توبة المدرس بالحرم المكي الشيخ الأزهري من رواسب التصوف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قطار التائبين..قطار لا يتوقف..يحمل معه أرباب العلم.. ومنارات الفكر.. ومدارس المعارف.. حين يقف أحدهم متجرداً فينظر بعلمه إلا واقعه.. تنخفض عينه لكآبة المنظر.. وبعد الواقع عن كثير من الحق.. فمخالطة للحق بالباطل.. تجعل من الصعب على النفوس الصغيرة أن تقتنع بضرورة اتباع الحق.. ولكن صاحبنا أكبر من هؤلاء.. وأرفع من أن يتبعد الله بغير ما شرع.. فكان علمه حُجةً له لا عليه.. إنه ريحانة الحرم المكي.. ومنارة الدجى في أرض الكنانة.. بل نور التوحيد في أصقاع الدنيا كلها.. إنه العلامة المحدث الأزهري محمد عبد الرزاق حمزة - رحمه الله - من سلالة آل البيت - عليهم السلام -..

 

ولد شيخنا عام 1308هـ بكفر عامر.. بدأ بالكتّاب، ثم تعلم الجبر والهندسة والحساب، وفاق بها الأصحاب، ثم التحق بالأزهر ودرس فيها وخارجها.. حتى تخرج والتحق بدار الدعوة والإرشاد التي أنشأئها السيد رشيد رضا، واشتغل فيها ودرس مناهجهم خلال سنتين.. وقطع مواصلة الدراسة النظامية في المعهد قيام الحرب العالمية الأولىº ولكن شيخنا أصلب من أن تقصيه حربٌ ليس لهُ فيها ناقة ولا جمل عن مواصلة التسلح بسلاح العلم، فكان يذهب وبعض طلاب الدار إلى المدرسة باختيارهم وكان يأتيهم هناك الشيخ السيد رشيد رضا والدكتور محمد توفيق صدقي - رحمهم الله -.. وبعد نهاية الحرب أقفلت المدرسة نهائياً.. ولكن شيخنا طالب علم، ومنهومان لا يشبعان، فعقد العزم على مواصلة التعلم بملازمة السيد رشيد رضا، فكان يعاونه في تصحيح ما يطبع في مطبعة المنار من الكتب العلمية، ويحضر دروسه التي يقرؤها في داره على خيار الطلبة كالشيخ عبد الرحمن أبي حجر، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، وغيرهم من العلماء الفضلاء.. وكان السيد رشيد رضا قد غرس فيه حب السنة والنهل منها، ونبذ التقليد الأعمى..

 

ولا ينسى شيخنا هنا أن يسجل الجميل، فيذكر بقصة هدايته، حيث كان أشعرياً فيه رواسب للتكايا والزوايا الصوفية.. فبعد مسيرة أكثر من عقد من الزمان في مدارس العلم يلتقي بمن أنار له طريق الحق.. وأشاح عنه ظلمات البعد عن طريق الحق.. فيقول الشيخ الأزهري محمد بن عبد الرزاق حمزة:

(وعلى ذكر الشيخ عبد الظاهر أبي السمح أذكر له بالثناء الجميل توجيه قلبي ونفسي إلى مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان أستاذي بدار الدعوة والإرشاد في تجويد القرآن، وتجويد الخط، وبالاتصال به دارت بيننا مباحثات في مسائل التوسل، والشفاعة، ودعاء الصالحين، فأعارني كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية، في التوسل والوسيلة، فقرأته فتأثرت به أي تأثر، وانتقلت رأساً على عقب، وامتزج حب ذلك الشيخ: شيخ الإسـلام ابن تيمية بلحمي وعصبي ودمي [هكذا لأهل التجرد والباحثين عن الهدى والحق]، وأصبحت حرياً على البحث عن كل كتاب له، ولمن يتابعه [عطشى في طلب الحق، وهذا هو كلام العلماء]، وقرأت بعض كتب تلميذه كالشيخ محمد بن عبد الهادي \"الصارم المنكي في الرد على السبكي\" فخرجت بيقين ثابت، وإيمان قوي، ومعرفة جيدة بمذاهب السلف في هذه الأمور، وبحب مطالعة كتب الحديث، وأسانيده، والكلام على رجاله، كل ذلك ببركة مطالعة كتابي: التوسل والوسيلة والصارم المنكي).

 

هكذا هي النفوس الكبيرة، وهذه رؤية العلماء، من عاش بين العلم وأهله عشرات السنين، يوضح لنا حقيقة الصفاء والنقاء، في صفاء نفسك وتجردها للحق!!

وبهذين الكتابين استنار له طريق الهدى، فعاد للسنة، وتبرأ من البدعة، وعاد عن الأشعرية بعقيدة الصفاء والنقاء (الكتاب والسنة)..

 

بعدها رفعه الله.. فكان إماماً وخطيباً بالحرم المكي.. ومدرساً به.. وشارك في تأسيس دار الحديث بمكة المكرمة.. ودرس بالمعهد العلمي بمكة المكرمة، وكذلك بأول معهد علمي بالرياض.. ثم إماماً وخطيباً بالمسجد النبوي ودرس فيه.. هكذا رُفِعَ بالعلمِ، فعزَ وارتفع وشمخ.. والعلم هو الهدى وليس الوبال والتقليد الأعمى!! فطالب العلم طالب حق.. لا يحيده ما يجد عليه الآباء أن يعرف الحق ويدعوا إليه..

 

لقد رفع راية الدعوة إلى التوحيد في أصقاع المعمورة، بدأ بكفر عامر، وانطلق بمصر، وتابع بالحرم المكي، واهتدى على يديه الكثير، وقد رافقه وزامله في كثيرٍ, من دربه صاحبه وأستاذه والذي أنار له طريق الهدى العالم الفاضل عبد الظاهر أبو السمح، والذي أنار له أيضاً- طريق الهدى والبيان علامة شنقيط من بلد مورتانيا، العالم الفاضل أمين الشنقيطي، فتعاون الشيخان في جماعة أنصار السنة، ومن ثم في مكة، في الإمامة بالحرم المكي، والتدريس بالحرم ودار الحديث..

وقد خلف هذا البحر المتلاطم جيلاً كبيراً من طلبة العلم في أصقاع المعمورة، ومن أبرز طلابه: العلامة عبد الله خياط، والشيخ علي الهندي، والشيخ سليمان الصنيع، والأستاذ المحقق أحمد عبد الغفور عطار، والعلامة المؤرخ حمد الجاسر، والشيخ محمد الصومالي، والشيخ إسماعيل الأنصاري، والشيخ محمد بن عمر الشايقي السوداني، والشيخ يحي بن عثمان بن الحسين عظيم أبادي، والشيخ محمد الفاداني، والشيخ محمد نور الدين حسين جِمَاوي الحبشي، والشيخ المحقق أبو تراب الظاهري، والدكتور محمد بن سعد الشويعر، والشيخ عبد الله العبدلي رحم الله حيهم وميتهم-..

 

يقول الشيخ عبد الله بن سعدي الغامدي العبدلي عن تأثره بشيخه وتحرره من التقليد إلى اتباع الدليل:

(كان الشيخ يحرص على الكتب الستة، وقد تأثرت به في دراستي على الشيخ فأصبحت أسير مع الدليل ولو خالف المذهب والآراء).

وكما ترى.. فلما كان باحثاً عن الحق ومتحرراً للدليل، خرج من هذه المدرسة عدد من كبار أهل العلم من جميع المذاهب، حنابلة وشوافع ومالكية وأحناف وظاهرية إلى رابطة تجمعه وهي طلب الدليل.. وهو ما أكده الأئمة الأربعة.. وتجرده وطلبه للحق وعلمه.. أنار به من كان من أهل البدع إلى العودة للسنة..

وقد خلف لنا تركة أخرى لا تقل أهمية عن طلبته، وهي جملة من مؤلفاته الثمينة، منها:

1- كتاب الصلاة.

2- الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال على ما فيه من زيغ وكفر وضلال.

3- ظلمات أبي ريه في كتاب أضواء على السنة.

4- المقابلة بين الهدى والضلال [رد على الكوثري عندما نشر اعتراضاته وشتائمه على الصحابة والتابعين وكبار علماء الأمة]

5- الإمام الباقلاني وكتابه التمهيد..

6- الباحث الحثيث إلى فن الحديث.

7- تعليقات على الحموية الكبرى.

8- تعليقات على الكبائر للذهبي.

9- تعليقات على رسالة الطلاق لشيخ الإسلام ابن تيمية.

10- الله رب العالمين في الفطر والعقول والأديان.

11- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان.

12- عنوان المجد في تاريخ نجد.

13- رسالة التوحيد للإمام جعفر الصادق.

14- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (تحقيق وتصحيح) مع بعض أهل العلم.

15- القرى لقاصد أم القرى للطبري (تحقيق وتصحيح) مع بعض أهل العلم.

 

هكذا عاش مناراً للهدى، وسقاءً للعطشى، ومورداً للظمآن، وحقيقةً لمن تعلق بالسراب وظلمات الهوى والتأويل.. وقد وافته المنية بالبلد الحرام بمكة المكرمة في 22/2/1392هـ... - رحمه الله - وغفر له.. ورفع منزلته في عليين.. ونحن على آثاره سائرين.. في اتباع النبي الهادي الأمين.. عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply