بعد أكثر من ثلاثين سنة مازالت صورة الشيخ الزرقاء ماثلة أمامنا بوجهه المشرق ولهجته الحلبية المحببة والتي هذبتها الفصحى، وهو يشرح لنا القواعد الفقهية من كتابه الكبير (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) وكان الشيخ - رحمه الله - قد برع في الفقه الإسلامي مقارناً بالقوانين الوضعية، كما برع في محاولة تقريب الفقه وقواعده ليكون مادة واضحة بين يدي الطلبة. ساعده على ذلك ثقافة واسعة تجمع بين الدراسة على العلماء وحضور مجالس العلم في بلده (حلب) وبين الدراسة الحديثة وتجمع بين العلوم الشرعية والآداب العربية، واطلاع على اللغة الفرنسية ليرجع إلى المصادر الأصلية في القوانين الأجنبية، وقد سمعنا في محاضراته كيف كانت المؤامرة على الفقه والشريعة الإسلامية بإلغاء مجلة الأحكام العدلية بقرار من عسكري[1]، وكم قاست بلادنا من العساكر، لم يكن الشيخ مدرساً فقطº بل شارك في الحياة العامة ومحاولات الإصلاح ورد عادية الغزو الثقافي للمسلمين، فكان نائباً في البرلمان ووزيراً للأوقاف والعدل أكثر من مرة.
وفي جامعة دمشق نشأت فكرة موسوعة الفقه الإسلامي بالتشاور بين الشيخ الزرقاء وزملائه الشيخ مصطفى السباعي - رحمه الله - والأستاذ محمد المبارك - رحمه الله -، والدكتور معروف الدواليبـي، وكانت بدايات لم يكتب لها الاستمرار، ودخلت سورية في فترة عصيبة ذهب الناس فيها كل مذهب وتفرق الطلبة والأساتذة، وفقدت جامعة دمشق خيرة رجالها، وكانت من الجامعات المتميزة علمياً، ودعي الشيخ ليشرف على الموسوعة الفقهية في الكويت، وبقي فيها سنوات، وصدرت أجزاء منها ثم توقفت فجأة بقرار وزاري، وتنقل الشيخ بين الأردن والسعودية كأستاذ أو مستشار، وذكر الذين كانوا يزورونه من محبي مجالس العلم أن مجلسه كان حافلاً بالعلم والأدب والطرائف.
ولد الشيخ في مدينة حلب عام (1907)، وتفقه وتعلم أولاً على والده الشيخ أحمد الزرقاء، ثم درس في المدرسة الشرعية (الخسروية) مع زميله وصديقه الحميم الدكتور معروف الدواليبـي، ثم قرر أنه لابد من الإطلاع على العلوم الأخرى فدرس الثانوية العامة وانتسب بعدها إلى جامعة دمشق فدرس في كلية الحقوق والآداب جميعاً، وبعد التخرج كلف من جامعة دمشق بتدريس مادة الفقه وكانت شرحاً لمجلة الأحكام العدلية على المذهب الحنفي، وبقي مدرساً حتى عام 1966.
إن عمل الشيخ بعد أن جاوز الثمانين مستشاراً في بعض المؤسسات المالية ليدل على نشاط ذهني ونشاط جسمي أيضاً كما يدل على جلد ودأب وحب للعمل، يتميز به هذا الجيل ويدل أيضاً على طريقة التعامل مع العلماء والكبار عند الحكومات والجامعات، فأين التقدير للعلم، وأين المجالس العلمية والمؤسسات العلمية التي تستفيد من أمثال هذا الشيخ.
وفي هذا المقام لابد أن نذكر أن جيل الزرقاء والطنطاوي وجيل الأساتذة الكبار المشهور لهم بالعمل والفضل كان جيلاً متميزاً بحب العلم والتفاني فيه والتعب من أجله، جيل جمع بين العلم والدفاع عن الإسلام في كل الجبهات، دافعوا الاحتلال الأجنبي ودافعوا التغريب والغزو الثقافي، وكان الجيل الذي جاء بعدهم فيه الشيء الكثير من صفاتـهم، جدية في العمل والعلم، وقد رأيناهم ودرسنا عليهم، ثم لم يزل الأمر إلى تراخٍ, إلى أن وصلت البلاد إلى ضعف في العلم، وأصبحت الجامعات تخرج المهازيل وخاصة في التخصصات النظرية.
توفي الشيخ الجليل مصطفى الزرقاء في مدينة الرياض، وقبله غادرنا الشيخ على الطنطاوي وأبو غدة وسعيد الأفغاني والإستامبولي ومحمد أمين المصري، وهكذا نودع رجالات سورية وقد قضوا نحبهم خارج وطنهم الذي نشأوا فيه، وضاق الوطن عن أن يعودوا ليقضوا آخر أيامهم فيه. ولكن أعود فأقول: حتى لو رجعوا فأين الأصحاب، وأين أجواء العلم، وأين التقدير والاحترام، إنـها مفخرة لهم أنـهم هاجروا في سبيل الله، وإن كانت عاراً على الأنظمة التي جعلت الوطن العربي يضيق بعظمائه، والذي يحز في النفس كثيراً أن أجيالاً نشأت في سورية وخارج سورية لم تسمع بـهؤلاء ولا تعرف عنهم شيئاً، لقد قطعوا الأجيال عن تاريخهم، وحتى ظن الجيل الجديد أن الساحة خالية، فهم لم يشاهدوا إلا (الأقزام) في السياسة والعلم.
إنه واجب علينا أن نعرّف الأجيال الجديدة بأعلام الإسلام الكبار في هذا العصر..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد