بسم الله الرحمن الرحيم
في أيام متقاربة فقدت كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ثلاثة من كبار أساتذتها هم الدكتور أحمد مختار عمر، والدكتور عبد الواحد علام، والدكتور علي عشري زايد، الذي انتقل إلي رحمة اللّه يوم الأحد 27 من أبريل 2003. لقد مضى عامان على رحيل الدكتور علي إلى عالم البقاء، وما زال له في كل قلب وكل عقل اسم ومكانة.
ولد علي عشري في 25-10-1937 وتخرج في كلية دار العلوم بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى سنة 1963. وحصل على ماجستير في البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بتقدير ممتاز سنة1968 وحصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولي عام1974.
والوظيفي: بدأ معيدًا بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بدار العلوم عام 1963 - ثم مدرسًا مساعدًا عام 1972، ثم مدرسًا عام 1974. ثم أستاذًا مساعدًا عام 1980. المقارن بدار العلوم من عام 1980 - 1982. ثم من عام 1992 - 1998. وسافر في مهمة علمية إلي فرنسا لمدة عامين (1971 1973).
العالمية بإسلام آباد بباكستان من 1982 - 1992 حيث شارك في تأسيس معهد اللغات فيها، وكان أول مدير له، وإنشاء كلية اللغة العربية فيها، وكان أول عميد لها.
آثاره العلمية الكتب الآتية:
بناء القصيدة العربية الحديثة - استدعاء الشخصيات التراثية في شعرنا العربي المعاصر - قراءات في الشعر العربي المعاصر - الرحلة الثامنة للسندباد (دراسة فنية لشخصية السندباد في شعرنا المعاصر) - النقد والبلاغة في القرنين الثالث والرابع الهجريين - الدراسات الأدبية المقارنة في العالم العربي - ديوان الستالي مادح بني نبهان - محمد غنيمي هلال ناقدًا ورائدًا في دراسة الأدب المقارن (بالاشتراك) - قصص الحيوان بين الأدب العربي، والآداب العالمية (دراسة مقارنة) - موسيقى الشعر الحر - دراسات نقدية في الشعر الحديث.
أهمها: توظيف الموروث في الشعر الكويتي - شاعرية الجارم بين حداثة المحافظة وأصالة التجديد - لغة الشعر المسرحي - ليلى والمجنون بين شوقي وصلاح عبد الصبور - استلهام شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشعر العربي المعاصر - الصورة البلاغية عند أبي الحسن الرماني.
شهادات في أقوال:
بسبب النكبات العاتية التي تنزل بالأمة، وتضيف كل يوم لجراحاتها جرحًا جديدًا، وأصبحت هذه النكبات تشغل كل بيت، وكل فرد في الشعوب الإسلامية والعربية...في هذا الجو الموجع القاسي الأليم يشاء اللّه أن يختار إلى جواره أخانا الحبيب الدكتور علي عشري.وهذا يذكرني بقصيدة شوقي في رثاء الكاتب الأديب مصطفي لطفي المنفلوطي سنة 1924، الذي كانت وفاته في يوم شغلت فيه الأمة بمحاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول بإطلاق الرصاص عليه، ومنها الأبيات التالية:
اخترتَ يوم الهوٍ,ل يوم وداعِ *** ونعاك في عصٍ,ف الرياح الناعي
سر في لواء العبقرية، وانتظم *** شتى المواكب فيه والأتباعِ
واصعد سماءَ الذكر من أسبابها *** واظهر بفضل كالنهار مُذاعِ
بسبب فراق الدكتور عشري، فهي فجيعة تنضاف إلى ما نزل بالأمة من نكبات، فقد كان - رحمه الله - له في كل قلب أوفَى نصيب من الحب والتقدير. ومازالت الألسنة - تعبيرًا عن القلوب - تلهج بالذكر الحسن والثناء عليه. فعنه يقول أستاذنا الدكتور مصطفي الشكعة: كان الدكتور عشري يجمع بين العلم الوفير والتدين الصافي، والوفاء الصادق، والتسامح الذي لا حدود له.. وكان الناس جميعًا يحبونه ويحترمونه.. لقد خسرتُ بفقده أخًا وابنًا وتلميذًا. ناقشته في الماجستير من خمسة وثلاثين عامًا، واكتشفت أن أطروحته في الماجستير تستحق أن تكون في مستوى الدكتوراه.
السمة الأخيرة - سمة الإيثار - يؤكدها الدكتور عبد الفتاح عثمان - زميل الفقيد العزيز - فيقول: \"كان الدكتور عشري عند توزيع الجدول الدراسي على الأساتذة يقول لنا: اختاروا أنتم ما تريدون من فِرَق وفصول، واتركوا لي ما أنتم فيه زاهدون\".
يذكرني بحديث السيدة عائشة - رضي الله عنها - عندما سُـئلت عن خلق رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم قالت: كان خُلقهُ القرآن. كان الدكتور عشري يقتدي بالنبي صلي اللّه عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وتعامله مع الآخرين، وقيادته للأمور\".
بالعبير، لقد فتح عيني على آفاق من العذوبة والجمال إذ قادني إلى قراءة شعراء الجمال من أمثال: شوقي، وحافظ، والجواهري، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور. وعاش يتحلى بالإيثار وكأنه من الذين قال فيهم رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: \"إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع\".
حماسة - وكيل كلية دار العلوم، وعضو المجمع اللغوي - في فقيدنا العزيز، نقتطف الأبيات التالية:
حادًيَ الركب تمهل في المضِي
واسأل الركبَ تُرى فيكم\" ?
إن يـكـن فـيـهم فسلهم لحظةً
نـتـزود مـنٍ, سـجـايـاهُ بشي
الـمـحـيَّـا الـطـلـق يـأسرُ
الـقـلـبَ وأخـلاقُ الـنـبـي
والــبــيـانُ الـفـذّ إن قـال
يـؤثًـر الصمتَ فصمت عبقري
والـثـبـاتُ الـصلبُ في الحقّ
وإن كــــــــانَ داعــــــــــي
والـلـسـانُ العفٌّ والرأي الذي
يـبـصـر الـغـيبَ بإلهام خَفِيّ
غيرَ وجه الصدق، والصدقُ عصي
والإخـاءُ الـحـقٌّ لا يـبغي به
رحـمـة تـنصبُ كالغيث الأتًي
وحـنـوّ كـحـنـوًّ الأب في..
هـذه بـعـض سـجـاياه وَفَت
فـي زمـان لا تـري فيه الوفي
أنه نظمها في رثاء الفقيد، ولكنه أخبرني أنه أنشدها سنة 1992 في حفل أقامته الجامعة الإسلامية بإسلام آباد للدكتور عشري بمناسبة انتهاء إعارته. قلت سبحان اللّه!! أنشدت القصيدة بمناسبة رحيل الدكتور عشري من إسلام آباد إلي القاهرة بعد أن أقام في إسلام آباد عشر سنين، ومازالت صالحة أن تنشد بمناسبة \"رحيل\" الدكتور عشري من دار الفناء إلى دار البقاء بعد أن أقام في الدنيا ستة وستين عامًا. وهذا دليل على عظمة القصيدة من ناحية، وعظمة على عشري من ناحية أخرى، إذ كان على خلق ثابت عظيم لا يتغير ولا يتلون، فالسمات التي ذكرها الدكتور حماسة ظلت هي سمات الفقيد العزيز حتى فارق دنيانا.
وعشناه في باكستان
الدكتور عشري في كلية اللغة العربية بجامعة إسلام آباد الإسلامية العالمية وكان هو عميدها. وعند وصولي قال لي زميلي الدكتور عبد اللطيف عامر - عميد كلية الشريعة بالجامعة - وقد سبقني إلى الجامعة ببضع سنين \" ستعمل مع رجل مسلم حق، تعلن عنه أخلاقه لا مظاهره، وإنكاره لذاته أهَّله للمواقع القيادية مع أنه أصغر منا سنًا \".. واعتقدت أن الدكتور عامر يبالغ في تقييم صاحبه، ولكني حينما اندمجت في العمل معه اكتشفت أن الدكتور عامر كان حكمه دون الواقع بكثير.
العلم الوافي التواضع والحياء وعفة اللسان، وأشهد أنه في مجالسنا ما كان يمس أحدًا بكلمة جارحة حتى لو كان ممن دأبوا على إيذاء الآخرين باليد واللسان. فإذا ما سئل عن رأيه في فلان المشهور بالإيذاء ابتسم وقال في هدوء: \".. ما رأيك أن نترك حسابه للّه.. ??\". وقد صدق فيه قول رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم: \"إذا أحب اللّه عبدًا حببه\" فقد كان رصيده من حب الناس له رصيدًا كبيرًا لا ينفد. وكان بابتسامته الصادقة، وكلماته الهادئة، وتواضعه الجم يعالج كل مشكلات العمل. وكان مما خفف من حزننا عليه بعض الشيء أن ابنته الوحيدة \"دعاء\" رُزقت - بعد وفاة أبيها بيومين - بمولود سموه \"علي\". ودعونا اللّه أن يكون السًّبٍ,ط \"علي\" خير عوض عن الجد \"علي\". ولكننا فجعنا في السبط الذي لحق بجده بعد ميلاده بستة أشهر. وبذلك جمع الموت بين جد تحقق به كثير من الآمال، وسبط انعقدت به آمال، وبين التحقيق والانعقاد كانت مشيئة الله، فعانق صاحب التحقيق صويحب الانعقاد.. في قبر واحد كان العناق الطويل، والاحتضان الأبدي، ففي رحمة اللّه التي وسعت كل شيء.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد