التربية الإسلامية وبناء \ الشخصية \


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تأتي نظرة الإسلام إلى الإنسان والتربية في إطار الشخصية المركبة من مجموعة مركبة متكاملة من الجوانب، وكما ذكرنا في مقالنا السابق ينظر علم الشخصية المعاصر من : (النظام الكامل من الميول والاستعدادات الجسمية والعقلية الثابتة نسبيا، التي تعتبر مميزا خاصا للفرد، وبمقتضاها يتحدد أسلوبه الخاص للتكيف مع البيئة المادية والاجتماعية).

وكما ذكرنا فإنه في التصور الإسلامي لمفهوم الشخصية لا نجد ما يعترض به على ما جاء بهذه التصورات التربوية الحديثة في علم الشخصية، ولكن الاعتراض يأتي من ناحية ما لم يأت بها من جانب الصلة بالخالق - سبحانه -

 وإذا كانت جوانب الشخصية التي نستخلصها من جملة تعاليم الإسلام، تأتي في ثلاث مجموعات:

المجموعة الفطرية: في الجانب الجسدي، والوجداني، والعقلي، والنزوعي، والإرادي.

المجموعة الاكتسابية: وتتناول جانب التعامل مع البيئة المادية، والتعامل مع البيئة الاجتماعية

المجموعة الإيمانية: وهي تشمل ما يمكن أن نسميه الجانب الكوني والزمني ……….

فإن إغفال جانب من هذه الجوانب الشخصية إنما ينشأ من أحد أمرين: إما الجهل بوجوده، أو الاعتقاد بوجوب التخلص منه، وكلا الأمرين لا يتصور بالنسبة للخالق، فهو يعلم ما خلق: {أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ} 14 الملك، وهو لا يعبث بما خلق: {وَما خَلَقنا السَّماءَ والأَرضَ وَما بَينَهُما لاعِبينَ} 16 الأنبياء.

أما عن الجانب الجسدي من المجموعة الفطرية فنحن نجد عناية الإسلام التامة بتربية جسد المسلم: يدفعه إلى العناية به، وعدم التهاون في شأنه، فعليه أن يشبع حاجاته الأساسية من الغذاء والجنس والزينة - بشروط وتوازنات يأتي الكلام عنها في موضعها - بحيث لا يضرب عليه ضريبة الرهبنة أو التحقير أو الزراية، يقول - تعالى -: {يا أَيٌّها الَّذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم وَلا تَعتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ المُعتَدينَ، وَ كُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً واتَّقوا اللَّهَ الَّذي أَنتُم بِهِ مُؤمِنونَ} 87 - 88 المائدة، ويقول - تعالى -:] {قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هيَ لِلَّذينَ آمَنوا في الحَياةِ الدٌّنيا خالِصَةً يَومَ القِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ, يَعلَمونَ} 32 الأعراف

 

وشريعة الإسلام فيما يتصل بالمحافظة على الجسم مفصلة على وجه الدقة في كتب الفقه، وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في الإسلام: تحريم أكل الميتة، والدم، ولحم لخنزير.. وإيجاب الأكل عند إشراف الجائع على الهلاك، أو عند إضرار الجوع بصحته، والنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل غسلها، واستحباب شرب الماء على أنفاس متعددة لا مرة واحدة، واستحباب غسل الأيدي قبل الطعام وبعده، وفي الإسلام: فرائض الوضوء والاغتسال، وسنن التطيب والتمشط، والتسوك، وقواعد التزوج والتوالد والإرضاع والاسترزاق، وإحسان القِتلة. إن الإسلام لا يسمح للمسلم بأن يغمط حقوق جسده، أو يترك له فرصة الزراية به، إنه فضلا عن ذلك يطالبه بأن يعرف لله منته عليه بهذا الجسد، فيقدم لله الشكر عليه (قل هو الذي أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون)23 الملك

 

 وعليه أن يفرغ هذا الشكر لا في كلمات تردد فحسب ولكن فوق ذلك في صيانته لجوارحه وقواه، من كل ما يزري بها من الاستعمالات الخبيثة، أو الضارة، أو الإرهاق أو المغالاة.

 

 

 

هنا لابد من الإشارة إلى أهمية الحدود والقيود التي يضعها الإسلام على هذا الجانب، فذلك بالبداهة هو مقتضى النظرة التكاملية التي أشرنا إليها، فإطلاق الجسد من القيود والحدود لا يكون إلا في فلسفة تتنكر للجوانب الأخرى، أو تراها تابعة للجانب الجسدي أو مجرد تعبير عنه أو انفعال صادر منه، أو تسمح بوقوعها جميعا في فوضى الصراع، وهذا بالتأكيد لا يتفق مع نظرة التكامل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القيود أو الحدود التي يضعها الإسلام للجانب الجسدي ليست من أجل إتاحة الفرصة للجوانب الأخرى فحسب، وإنما هي مع ذلك أو قبل ذلك من أجل سلامة الجانب الجسدي نفسه وحمايته من ذاته، كما نجد في بعض المحرمات مثل: تحريم الخمر وتحريم الزنا، وتحريم الاعتداء، والإسراف على سبيل المثال.

أما عن الجانب الوجداني من المجموعة الفطرية فإن الإسلام يدفع المسلم إلى توجيه عنايته لوجداناته، ويدربه على أن يعترف بها، بل ويعتز بها، ولا يرخي عليها أستار الخجل، ولا يقيدها بقيود الإنكار ولا يئدها في أغوار مجهولة من أغوار نفسه.

فالله - سبحانه وتعالى- يمن على عباده بنعمة الأخوة والتآلف، ويقول محدثا رسوله عن تآلف 0أصحابه: {وَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِهِم لَو أَنفَقتَ ما في الأَرضِ جَميعاً ما أَلَّفتَ بَينَ قُلوبِهِم وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ} 63 الأنفال

وهو - سبحانه وتعالى- يدلنا على أن علاقة عبده به ليست علاقة\" معرفة \" جافة، بل ترطبها العاطفة، وتعمقها، وذلك إذ يقول - سبحانه وتعالى- على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، {قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم واللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ} 31 آل عمران.

إن الله - سبحانه وتعالى- ليحب أن يكون طرفا في كل علاقة حب، فتعمق، وتزكو، وتطهر، وتسمو. وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام ابن حبان وصححه بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله قال (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه).

وفي موارد الظمآن للهيثمي بسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه (قال: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم؟ قال أنت يا أبا ذر مع من أحببت).:

وفي رواية أخرى له بسنده عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل من هم لعلنا نحبهم؟ قال هم قوم تحابوا بنور الله، من غير أرحام ولا أنساب)

و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والطبراني وإسنادهما جيد: ( قال الله - عز وجل - \" المتحابون لجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي \")

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - فيما رواه البزار ولفظه - قال رسول الله \" من أحب رجلا لله فقال إني أحبك لله، فدخلا جميعا الجنة، فكان الذي أحب ارفع منزلة من الآخر، الحق بالذي أحب لله\" وإسناده حسن.

ويعلمنا الإسلام الاعتزاز بعاطفة الحب لا مجرد التعامل معه ويحرضنا على الحب، ففي سنن البيهقي بسنده عن أبي هريرة عن النبي قال \" تهادوا تحابوا \"

وفي رواية للحاكم في مستدركه على الصحيحين بسنده عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: ( مر بالنبي رجل فقال رجل: إني لأحبه في الله - عز وجل -، فقال النبي: أأعلمته؟ قال: لا، قال: فأعلمه، قال: فلقيت الرجل فأعلمته، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ولا يدور الحب الإسلامي في هذا النطاق الرحب الرفيع فحسب: من المحبة الإلهية، والمحبة الإنسانية، وإنما هو لا يغض من شأن الحب على أي مستوى من المستويات: إنه يقرره في مستوى الزواج، ويدفع المسلم إلى أن يرى في زوجه سكنا، وإلى أن يربطها به برباط المودة، وهو يقرره في مستوى النسل، إذ يحب المسلم ولده ويرى فيه جزءا منه، يفرح بمولوده ويبكي لفرقته، يقول الله - سبحانه وتعالى- عن عباد الرحمن: : {والَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ, واجعَلنا لِلمُتَّقينَ إِماماً} 74 الفرقان .

وقد كان كذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي سنن البيهقي بسنده عن عدي بن ثابت قال سمعت البراء قال: ( رأيت رسول الله والحسن على عاتقه وهو يقول: اللهم أني أحبه فأحبه) رواه البخاري في الصحيح

ويقرر الإسلام الحب في مستويات أخرى: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب ناقته، ويعقد صلة بينه وبين درعه، ويسميه ذا الفضول، ويعقد صلة بينه وبين حجر كان يسلم عليه قبل أن يبعث، ويعقد صلة بينه وجذع كان يخطب عليه.

والإسلام هنا لا يقرر بعض جوانب الوجدان دون بعض آخر، ولكنا نراه كما أنه يدفع المسلم على أن ينطوي على عاطفة الحب فإنه يدفعه إلى أن ينطوي على عاطفة البغض لما ينبغي كراهته، فهو أي البغض شعور له احترامه كذلك، والقرآن الكريم يقول في صفات المؤمنين (أشداء على الكفار رحماء بينهم) 29 الفتح.، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود بسنده عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر قال: قال رسول الله: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله ).

وعندما يقر الإسلام البغض لله فإنه يتسامى بهذه العاطفة إذ يجعلها لله وفي الله ويطهرها من رجس الأغراض البشرية الدنيئة والمنافع الدنيوية الفانية ويرتفع بها إلى مستوى ما يرضي الله

ولاشك أن في هذا ضمانا لتطهير هذه العاطفة من دناياها كما أن الحب في الله يطهره كذلك من دناياه ويرتفع به إلى مستوى رضا الله

وعندئذ يسبح البغض في مستوى الحب فيتقدس بقربه من الله ويصبح في جوهره حبا حقيقيا حبا لله - تعالى -.

ويفرق الإمام الشافعي بين الحب لله، والبغض لله، والبغض لعصبية، فيقول: فالمكروه في محبة الرجل من هو منه أن يحمل على غيره ما حرم الله عليه من البغي والطعن في النسب والعصبية، والبغضة على النسب لا على معصية الله ولا على جناية من المبغَض على المبغِض، ولكن يقول: أبغضه لأنه من بني فلان، فهذه العصبية المحضة التي ترد بها الشهادة .

قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: ولو خص امرؤ قومه بالمحبة ما ل

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply