سعد بن أبي وقاص الأسد في براثنه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم، والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه لبقود جيوش المسلمين، في معركة فاصلة ضد الفرس.

 

وركب في نفر من أصحابه مستخلفا على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..

 

ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة حتى رأى بعض أصحابه أن يعود، وينتدب لهذه الهمة واحدا غيره من أصحابه..

وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف، معلنا أن المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والإسلام يعيش أيامه الفاصلة، عمل غير سديد..

 

وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب، فانتقل مع بعض أهل المدينة إلى حيث كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي إلى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف، وقرر المجتمعون أن يعود عمر إلى المدينة، وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من المسلمين..

 

ونزل أمير المؤمنين على هذا الرأي، وعاد يسأل أصحابه:

 

فمن ترون أن نبعث إلى العراق..؟؟

 

وصمتوا قليلا يفكرون..

 

ثم صاح عبد الرحمن بن عوف: وجدته..!!

 

قال عمر: فمن هو..؟

 

قال عبد الرحمن: \"الأسد في براثنه.. سعد بن مالك الزهري..\"

 

وأيّد المسلمون هذا الاختيار، وأرسل أمير المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري \"سعد بن أبي وقاص\" وولاه إمارة العراق، وقيادة الجيش..

 

فمن هو الأسد في براثنه..؟

 

من هذا الذي كان إذا قدم على الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:

 

\"هذا خالي.. فليرني امرؤ خاله\"..!!

 

إنه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف، عم السيدة آمنة أم رسول الله - صلى الله عليه و سلم -..

 

لقد عانق الإسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان إسلامه مبكرا، وإنه ليتحدث عن نفسه فيقول:

 

\".. ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الإسلام\"..!!

 

يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا إلى الإسلام..

 

ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي - صلى الله عليه و سلم - من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه إلى رسول الله مبايعا..

 

وانّ كتب التأريخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا بإسلام أبي بكر وعلى يديه..

 

ولعله يومئذ أعلن إسلامه مع الذين أعلنوه بإقناع أبي بكر إيّاهم، وهم عثمان ابن عفان، والزبير ابن العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله.

 

ومع هذا لا يمنع سبقه بالإسلام سرا..

 

وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..

 

بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، إلا بشيئين عظيمين..

 

أولهما: أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من رمي أيضا..

 

وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:

 

\" ارم سعد فداك أبي وأمي\"..

 

أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين الجزيلتين، ويلهج يشكر الله عليهما فيقول:

 

\" والله إني لأوّل رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله\".

 

ويقول علي ابن أبي طالب:

 

\" ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يفدي أحدا بأبويه إلا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي وأمي\"..

 

كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..

 

إذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. وإذا دعا الله دعاء أجابه..!!

 

وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك إلى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول - صلى الله عليه و سلم - منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له هذه الدعوة المأثورة..

 

\" اللهم سدد رميته.. وأجب دعوته\".

 

وهكذا عرف بين إخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف هو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن يدعو على أحد إلا مفوّضا إلى الله أمره.

 

من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:

 

\" رأى سعد رجلا يسب عليا، وطلحة والزبير فنهاه، فلم ينته، فقال له: إذن أدعو عليك، فقال الرجل: أراك تتهددني كأنك نبي..!!

 

فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم، فاجعله آية وعبرة..

 

فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من إحدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس، كأنها تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات\"..

 

إن هذه الظاهرة، تنبئ أوّل ما تنبئ عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق إخلاصه.

 

وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. وإخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال، فهو يرفض في إصرار عظيم كل درهم فيه إثارة من شبهة..

 

ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فإذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد.. إذ آتاه الله الكثير، الحلال، الطيب..

 

وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاهيها، قدرته في إنفاقه في سبيل الله..

 

في حجة الوداع، كان هناك مع رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ، وأصابه المرض، وذهب الرسول يعوده، فسأله سعد قائلا:

 

\"يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي..؟

 

قال النبي: لا.

 

قلت: فبنصفه؟

 

قال النبي: لا.

 

قلت: فبثلثه..؟

 

قال النبي: نعم، والثلث كثير.. إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك\"..

 

ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..

 

**

وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.

 

وكان إذا استمع للرسول يعظهم، ويخطبهم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..

 

وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..

 

ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره إلى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:

 

\" يطلع علينا الآن رجل من أهل الجنة\"..

 

وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..

 

وبعد حين قريب، طلع عليهم سعد بن أبي وقاص.

 

ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله بن عمرو بن العاص سائلا إياه في إلحاح أن يدله على ما يتقرّب إلى الله من عمل وعبادة، جعله أهل لهذه المثوبة، وهذه البشرى.. فقال له سعد:

 

\" لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..

 

غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا\".

 

هذا هو الأسد في براثنه، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..

 

وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..

 

كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الإسلام والمسلمين..

 

إنه مستجاب الدعوة.. إذا سأل الله النصر أعطاه إياه..

 

زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..

 

وإنه واحد من أهل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..

 

وإنه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله - صلى الله عليه و سلم -..

 

وأخرى، لا ينساها عمر ولا يغفل عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم الأمور، تلك هي صلابة الإيمان..

 

إن عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..

 

يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله وذويه..

 

لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد إلى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الهلاك..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply