وقعت في السنة الثانية للهجرة، وذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية(14)، واتفق معظم من كتب في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته على أنها وقعت بعد معركة بدر، إذ لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي أبرمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين(15)، وقد جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشًا في بدر(16)، غير أنهم واجهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم: «يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًُا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا(17). وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم ما يشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحًا عدائيًا، وتحديًا واستعلاء واستعدادًا للقتال، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - فيهم قوله - تعالى -: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغلَبُونَ وَتُحشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئسَ المِهَادُ ` قَد كَانَ لَكُم آيَةٌ فِي فِئَتَينِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخرَى كَافِرَةٌ يَرَونَهُم مِّثلَيهِم رَأيَ العَينِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولِي الأبصَارِ) [آل عمران: 12، 13].

 

1- الأسباب المباشرة للغزو: لما انتصر المسلمون في بدر وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود ما قال، أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين، حتى جاءتهم فرصتهم الحقيرة الدنيئة عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع(18).

فحين علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة(19)، وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، واستخلف - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمري(20)، واسمه بشير(21)، وحين سار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبذ إليهم العهد كما أمره الله - تعالى -في قوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَومٍ, خِيَانَةً فَانبِذ إِلَيهِم عَلَى سَوَاءٍ, إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبٌّ الخَائِنِينَ) [الأنفال: 58].

 

2- ضرب الحصار عليهم: وحين علم اليهود بمقدمه - صلى الله عليه وسلم - تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة، كما ذكر ابن هشام(22)، واستمر الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه - صلى الله عليه وسلم -، فقد فاجأهم - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب الحصار، فأربكهم وأوقعهم في حيرة من أمرهم بعد أن قطع عنهم كل مدد وجمد حركتهم، فعاشوا في سجن مما جعلهم في النهاية ييأسون من المقاومة والصبر، فبعد أن كانوا يهددون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأنهم قوم يختلفون بأسًا وشدة عن مشركي قريش، إذا بهم يضطرون للنزول على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(23)، فأمر بهم فربطوا فكانوا يكتفون أكتافًا، واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي الأوسي(24).

 

3- مصير يهود بني قينقاع: حاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحل حلفاءه من وثاقهم، فعندما مر عليهم قال: حلوهم، فقال المنذر: أتحلون قومًا ربطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لا يحلهم رجل إلا ضربت عنقه(25)، فاضطر عبد الله بن أبي ابن سلول أن يتراجع عن أمره ويلجأ إلى استصدار الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بفك أسرهم(26). فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا محمد: أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه، فأدخل ابن أبي يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلني»، وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللاً(27)، ثم قال: «ويحك أرسلني» قال: لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثة مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هم لك»(28). فخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهم ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ما كان لديهم من مال، وقد تولى جمع أموالهم وإحصاءها محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -(29)، وحاول ابن أبي ابن سلول أن يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يهود بني قينقاع لكي يقرهم في ديارهم، فوجد على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي، فرده عويم، وقال: لا تدخل حتى يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك، فدفعه ابن أبي، فغلظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أبي الجدار فسال الدم(30).

ويظهر في هذا الخبر فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - السياسي في تعامله مع ابن سلول حيث لبى طلبه، فلعل هذا الموقف يغسل قلبه، ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته، فقال له: هم لك، ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه فيتماسك الصف، ويلتحم فلا يتأثر من كيد أعداء الإسلام(31).

 

وهناك بُعد آخر حيث حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يتفادى حدوث فتنة في مجتمع المؤمنين، حيث إن بعض الأنصار حديثو عهد بالإسلام، ويخشى أن يؤثر فيهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي لسمعته الكبيرة فيهم(32)، ولذلك سلك - صلى الله عليه وسلم - معه أسلوب المداراة والصبر عليه وعلى إساءته تجنبا للفتنة وإظهارًا لحقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه عند من يجهلها، ومن ثم يفر الناس من حوله ولا يتعاطفون معه، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فقد ظهرت حقيقة ابن سلول لجميع الناس حتى أقرب الناس إليه ومنهم ولده عبد الله، فكانوا بعدها إذا تكلم أسكتوه، وتضايقوا من كلامه(33)، بل أرادوا قتله كما سيأتي بإذن الله - تعالى -.

 

4- تبرؤ عبادة بن الصامت منهم: لما نقضت العهد بنو قينقاع وكان عبادة بن الصامت أحد بني عوف -لهم من حلف بني قينقاع مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي- مشى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلعهم إليه، وتبرأ إلى الله - عز وجل - وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم(34). ولما تقرر جلاء بني قينقاع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة بن الصامت أن يجليهم، فجعلت بنو قينقاع تقول: يا أبا الوليد من بين الأوس والخزرج -ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لما حاربتم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم، وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف، فقال عبد الله بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذا بيدهم عندك، فذكره مواطن قد أبلوا فيها، فقال عبادة: يا أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمعصم بأمر سنرى غيَّه غدًا، فقالت بنو قينقاع: يا محمد، إن لنا دينًا في الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعجلوا وضعوا» وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس، فقال لهم: ولا ساعة من نهار، لكم ثلاث لا أزيد عليها، هذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كنت أنا ما نفستكم، فلما مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام وهو يقول: الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وبلغ خلف الذباب ثم رجع ولحقوا بأذرعات(35).

 

وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين قد ألقوا سلاحهم وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأسًا، وأكثرهم عددًا وعدةº ولذلك لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن بعد هذا العقاب الرادع، وسيطر الرعب على قلوبهم وخضدت شوكتها(36).

 

5- الآيات التي نزلت في موالاة ابن سلول لليهود وبراءة عبادة بن الصامت منهم: قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ ` فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتِيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ, مِّن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرٌّوا فِي أَنفُسِهِم نَادِمِينَ ` وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقسَمُوا بِاللهِ جَهدَ أَيمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبِطَت أَعمَالُهُم فَأَصبَحُوا خَاسِرِينَ ` يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ, ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ` إِنَّمَا وَلِيٌّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ ` وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ) [المائدة: 51-56]. قال ابن عطية في هذه الآيات: لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلهم، فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفًا لهم، وكان عبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما سلكته اليهود من المشاقة لله ورسوله، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم، ولا أوالي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم، إني رجل أخاف الدوائر(37).

 

إن الفرق واضح بين ابن سلول الذي انغمس في النفاق، ومرد عليه، وبين عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي تربى على المنهاج النبوي فصفت نفسه، وتطهر قلبه، وقوي إيمانه، وتنور عقله، فتخلص من آثار العصبية الجاهلية، والأهواء، والمصالح الذاتية، وقدم مصلحة الإسلام على كل مصلحة، فكان مثلاً حيًا للمسلم الصادق، المخلص لعقيدته(38).

 

ثالثًا: تصفية المحرضين على الدولة الإسلامية، مقتل كعب بن الأشرف:

إن خطر المحرضين على الفتنة لا يقل عن خطر الذين يشهرون السيوف لقتال المسلمين، إذ لولا هؤلاء المحرضون لما قامت الفتنة، لذلك أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع هؤلاء المحرضين ويقتلهم إطفاء لنار الفتنة، وتمكينًا للحق، وقد قتل منهم خلقًا بعد موقعة بدر(39) منهم:

 

أ- عصماء بنت مروان التي كانت تحرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعيب الإسلام، فقد أقدم عمير بن عدي الخطمي - رضي الله عنه - على قتلها، وحين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عما إذا كان عليه شيء؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نصرت الله ورسوله يا عمير»(40)، ثم قال: «لا ينتطح فيها عنزان»(41) وقد أسلم نتيجة ذلك عدد من بني خطمة وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي(42).

 

ب- مقتل أبي عفك اليهودي: كان أبو عفك شيخًا كبيرًا من بني عمرو بن عوف وكان يهوديًا، يحرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول الشعر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لي بهذا الخبيث؟ » فخرج له الصحابي سالم بن عمير فقتله(43).

 

وأهم حدث في تصفية المحرضين على الدولة ما بين بدر وأحد هو مقتل كعب بن الأشرف.

ج- مقتل كعب بن الأشرف: ينتسب كعب بن الأشرف إلى بني نبهان من قبيلة طئ، كان أبوه قد أصاب دمًا في الجاهلية، فقدم المدينة وحالف يهود بني النضير، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعب(44)، وكان شاعرًا، ناصب الإسلام، وقد غاظه انتصار المسلمين على قريش في معركة بدر، فسافر إلى مكة يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض قريش على الثأر لقتلاهم الذين كان ينوح عليهم ويبكيهم في شعره، ويدعو إلى القضاء على الرسول والمسلمين(45)، ومما قاله من الشعر في قتلى بدر من المشركين:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله*** ولمثل بدر تستهل وتدمع

 قُتلت سراة الناس حول حياضهم *** لا تبعدوا إن الملوك تصرع

كم قد أصيب بها من أبيض ماجد *** ذي بهجة تأوي إليه الضيع

ويقول أقوم أقوام أذل(46) بسخطهم *** إن ابن الأشرف ظل كعبًا يجزع

صدقوا، فليت الأرض ساعة قتلوا *** خشعوا لقول أبي الوليد وجدّعوا(47)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply