الصف الذي لم يخترق ( 3 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الفائدة الخامسة: منهج مناسب لكل عصر:

انتهينا فيما مضى من هذا البحث إلى الأمرين التاليين:

- كان - صلى الله عليه وسلم - يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم.

 

- استمر هذا النهج بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ التطبيق أوجه في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، الذي كان يتشدد في اختيار الولاة، وكان في شخصه قدوة حسنة لكل مسؤول، فتراه يجوع إذا جاعت الرعية، ويشبع إذا شبعت.

 

وتدار شؤون هذا الكيان الضخم بطريقة بسيطة على كل من التزم هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأس هذا الجسد الإسلامي: أمير المؤمنين، وحوله عدد من السابقين الأولين: منهم من يحفظ كتاب الله ويعرف سبب نزول آياته، ومنهم من اشتهر بالقضاء والإفتاء، وكل منهم يحفظ عدداً جيداً من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويندر من الأحاديث ما لا يعرفه الخليفة ومن حوله.

 

وكانت مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاصمة الخلافة، وموطن إقامة أهل الشورى لا يغادرونها إلا لضرورة، وقد استمر دور المدينة العلمي المتميز بعد عصر الصحابة، وتفصيل ذلك في أمهات كتب الحديث والفقه والأصول.

 

وتلي دائرة القيادة دوائر متعددة تمتد لتشمل: الجيوش، والسرايا، وشؤون بيت المال، والقضاء، وإدارة الأمصار، ولا تخلو قرية ولا بادية من مسؤول يتصل برأس الجسد الإسلامي لأن الفوضى لا وجود لها في دولة الخلافة.

 

أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة، وأهمها: الأمانة، والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى هذا المنصب... وتفصيل ذلك في كتب السياسات الشرعية.

 

ولنفترض أن بعض المنافقين اقتحموا دائرة من الدوائر، ولتكن إحدى الولايات، فمن حق هذا الوالي على عامة المسلمين وخاصتهم تقديم النصح له، وعرض الأدلة التي تثبت أن فلاناً وفلاناً من بطانته من أهل النفاق، والواجب يحتم إبعاد المنافقين عن المسؤوليات التي أنيطت بهم إن صحت الأدلة... وإذا أهمل الوالي النظر في النصيحة فما على الناصح إلا أن يقابل الخليفة، ويعرض عليه المشكلة، ولن يجد عوائق تمنعه من النهوض بهذا الواجب، فليس هناك استبداد ولا إرهاب وتنكيل واضطهاد، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها المرأة التي ردت على عمر بن الخطاب عندما أخطأ في قضية المهور، وكان يخطب الجمعة، فصحح خطأه، ولم يقل لها أحد لماذا تردين على أمير المؤمنين أمام عامة الناس؟.

 

ومادام أن رأس الجسد الواحد سليماً ومعافى، فلسوف يقتلع هذه النبتة الخبيثة من الأرض الطيبة المعطاء، ويصلح الخلل، ويحصن صف الولاية حتى لا يُخترق مرة ثانية، ولن يسلم الوالي من العقاب، وسيكون عبرة للوالي الذي يأتي بعده.

 

وهذا الذي نقوله حقيقة ملموسة، وليس كلاماً نظرياً أو أحلام يقظة، ومن يدرس سيرة عمر بن الخطاب يجد أمثلة كثيرة على ذلك، وكذلك سير الخلفاء الآخرين... وبعد مرور بضعة عقود ضعف الرأس، فضعفت المراقبة، وتسلل أصحاب المصالح والأهواء إلى أعلى المناصب، وتنافس الناس في امتلاك الأرض، وبناء القصور... في هذه الأجواء جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز، فرد الناس إلى وضع شبيه بالوضع الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعهد الشيخين من بعده، وأثبت مرة أخرى صلاحية هذا المنهج للتطبيق شريطة أن يبدأ الخليفة بنفسه ومن حوله، والعجيب في سيرة عمر بن عبد العزيز أنه أحدث هذا التغيير الشامل في كيان الدولة في فترة زمنية لا تكاد تبلغ ثلاث سنين.

 

وكانت الأمور بعد عمر بن عبد العزيز بين مد وجزر، ومع ذلك فأحداث ووقائع تاريخنا الإسلامي تؤكد أنه كلما انحرف الحكام عن جادة الصواب، سخر الله لهذه الأمة من يجدد أمر دينها، ويستبعد أهل النفاق والفسوق والعصيان، ويأتي بخيار الناس علماً وورعاً وتقوى، ويثبت صلاحية المنهج النبوي للتطبيق في كل عصر ومصر.

 

هناك من يقول: من الممكن الالتزام بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين إذا كان العدد قليلاً، أما عندما يزداد العدد، ويكثُر الموجِّهون، فإن ضوابط الالتزام تضعف، ويصبح الاختراق ممكناً.

 

الذين يرددون هذا القول تناسوا حقائق التاريخ الثابتة، فعدد الصحابة في السنوات الأخيرة من البعثة النبوية تضاعف أضعافاً مضاعفة، ولقد بلغ عدد الذين شهدوا حجة الوداع منهم أكثر من مائة ألف[1] ومع ذلك فقد بقيت الصفوف محصنة ضد أي اختراق، وإجماع الأمة انعقد على أن الصحابة كلهم عدول، وإن كان بعضهم أفضل من بعض.

 

فأية جماعة من الجماعات المعاصرة يبلغ عدد الملتزمين العاملين فيها مائة ألف؟!، وقد ذكرنا فيما مضى شواهد على أن أعداءنا يخترقون حصون الجماعة التي لا يزيد عددها على الألف، فما بالك بعشرات الآلاف؟!.

 

وفي عهد عمر بن الخطاب انساحت الفتوحات في أرض الله الواسعة، وأصبحت دولة الخلافة تضم أكثر من عشرين دولة من الدول المعاصرة، ورغم هذه المساحة التي تعد كبيرة جداً حتى في حسابات أهل هذا العصر، فلقد بقيت المقاييس ثابتة وكما كانت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق - رضي الله عنه -، ولم يستطع المنافقون التسلل حتى إلى إدارة ولاية من الولايات.. وكذلك كان الحال في عهد عمر بن العزيز، ومن سبقه أو جاء بعده من الخلفاء المصلحين المجددين.

 

فالمشكلة إذن: ليست في ضخامة العدد إذا كان الأساس راسخاً، وإنما المشكلة عندما يكون الكم على حساب الكيف لأن البعض تستهويه الكثرة، فيتساهل في قبول عضوية الأفراد في جماعته، وهذا التساهل أرضية خصبة للمنافقين، ومخالفة صريحة لسنن الله في التغيير.

 

وكما أن للمسلمين مقاييس ثابتة في اختيار المسؤولين، فكذلك غيرهم، فالأحزاب العلمانية عندما تتسلم مقاليد الحكم، تحتكر الوظائف القيادية في جميع المناطق والمدن، فإذا كان المسؤولون أوفياء للحزب ومبادئه مشت الأمور بالشكل الذي أراده القادة وخططوا له، وإذا كانت هناك نسبة في المراكز القيادية مدسوسة على الحزب الحاكم، مرتبطة بحزب آخر، فلسوف يأتي التطبيق سيئاً ومثيراً لنقمة الشعب، وستبقى هذه العناصر المدسوسة تعمل وتخرب في الخفاء حتى تهيئ الأجواء لانقلاب يقتلع جذور وأركان الحزب الحاكم، وسواء كان هذا الانقلاب مدنياً [الانتخابات النيابية] أو عسكرياً [انقلاب عسكري]، فإن المدسوسين يحتلون مركز الصدارة في الانقلاب الجديد، ويؤدون دوراً مهماً في فضح رفاق الأمس، وكشف مخازيهم، وبيان مخالفتهم للمبادئ والشعارات، التي يرفعونها، ويدعون إليها، وقد يتآمر هؤلاء المدسوسون المنافقون على الرفاق الجدد، لأن من قطع روابطه بالله - سبحانه وتعالى- يستحيل أن يكون وفياً لعبيد الله، وهذا سبب مهم من الأسباب التي تميز المؤمنين الموحدين عن الكافرين والمنافقين.

 

الفائدة السادسة: الدعاة معروفون:

الدعاة صفوة الناس، وخير خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين. إنهم يشقون لتسعد البشرية، ويواصلون الليل مع النهار في عملهم وأنشطتهم من أجل هداية الحائرين، وإرشاد التائهين، وتعليم الجاهلين، وإذا آثر غيرهم السلامة والعافية آثروا رضا الله وعفوه، ولو دفعوا ثمن ذلك دماءهم وأرواحهم وأموالهم.

 

والدعاة الذين هذه هي صفاتهم معروفون ولو بلغ عددهم عشرات الملايين، فالمصلون يعرفون خطيب المسجد الذي يصلون فيه، والطلبة يعرفون الذين يدرسونهم العلوم الشرعية، والقراء يعرفون الكتاب الإسلاميين، ويلتقون معهم في كتبهم وأبحاثهم، وعندما يذكر داعية من الدعاة يواجهنا الاحتمالين الآتيين:

 

أولاً: يقال لنا: هو معروف في أوساط دعاة مدينته أو منطقته، ومشهود له بالعلم والعمل والفضل والتقوى، واشتهاره المفاجئ في بلدان العالم الإسلامي جاء بعد وقوع الحدث [الفلاني] الذي هز لضخامته أركان العالم الإسلامي، وراح الناس يبحثون عن موقف شرعي فاصل في هذا الحدث، فتصدى هذا الداعية لهذه المهمة التي جبن غيره عن التصدي لها، فكانت محاضرته جواباً شافياً على أسئلة الحائرين، وحجراً ألقم به أفواه المبطلين... ورغم قيود الظالمين وسدودهم فقد انتشر الشريط الذي سُجلت فيه هذه المحاضرة في كل مكان، وتلقاه الناس بالقبول والارتياح.

 

الثاني: يقال لنا غير معروف، ومن الأمثلة على ذلك أن أحد الضباط قاد انقلاباً عسكرياً، وبعد نجاح انقلابه، وتسييره لدفة الحكم أخذ يتحدث عن ضرورة الحل الإسلامي... وعند السؤال عن سيرته الذاتية لم يجد الناس من يشهد له حتى بارتياد المساجد فضلاً عن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل أن يكون الدين كله لله، ولنفترض أن هذا الضابط تاب بين عشية وضحاها، فهذه التوبة تلزمه استبدال بطانته الفاسدة ببطانة وأعوان صالحين مصلحين، وإذا أصر على بطانته الأولى، واتخذ موقفاً من العلماء والدعاة ليس فيه أدنى مودة ولا محبة، فيكون قد حكم على نفسه أنه ليس صادقاً في توبته، وما أراد مما أقدم عليه إلا المتاجرة بالشعار الإسلامي، وهناك حالات أخرى تشبه حالة هذا الضابط:

 

منها: مستشرق يدخل الإسلام، ثم يتحول إلى مُنظِّر في الشؤون الإسلامية، والمتتبع لهذا التنظير يجده حافلاً بالانحرافات الخطيرة.

 

ومنها: كاتب علماني يعلن توبته، ويسلك طريقاً مماثلاً للطريق الذي سلكه المستشرق، ومن بين الشواهد الكثيرة على هذا البروز المفاجئ والمشبوه نكتفي بعرض المثال التالي:

 

برز فجأة ومن غير مقدمات اسمُ طالب عربي يدرس في إحدى الدول الغربية الكبرى، وصارت له صلات مع جهات رسمية عربية وأجنبية، وفور تخرجه انتقل إلى دولة عربية يحكمها جنرال مستبد، وأصبح مستشاراً له في الشؤون الإسلامية، وكان هذا الجنرال قد وصل إلى الحكم قبل سنتين [من عمل المستشار عنده] على ظهر دبابة.

 

نشط المستشار في الدعوة لهذا الجنرال في أوساط الإسلاميين، وكان يرسله سيده في طائرة خاصة داعياً إلى مؤتمر إسلامي يشرف عليه الجنرال الذي فُتِنَ كثيرُ من الدعاة به، وظنوا أنه مخلص في توجهه الإسلامي، وفعلاً فقد عُقِدَ المؤتمر، وكان المؤتمرون في واد والجنرال في واد آخر، وجاءت النتائج مخيبة للآمال. ظهر الجنرال على حقيقته أمام المؤتمرين، ورغم استعداد المدعوين في هذا المؤتمر إلى التنازل والالتقاء مع الجنرال في منتصف الطريق، فقد كانت الفجوة بين الطرفين أكبر من أن ترقع.

 

أدرك المستشار الداهية أن الأيام القادمة تنذر بشر مستطير، فمزاجية الجنرال متقلبة إلى حد لا يطاق، فقد يكون اليوم إسلامياً وغداً علمانياً، وإذا غضب بطش وسفك الدماء، وما على المستشار الإسلامي إلا الرحيل قبل أن يصبح ضحية من ضحايا سيده.

 

سمعنا فجأة أن المستشار انتقل إلى بلد آخر وأصبح المسؤول الفعلي في مؤسسة إسلامية رسمية وعالمية كان له دور في إنشائها... فكيف ترك سيده الأول، وكيف اطمأنت إليه الدولة الثانية المعادية للدولة الأولى؟ لا ندري، وكل الذي نعلمه أنه اختار العمل الإسلامي العالمي، وكان هدفه تطويع هذا العمل لسيده الأول، ثم لسيده الثاني، وفي الحالين فهو مستأجَر، ويعمل من أجل أطماع دنيوية، وغير مخلص ولا صادق مع الجهات التي يتعامل معها، ولعلّ فيما نقوله بعد قليل دليل على ذلك.

 

بقي سؤال مهم: ما هي المؤهلات التي رشحت هذا الطالب لعمل لا ينهض به إلا الأفذاذ من الرجال؟.

 

سألنا قادة العمل الإسلامي في بلده، فقالوا: الرجل غير معروف عندنا، ولم نسمع باسمه إلا وهو طالب في ديار الغرب. كان يحرص وهو طالب على إقامة تجمعات إسلامية هشة يسهل اختراقها، ويتجنب الالتزام في جماعة من الجماعات الإسلامية المعروفة، وإن كان يتظاهر بتعاطفه الشديد مع إحدى هذه الجماعات، ويضمن في المقابل موافقة هذه الجماعة على قيادته للتجمع الإسلامي.

 

لا يعد من العلماء، ولا من طلاب العلم، ولم يكن لدراسته علاقة بالعلوم الشرعية أو الإنسانية.

 

لا نستغرب أن يصبح هذا الطالب بعد تخرجه مدرساً في معهد أو جامعة، ولا أن يكون عميداً لكلية من الكليات، أما أن يكون مسؤولاً عن مؤسسة إسلامية عالمية في غير بلده، وليس لها أي علاقة باختصاصه، فهذا مما لا يعرفه ولا يجيب عليه إلا الراسخون في شؤون الأنظمة وطرق التعامل معها.

 

والشاهد مما نذكره أن اسم هذا الرجل قد اشتهر بين الجماعات والتجمعات الإسلامية لأن هذه المؤسسات لا تجد مثيلاً له في الخدمات والمساعدات التي يقدمها، فهو الذي يرسل إليهم الكتب الإسلامية، وهو وأصحابه الذين يقومون بترجمة الكتب العربية إلى لغات أجنبية، ويرسلونها إلى جمعيات الطلبة الناطقين بغير العربية، وهو الذي يتولى عقد المؤتمرات والمخيمات واختيار المحاضرين الذين يستقطبون هذه التجمعات، وهو الذي يقطف الثمرة، وهو الذي يبتعث عدداً غير قليل من الطلبة ليدرسوا دراسة جامعية... وكل هذه الخدمات يقدمها بالمجان وعلى حساب أسياده، وغالبية المستفيدين لا يدركون الثمن الذي يجنيه هذا الرجل من وراء هذه المعونات التي يجود بها من جيب غيره.

 

وقبل المضي في الحديث عنه نود الوقوف قليلاً عند المبادئ التي يؤمن بها ويعتقدها:

1- أسس هو ومجموعة من أصحابه مؤسسة عالمية [وكل أعماله وأنشطته عالمية] فكرية تعتمد المنهج الاعتزالي العقلاني فيما يصدر عنها من مؤلفات وبحوث، ويتبعه فرع استثماري له نشاطات واسعة - كما يقول المطلعون على أحوالهم -، ولهذه المؤسسة فروع في دول متعددة، وقد تمكنت من استقطاب عدد كبير من الكتاب الذين يؤمنون بهذا الفكر المنحرف، كما تمكنت من اختراق بعض الجماعات الإسلامية في البلدان العربية، وفي شبه القارة الهندية، ولذلك أسباب، من أهمها تقديم المساعدات المادية لفروع هذه الجماعات هنا وهناك.

 

2- يتعاون مع المؤسسة الإسلامية الرسمية في البلد الذي يقيم فيه، وهي سلفية في اعتقادها ومنهجها، ويخاطبها فيما يقدمه إليها بهذه الصيغة، وقد قُدِّرَ لي الاطلاع على تقرير قدمه لهذه المؤسسة يرسم فيه الشروط الواجب اتخاذها من أجل الحد من تغلغل المد الرافضي الإيراني في العالم الإسلامي، وشاركه في إعداد هذا التقرير [2] والتوقيع عليه أحد أعلام مؤسستهم الفكرية، وهو من المعروفين بتبني والتزام المنهج الاعتزالي العقلاني... ومن يتصفح ما كتبوه يبهره كثرة تردادهم لذكر السلفية والسلفيين، وكأنهم من رواد هذه المدرسة.

 

3- كان يُعربُ في جلساته الخاصة عن إعجابه بثورة الرافضة في إيران، وظن أحدهم أن هذا التأييد مرتبط بعلاقته الحميمة مع الدكتور إبراهيم يازدي وزير الخارجية السابق الذي كان زميلاً له في الدراسة، فقال له: ماذا تقول عن خلاف جناح يازدي مع الخميني، وعن إبعاده عن وزارة الخارجية؟ فأجاب: يازدي مخطئ، والحق كل الحق مع قائد الثورة الإمام الخميني.

 

وإذن: ماذا نقول عن اعتقاد هذا الرجل، وعن المبادئ التي يؤمن بها ويدعو إليها؟!

 

هل نقول: هو عقلاني اعتزالي؟، أم نقول: سلفي، مع أن مواقفه معادية للسلفية والسلفيين؟، أم نقول: هو من الذين يؤيدون ثورة الرافضة؟، أم نقول: إن المبادىء لا قيمة لها في حياته.

 

لنمضِ بعد هذه الوقفة في حديثنا عن الاختراقات التي حققها هذا الرجل.

 

لقد تعاقد مع مؤسسة اقتصادية كبيرة وخاصة، وهذا العمل الجديد يعني لأول وهلة أنه حصل على راتب مغرٍ,، كما يعني أيضاً أنه قرر اعتزال أنشطته الدعوية العالمية المشبوهة، لأنه من المتبادر إلى الذهن أن مثل هذه الشركة لا علاقة لها بالأنشطة الدعوية العالمية، وهذا الذي يعرفه الناس عنها... غير أن أخبار من لم نزود قالت: تولى هذا الرجل مسؤولية الأعمال الخيرية في هذه الشركة، وأصبح الرجل الأول القادر على إنفاق حوالي مائة مليون دولار كل عام بالشكل الذي يريد، بينما كانت الميزانية التي يتصرف بها فيما مضى لا تتجاوز مليون ونصف المليون من الدولارات، وكان هذا المبلغ المتواضع يحرجه أمام الذين يساعدهم، ويحد من طموحاته.

 

وبعد تسلمه مهام عمله الجديد تمكن من تشكيل مكاتب تابعة له في كثير من بلدان العالم، ووظيفة هذه المكاتب مدّه بكل ما تحصل عليه من معلومات عن أحوال ومخططات الدعاة والجماعات الإسلامية... لماذا؟.

 

استغل هذا الرجل مسألة التمويل، وهي من أشد نقاط الضعف عند هذه الجماعات، فالممول لابد أن يعرف حاجة الجماعة إلى هذه المساعدة، وأين ستذهب بها. وهذا مدخل أمني خطير، فكما قلنا سابقاً: إن الجماعات هي التي تسعى إلى الممول وليس العكس، ويستطيع هذا الممول استغلال حاجة الجماعات، والتي تمتنع عن تقديم ما يريد، أو تمارس أنشطة لا يرضاها، تحرم من المساعدة، وتضطر أخيراً إلى الرضوخ. ويطمع الممول فيتدخل مرة أخرى من أجل تغيير هدف أساسي من أهداف الجماعة. وتدخل هذه الجماعة معه في مفاوضات شاقة. وتتنازل شيئاً فشيئاً. وفي النهاية تلغي هذا الهدف، وهذا غير الاختراقات التي تحققها الجهة الممولة عن طريق شرائها ذمم بعض المسؤولين في هذه الجماعات، فيصبح الطريق سالكاً أمامها لتحقيق كل ما تريده.

 

ولا أقول: إن كل الجماعات تخضع لمثل هذه الأساليب، فإن منها من يرفض استقبال هؤلاء الملوثين بله التعامل معهم. ويرضى شظف العيش وحياة البؤس والفاقة.

 

ومن المؤسف أن المنظمات والمؤسسات اليهودية والصليبية، لا تعاني مثل هذه المشكلات، لأنها تعتمد على تمويلها الذاتي، وتمتلك إمكانات كبيرة تصل عند بعضها إلى بضعة مليارات من الدولارات، والتي تقبل المساعدات منها، تتلقاها دون الدخول في مساومات مع المحسنين، ومن غير أن تتنازل عن أي شيء من أهدافها وخططها.

 

وأخيراً: لا يزال صاحب هذه المؤسسة الاقتصادية الخاصة متمسكاً بهذا الرجل رغم اعتراضات بعض الأقارب والشركاء، واتهاماتهم له بإغداق هذه الأموال على الجهات التي يرضى عنها وتستجيب لأهوائه، وحجبها عن المستحقين الصادقين الذين يرفضون شروطه... ولا يزال المتصرف الأول في الأموال الخيرية التي تنفقها هذه المؤسسة.

 

ولا يزال هذا الرجل يتلقى في اليوم الواحد سيلاً من التقارير والمكالمات الهاتفية و \"الفاكسات\" في دولة مستبدة تكبت أنفاس المواطنين، وتراقب كل شيء، وبشكل خاص الزكوات والمساعدات التي ينفقها المحسنون داخل البلد وخارجه، ويتولى هذه المهمة أحد كبار المسؤولين، وله لقاءات دورية مع كبار المسؤولين عن المؤسسات التجارية من أجل ترتيب توزيع هذه الأموال بالشكل الذي يخدم سياسة الدولة.

 

إن المطلعين على سياسة هذا البلد، وعلى مكتب الأعمال الخيرية في هذه المؤسسة، وعلى خلفيات المسؤول عنه يؤكدون أنه من المستحيل:

 

- أن لا يكون لوزارة الداخلية علاقة بهذا المكتب.

 

- أن لا تطلع وزارة الداخلية على التقارير التي ترد مدير المكتب، وتستفيد منها، وتعتبرها رافداً من روافدها المهمة.

 

والخلاصة:

1- لابد من الانتباه إلى كل من يرتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة إلى الله، ومعرفة من الذي رفعه: هل هو عمله أم أن أجهزة الظالمين تولت هذه المهمة.

 

2- تاريخ المرء حلقات متصلة، ولا يجوز فصل حلقة منها عن الأخرى.

 

3- توزن الأمور بالموازين الإسلامية الدقيقة، وليس بالعواطف والمؤثرات المفتعلة.

 

4- الكفار الذين يدخلون الإسلام يتبوءون المكانة التي يستحقونها إذا حسن إسلامهم، وكذلك حال الزنادقة والمنافقين إذا أعلنوا توبتهم...

 

----------------------------------------

[1] - الذين شهدوا حجة الوداع ليسوا جميع المسلمين لأن أهل اليمن وشبه الجزيرة العربية كانوا قد دانوا بالإسلام.

[2] - مع أن التقرير سري، فقد حصلت على نسخة منه، ومن جهة أخرى فقد اطلعت على الرسائل التي كان يبعثها لأحد الإسلاميين المعروفين عندما كان طالباً، وفيها ما يكشف حقيقة اتصالاته المشبوهة، وأدركت أن الذي ائتمنني على هذه الملفات لم يكن مدركاً لما تحتوي عليه، فلم أصور شيئاً منها، وأعدتها إليه كما أخذتها، وجدير بالذكر أن ما كتبته عن هذا الرجل ليس له علاقة بملفات يجهلها القراء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply