بسم الله الرحمن الرحيم
هو الشيخ المربي الأثري (عبد الله بن حسن بن محمد بن قعود)، وُلد- رحمه الله - سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في بلدة (الحريق) جنوب الرياض، نشأ وترعرع في بيئة صالحة لا تعرف شيئاً من أسباب الانحراف، فنشأ صالحاً تقياً، وتعلّم القرآن في كُتّاب القرية عند الشيخ (محمد بن سعد آل سليمان)، ثم تدرج في مدارج طلب العلم، فالتحق بحلقة قاضي البلد الشيخ (عبد العزيز بن إبراهيم آل عبد اللطيف)، فحفظ بعض مختصرات شيخ الإسلام (ابن تيمية) والإمام (محمد بن عبد الوهاب) - رحمهما الله -.
وكانت نفس هذا الشاب توّاقة للمعالي، وكانت أخبار (ابن باز) تطير في الآفاق ـ آنذاك ـ، فهو (الشيخ) إذا أُطلق في تلك الأماكن من جنوب الرياض، فتاقت نفس الشاب (عبد الله ابن قعود) للّحوق بركب ذاك العلاّمة الذي يؤمّه طلاب العلم من العراق، وفلسطين، وجنوب الجزيرة، ونجد من باب أولى، فانضمّ لكوكبة الطلاب في (الدلم) في شهر صفر سنة 1367هـ، ووجد في (ابن باز) بغيته، فقد كان العالم المتفنّن، صاحب السماحة والكرم، القاضي الفاضل العادل، الوجيه، الداعي إلى الخير، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل هو الشخصية التي جمعت من الخصال ما لم يجتمع إلا في القلائل من العلماء، هذه الخصال أثرت في شيخنا- رحمه الله - تأثيراً واضحاً، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وفي أثناء وجوده في (الدلم) عند شيخه التقى بعدد من طلاب العلم، ممن وفدوا على الشيخ (ابن باز)، فانتفع بهذا المزيج من أبناء العالم الإسلامي، فأفادهم وأفادوه، وقرأ على بعضهم ما لم يدرّس في نجد من العلوم، فقد حدثني- رحمه الله - أنه أخذ علم العروض في (الدلم) على يد الشيخ (صالح ابن حسين العراقي)، والتقى بعدد من الطلاب الأدباء عند الشيخ- رحمه الله - فاستفاد منهم بلا شك، منهم الشيخ (راشد بن صالح بن خنين) ختم الله له بالصالحات، فقد كان له ردّ على (القصيمي) صاحب (الأغلال)، وكان هذا الردّ نَظماً، وقد أثنى عليه شيـخه (ابن باز) - رحمه الله -، وممــن ردّ علـيه نَظماً ـ أيضاً ـ الشيخ (صالح العراقي) المذكور آنفاً.
ومما حدثني به شيخنا- رحمه الله - أن من أسباب اتجاه الشيخ (ابن باز)- رحمه الله - للحديث وقد كان فقيهاً على طريقة مشايخه أن الطلاب الوافدين من خارج المملكة كانوا يكثرون على الشيخ في دروس الفقه من السؤال عن الدليل للمسألة، ولم يكن الشيخ يعتني بذلك، فكان بعد ذلك يحضّر للدرس بالمطالعة في كتب الحديث استعداداً للدرس، فاتجه للحديث، وهذا من فضائل الطلاب على شيوخهم.
انتفع شيخنا ـ أيضاً ـ بالحياة التربوية التي عاشها إبان وجوده في (الدلم)، فقد كان (ابن باز)- رحمه الله - عالماً مربياً لتلاميذه، يخرج بهم في رحلات تربوية يمازحهم، ويلقي عليهم المسائل بطريقة المسابقات، حسن المعشر لهم، حلو المفاكهة.
في هذا الجو العلمي الأدبي التربوي، تكوّنت شخصية (ابن قعود)، ولذا كان يكرر في دروسه ويقول: أنا أفتخر بتتلمذي على (ابن باز). وهذا من شيخنا- رحمه الله - بلا شك من التحدّث بنعمة الله، ومن معرفة الفضل لأهله.
مكث شيخنا- رحمه الله - أربع سنوات عند شيخه الكبير، حفظ فيها متون العلم، كـ: (زاد المستقنع)، و (بلوغ المرام)، الكتابان اللذان مَن حفظهما صار من أهل العلم المتأهلين للقضاء والفتوى. وكان- رحمه الله - يروي لنا أن زميله الشيخ (راشد ابن خنين) كان يقول: حفظُ الـزاد والـبلـوغ كافيان في النبوغ وحفــظ أيـضـاً (العقـيدة الواسطـيـة) و (كتـاب التـوحيـد) و (الآجرومية) و (نخبة الفكر) وكثيراً من (ألفية ابن مالك) في النحو وغير ذلك من المتون التي كانت تدرس في ذلك الزمان.
وبعد أن فتحت المعاهد العلمية في الرياض وغيرها، التحق الشيخ- رحمه الله - بالمعهد العلمي بالرياض، في مطلع سنة 1371هـ، ثم التحق بـكلية الشريعة سنة 1377هـ، والتقى وتتلمذ في الرياض على علماء أجلاء، منهم (محمد الأمين الشنقيطي) صاحب (أضواء البيان)، والشيخ (عبد الرحمن الأفريقي)، والشيخ (عبد الرزاق عفيفي)، والشيخ (عبد العزيز ابن محمد الشثري ـ أبو حبيب). وبعد حج 1370هـ درس علم التجويد فـي مكـة المـكرمة على الشيخ (سعد وقاص البخاري) - رحمه الله -. وكان الشيخ ابن باز- رحمه الله - ممن درس على هذا الشيخ أيضاً.
وقفات من حياة الشيخ - رحمه الله -:
لعلّي أسرد شيئاً من الوقفات في حياة الشيخº ليتعرف القارئ الكريم على شيء من شخصية الشيخ، وأعتذر عن ترتيبها حسب الأهمية:
1 ـ الشيخ- رحمه الله - متجرد للحق لا يبالي بمن خالف الدليل كائناً من كان، وهذا من آثار تتلمذه على الشيخ (ابن باز) رحم الله الجميع، ولهذا خالف علماء الوقت في عدد من المسائل، ومنهم شيخه وأعضاء هيئة كبار العلماء، ومما أذكره من المسائل: «مسألة الحد في الخمر، فهو يرى أن حدَّ الخمر أربعين، مخالفاً مجلس هيئة كبار العلماء، ويرى عدم جواز رمي الجمار بالليل خلافاً لعلماء الوقت، ويرى أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر لا إلى نصف الليل، ويرى عدم مشروعية دعاء ختم القرآن المعمول به في كثير من المساجد، ويرى جواز جمع العصر إلى الجمعة، ويرى عدم مشروعية تحديد المهور، ويرى وقوع طلاق الحائض.
2 ـ الشيخ- رحمه الله - يعتني بتحرير المسائل العلمية، ويدرسها دراسة عميقة ويخرج برأي واضح فيها، ولذا لا تكاد تجد لديه تغيّراً في آرائه العلمية، وكان كثيراً ما يقول لنا في أثناء الدروس: «هذا الرأي كوّنته لنفسي منذ خمس وثلاثين سنة»، وأحياناً في بعضها يقول: «منذ أربعين سنة»، وكان يقول: «أنا أقول للإخوان في المجلس ـ يعني: مجلس هيئة كبار العلماء ـ: كيف تحتاجون بحث هذه المسألة؟ المفروض أن الإنسان قد كوّن له رأياً فيها من قبل».
3 ـ الشيخ- رحمه الله - موضع ثقة عند شيخه (ابن باز) - رحمه الله -، فقد كان يكلفه بمهمات خاصة، منها ما ذكره الدكتور (سعد بن مطر العتيبي) ـ وفَّقه الله ـ في مقال له: أن الشيخ (ابن باز) أرسله ـ أي: ابن قعود ـ بخطاب إلى الرئيس الباكستاني (ضياء الحق) يطلب منه الشفاعة لدى الرئيس التركي (كنعان إيفرين) ليفرج عن البرفيسور (نجم الدين أربكان)، فذهب الشيخ بالخطاب وسلّمه لـ (ضياء الحق) - رحمه الله -.
وأضيف إلى ذلك ما حدثني به الشيخ- رحمه الله - أن ضياء الحق- رحمه الله - لما أراد تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاده أعدَّ نظـاماً للحدود الشرعية، ثم بعثه للشيخ (ابن باز)- رحمه الله - لمراجعته، وبعد تعديله ومراجعته أرسله (ابن باز) مع شيخنا (ابن قعود) - رحمه الله -، وسلّمه لـ (ضياء الحق)- رحمه الله - بيده.
وأرسله الشيخ ـ أيضاً ـ هو والشيخ (صالح بن سعود العلي) والشيخ (صالح المزروع) لقادة الجهاد الأفغانيº لجمع كلمتهم على إثر خلاف بينهم.
وذكر الدكتور (سعد العتيبي) أن الشيخ (ابن باز)- رحمه الله - بعث شيخنا إلى رجل مدّعٍ, للنبوة في أمريكا لمناظرته.
4 ـ الشيخ- رحمه الله - كما حدثني بنفسه فقال: أنا أول من غيّر أسلوب الخطابة في الرياض. قلت: كان الخطباء في عموم نجد حتى العلماء منهم يقرؤون الخطبة من ديوان (خُطب المخضوب) وهي خُطب معدّة على مدار العام بأسلوب مسجوع. فنقل الشيخ- رحمه الله - الخطبة من ذاك الأسلوب القديم إلى أسلوب جديد أدبي مشحون بالأدلة من الكتاب والسٌّنّة، يعالج فيه القضايا العصرية، منطلقاً من توحيد الله وتعظيمه، ملامساً حاجات الناس، ولذا كان الناس يقصدونه من أنحاء مدينة الرياض حتى العلماء، بل حتى الملك فيصل- رحمه الله - كان يصلي معه في جامع الملك عبد العزيز- رحمه الله - بالمربّع، وكانت خطبه مرتجلة يستدل فيها كثيراً بالنصوص الشرعية، وربما ذكر فيها أبياتاً أدبية، كثير الخشوع والبكاء، وسئل عن ذلك فأجاب: إنه لا يملك نفسه.
وله- رحمه الله - منهج فريد في اختيار الخطبة، فقد سمعته مرةً يقول: إن بعض الإخوان يقول لي: ما هذه الموضوعات التي تطرقها في الخطبة؟ من أين لك عناوينها؟ فقلت له: في أثناء قراءتي للقرآن تسنح لي موضوعات من الآيات، فأربط الآيات بعضها مع بعض فيتكون لدي موضوع مفيد (معنى كلامه - رحمه الله -)، ولهـذا فـإن الشيخ- رحمه الله - هو مجدد في هذه البلاد فيما يتعلق بخطبة الجمعة.
5 ـ الشيخ- رحمه الله - كان له منهج في التعامل مع الفتن، فكان يوصي طلابه في أزمنة الفتن بقوله: اسمع أكثر مما تتكلم، وإذا خاض الناس في الأشخاص الذين يذكر عنهم سوء عمل أو معتقد أو نحو ذلك فإن الشيخ- رحمه الله - يكلهم إلى خالقهم، فكان يقول: الله - تعالى - هو الذي يعلم المفسد من المصلح (اقتباساً من القرآن الكريم)، ولذا كان يقول في دعائه في الخطبة أيام الهرج والمرج والاختلاف: اللهم إنك تعلم المفسد من المصلح اللهم فـ...فـلا يعين أحداً بدعاء أو قدح.ولعلك ـ أخي القارئ الكريم ـ تستفيد من رسالته- رحمه الله - المسمّاة (الفتن المعاصرة وموقف المسلم منها).
6 ـ الشيخ- رحمه الله - كان لا يقبل أعطيات السلطان، مع أنني لم أسمعه يحرمها، لكنه كان يقول: ما حاله ـ أي: الآخذ ـ قبل العطية وبعدها؟ كأنه يقول: إن الأعطية لا بدّ أن تؤثر في الآخذ لا محالة.
7 ـ الشيخ- رحمه الله - صاحب سماحة وكرم في الأخلاق لا يعرف له نظير فيما أعلم، يعرف دقائق ذلك مَن أكثرَ الجلوس معه، حتى إنه يصوّب ويوجه كلام السائل والمتكلم إذا أخطأº حتى لا يقع في إحراج، وتواضعه- رحمه الله - يعرفه كل أحد، فلا يردّ السائل المسترشد أيّاً كان، وربما جلس مع بعض الشباب الصغار وقتاً طويلاً لحل مشكلته، من غير ضجر ولا تذمّر، أما استقباله للزائرين عند الباب وخروجه معهم إلى الباب فكلٌّ الناس يعلم ذلك ويدركه، سواءً كان الزائر صغيراً أو كبيراً عالماً أو عامياً...
8 ـ الشيخ- رحمه الله - ناصح للخاص والعام، في قضايا الأمة، والمنكرات، والمناصحات الشخصية، ويشهد بذلك خواصّه. وقد كلّمته يوماً في منكر لعلّه يناصح صاحبه، فخرجت منه كلمة أجزمُ أنه لا يقصدها، قال لي: «أنا كثير النصائح»، ويشهد لذلك نوعية الرسائل الموجودة في «مجموعه» فكثير منها مناصحات شخصية أو عامة لفئة من المجتمع، كـ: العلماء، والخطباء، والمجاهدين، والدعاة ونحوهم.
وفي صبيحة يوم الثلاثاء التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أفلَ نجم هذا الشيخ الكريم عن عمر بلغ ثلاثاً وثمانين سنة، وفقدت الأمة بموته عَلَماً من أعلامها ومرجعاً من مراجعها، ف- رحمه الله - وأسكنه الفردوس الأعلى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد