أزمة أخلاق (1- 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنـها أزمة:

ليس من شيء في عالمنا المعاصر أكثرُ من الأزمات التي لا يخلو منها بلد من البلدان، أو مدينة من المدن، وأكاد أقول: لا تخلو منها معظم بيوت المسلمين.

 

فكثيراً ما نسمع أن هناك أزمة في الحكم في هذا البلد أو ذاك، ويعود نشوءُ هذه الأزمة لأسباب مختلفة:

 

منها: حدوث اختلاف قوي بين الحزبين الذين يتقاسمان السلطة - وما أكثر هذا النوع من الخلافات -، ويفتقد كلُ من هذين الحزبين الأكثرية في المجلس التشريعي - البرلمان - التي تمكنه من الانفراد في الحكم.

 

ومنها: أن يصل العسكريون إلى الحكم إثر انقلاب عسكري يحوكون خيوطه في الظلام، ثم يذعن الناس لسياسة الأمر الواقع، وينتظرون استقرار الحكم الجديد، وتنفيذ قادته للوعود المعسولة التي وعدوا الأمة بـها بعد نجاح انقلابـهم على النظام المهترئ العميل الذي أطاحوا به (على حد زعمهم)، ولكن الناس يفاجأون بانقلاب جديد على هذا الانقلاب، قد يكون صامتاً، وقد ينقسم الجيش إلى أجنحة تتقاتل فيما بينها، وربما تجاوزت شظايا ونيرانُ هذه المعارك الثكنات العسكرية لتصل إلى الآمنين من المدنيين في المنازل والأسواق والشوارع العامة.

 

وقصارى القول: إن الأسباب تتعدد بتعدد الأزمات التي لا نـهاية لها، ولابد أن ينعكس أثر هذه الأزمات على شؤون الإدارة والحكم، فيتغيب كبار المسؤولين عن مكاتبهم في الوزارات والمؤسسات العامة، وتتعطل مصالح العباد، ويستولي الهلع والقلق على نفوس الناس، وتكثر الأسئلة والهمسات عما ستنجلي عنه هذه الأزمة.. ومن المنتصر.. وما هي السياسة التي سيتبعها.. وهل في انتصار هذه الجهة أو تلك أمل في بتر دابر الفساد والمفسدين؟!.

 

غير أن المواطنين يصابون بخيبة أمل عندما يستقر الوضع لصالح جهة من الجهات المتصارعة، لأن الفساد على مختلف أشكاله يستمر، والقهر والاستبداد يزداد سوءاً، والأمل من التغيير يتبدد، وتترسخ قناعة أهل الخير والصلاح بأن هذا وذاك سواء لأنـهم شركاء في الحكم والفكر، وما بينهم من خلافات لا تعدو المصالح الشخصية.. وأن كل من حادّ الله ورسوله واتبع سبيل الشيطان لا خير فيه، ولو رفع راية العدل والإنصاف.

 

وتطرق مسامعنا بين الحين والآخر أخبار الأزمات الاقتصادية المتتالية، لاسيما ونحن نعيش في عصر هيمن فيه طاغوت ظالم اسمه "صندوق النقد الدولي"، فعندما يضغط هذا الصندوق الربوي على بلد من بلدان العالم تأخر في وفاء الالتزامات المطلوبة منه، ويأمره برفع الدعم عن بعض المواد الغذائية الضرورية، لابد أن يستجيب البلد للأمر المطلوب منه، ولو حاول أن يتهرب منه بعض الوقت، والاستجابة هذه يتحمل وزرها الفقراء الذين كان دخلهم يكاد لا يسد حاجاتـهم الضرورية قبل رفع الأسعار، فكيف يكون حالهم بعدها؟!.

 

ولما كان هؤلاء الفقراء يمثلون الغالبية العظمى من أبناء هذا البلد، فإنـهم لا يجدون وسيلة يعبرون فيها عن مشاعرهم عندما يقترب منهم شبح المجاعة إلا الخروج إلى الشوارع العامة متظاهرين مستنكرين، وقد تتحول المظاهرات إلى قتال دموي عندما تأمر السلطة رجال أمنها وقوات جيشها بقمع هذا الشغب (!!).. ولابد أن تكون الغلبة لقوات النظام المدربة على مثل هذه الأعمال، لاسيما وأنـها مزودة بالأوامر التي تسمح لها بقتل وجرح وأسر كل من لا يفر هارباً من أمامها.

 

يتفرق المتظاهرون، وكل منهم له شأن، فمنهم من يقتل وينشغل أهله بأمور دفنه، ومنهم من تعج بـهم المستشفيات ليعالجوا من الإصابات التي تعرضوا لها، ومنهم من يكون مصيره السجن ويوجه إليه ما يشاء المحقق من التهم، والبقية الباقية يعودون إلى منازلهم التي خرجوا منها يشكون أزمة اسمها "الخبز" ورجعوا إليها بأزمة أخرى اسمها القهر والاستعباد والإذلال.

 

وهناك أزمات بين السلطة والنقابات المهنية لا ينقطع الحديث عنها، فقد تطالب نقابة من النقابات برفع أجور العمال المنتسبين إليها ليكون دخلهم متناسباً مع ارتفاع الأسعار. وقد ترفض السلطة هذا الطلب لأن الميزانية لا تتحمل مثل هذه الزيادة، فلا تجد النقابة بداً من الإضراب الذي قد يؤدي إلى توقف إنتاج الشركات والمصانع، أو إلى تعطيل حركة السير وامتلاء الشوارع بالقمامة وبالروائح الكريهة التي تنبعث منها.. ثم تبدأ المفاوضات من جديد بين السلطة والنقابة للبحث عن مخرج من هذه الأزمة.

 

أجل.. إن الأزمات التي يهتم بـها الناس - كل الناس - كثيرة ومتنوعة، لكن أزمة واحدة لا تجد نصيبها من العناية والاهتمام والدراسة مع أنـها أزمة الأزمات، ومشكلة المشاكل، وعنوان رقي الأمم أو هلاكها واندحارها أمام أعدائها.. إنـها أزمة الأخلاق!!، وما من أزمة أخرى إلا ولها بـها صلة، فالسلطة الملتزمة بالعدل وقواعد الأخلاق تجوع إذا جاع الناس، وتشبع إذا شبعوا، وهكذا كان شأن عمر ابن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم:

 

إن جاع في شدة قوم شَرِكتَهُمُ  في الجوع أو تنجلي عنها غواشيها

 

جـوع الخليفة والدنيا بقبضته  في الزهد منـزلة سبحان موليها

 

إنني أفهم لماذا يثور الناس ويقاتلون من أجل خبز يومهم، لكني لا أفهم لماذا لا يثورون ويقاتلون من أجل دينهم الذي يعتدى عليه، ومن أجل أخلاقهم التي تنتهك وأعراضهم التي تـهتك.. فهل الطعام والشراب أهم عند الناس من الدين والأخلاق؟!.

 

وأفهم كذلك لماذا يعرف الخاصة والعامة، والصغير والكبير من غير استثناء أن هناك أزمة اسمها: إضراب عمال التنظيفات من أجل زيادة أجورهم، لكنني لا أفهم لماذا لا يعرف هؤلاء جميعاً بأن هناك أزمة اسمها أزمة أخلاق، ولماذا لا تكون إثارة الناس لهذه الأزمة بحجم إثارة عمال التنظيفات لقضيتهم؟!.

 

تلجأ السلطات أحياناً إلى إثارة أزمة لها علاقة قوية بالدين والأخلاق، ومن الأمثلة على ذلك مشكلة المخدرات التي تجتاح العالم كله، فتعقد من أجلها المؤتمرات والندوات، وقد يستدعي علماء ودعاة ليدلوا بدلوهم، وليبيّنوا حرمة تعاطي هذه السموم.. ثم يخرج المؤتمرون بقرارات من أهمها تشديد العقوبة على كل من يتاجر بالمخدرات، لكن هذه القرارات تبقى حبراً على ورق لأن المطلوب منهم تطبيقُها هم المدمنون على المخدرات، وهم الذين يَرعَونَ العصابات الخطيرة التي تتاجر بـها، ولديهم حيل ووسائل كثيرة يبررون من خلالها مواقفهم، ويلقون باللائمة على غيرهم.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطات لا تكافح المخدرات لأسباب دينية وأخلاقية، وإنما تكافحها لما لها من أثر مدمر على اقتصاد بلدانـهم، ولأن الإدمان مرتبط أشد الارتباط بالجريمة، وازدياد الجرائم يهدد أمن النظام واستقراره.. ولولا هذان السببان لبقيت المخدرات مسألة شخصية مثلها كمثل الخمور التي تبيحها القوانين المعمول بـها.

 

ومن الأدلة على ذلك أن بعض المسؤولين التنفيذيين عن مكافحة المخدرات يقولون في الندوات العامة:

 

إن الذين يداومون على ارتياد المساجد لا يتعاطون المخدرات.. وإن معظم التائبين إنما ترتبط توبتهم بأسباب دينية.. ثم يختمون حديثهم بالدعوة إلى نشر الوعي الديني بين الشباب.

 

ثم نسمع فيما بعد أن هؤلاء المسؤولين الصغار قد أبعدوا عن وظائفهم، مع أن بعضهم ليس متديناً، وقال الذي قاله من منطلق الأرقام والإحصائيات التي بحوزته، وهو لا يدري أنه قد تجاوز الحدود المسموح بـها، وليس من حقه أبداً التوصية بنشر الوعي الديني لأن المسؤولين الكبار لو خيروا بين انتشار المخدرات أو الوعي الديني لاختاروا الأولى على الثانية التي تـهدد فسادهم واستمرارهم في السلطة.

 

إن أزمة الأخلاق التي تعاظم أمرها، واستفحل شرها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام آخر تثير أمام الباحثين السؤال الآتي:

 

هناك صحوة إسلامية يلمسها كل إنسان أينما اتجه: في المساجد، والمدارس، والمصانع، والشوارع العامة، ورغم كل القيود التي تعترضها فإنـها والحمد لله تزداد رسوخاً وصلابة وكثرة.

 

وهناك أيضاً فساد عريض على المستويين الفردي والجماعي.. فكيف نجمع بين هذا وذاك؟!.

 

وقبل الإجابة على هذا السؤال فإنني أهيب بإخواني الدعاة أن يتجنبوا النظرة السطحية القاصرة التي لا يرى فيها بعض الصالحين إلا من كانوا على شاكلتهم من أهل الفضل والتدين.. يرونـهم في المساجد التي تزدحم بالمصلين، ويرونـهم أيضاً في المنتديات العامة والخاصة فيظنون أن الأمة بخير.. لكنهم لو أتيح لهم أن يروا دوائر أخرى مخالفة لدائرتـهم الخاصة لتمالكهم العجب والذهول، وظنوا أنـهم في بلد آخر غير بلدهم الذي يعرفونه، ولابد من التذكير أن الدعاة لن يكتب لهم النجاح وتحقيق الأهداف إلا إذا أحاطوا بعلل مجتمعاتـهم.

 

ومن جهة أخرى فإن انتشار الوعي الديني قد تحقق بقدرة الله - سبحانه وتعالى-، ثم بجهود بعض الصالحين من الدعاة الذين كتب الله لهم القبول عند الناس.. وإمكانات هؤلاء الدعاة بسيطة وغير منظمة، أما إمكانات أهل البغي والفساد فغير محدودة من قوة اتساعها، ففي الإطار الداخلي يتبنى مشروعهم جهات رسمية لها بنود في ميزانية الدولة، وفي الإطار الخارجي تقف الدول الاستعمارية بتاريخها البغيض وراء مخطط إبعاد المسلمين عن دينهم لأنه مصدر قوتـهم، ومبعث عزهم، ولا سبيل إلى تحقيق هذا المخطط إلا بنشر الفساد وإشاعة الظلم والاستعباد.

 

ومن جهة ثالثة فنحن لا نواجه أزمة بدأت آثارها تبرز منذ أعوام قليلة، ولا نتحدث عن المعاصي الفردية التي يتستر المذنبون بفعلها لأن مثل هذه الأفعال لم يخل منها أي عصر من العصور بما في ذلك عصر الرعيل الأول.

 

متى بدأت هذه الأزمة.. ومن الذي خطط لها وكيف.. وما هو مدى تأثيرها على الدعاة.. وكيف تكون البداية التي ينطلق منها المصلحون، وبمن يقتدون؟! هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذا البحث، ومن الله وحده نستمد العون والتوفيق.

 

المستعمر وضع أساس هذه الأزمة:

كان للإرساليات التبشيرية في بلدان العالم الإسلامي دور في اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب ونفوس من وقع في شراكهم من أبناء أمتنا، ومن أجل ذلك كانوا يعقدون المؤتمرات التي يستعرضون فيها أنشطتهم، ويضعون الحلول المناسبة للمشكلات التي تواجههم، وفي أحد أهم مؤتمراتـهم تدارسوا أسباب فشلهم في تنصير المسلمين رغم ضخامة الإمكانات التي يضعونـها في هذا السبيل، وفي هذه المناسبة ألقى القس زويمر رئيس مؤتمر القدس التبشيري خطبة، كان مما قاله فيها:

 

"أيها الإخوان الأبطال والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد المسلمين، فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيل إلي أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه.. إني أقركم على أن الذين أدخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرّفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر وعزت عليه لقمة العيش، وآخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية. ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية بـها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن هذا هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتـها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في خلال الأعوام السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتـهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً كل التهنئة"، وأضاف قائلاً:

 

"لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تـهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية.. والفضل إليكم وحدكم أيها الزملاء أنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد".

 

"إنكم أعددتم نشئاً (في بلاد المسلمين) لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن بنوا أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".

 

"إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضوع بركات الرب" أهـ [1].

 

في خطاب زويمر لفتات مهمة يجدر بكل مسلم غيور على دينه أن يتأملها جيداً، ولعل من أهمها قوله: ".. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتـها".

 

ومن هنا نستطيع أن نكتشف أسرار وأبعاد كثير من الأمور التي جرت ولا تزال تجري في بلدان العالم الإسلامي:

 

- قرر المبشرون في مؤتمرهم المنعقد سنة 1906 بالقاهرة إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعات الفرنسية لمناهضة الأزهر، والذي قالوا إنه يتهدد كنيسة المسيح بالخطر.

 

وفي سنة 1908 تم افتتاح الجامعة المصرية (أي جامعة القاهرة اليوم)، وكان من أبرز المؤسسين لها والقائمين عليها:

 

قاسم أمين، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، مرقص فهمي، السير جاستون ماسترو، يعقوب آرتين، إسماعيل صدقي، وسيرة هذه الأسماء وتاريخها الفكري خير دليل على أن هذه الجامعة لن تكون إلا منبراً من منابر التغريب والإفساد، وعلى هذا النحو قامت كليات ومعاهد ومدارس ابتدائية، وثانوية في مصر أولاً ثم في بقية البلدان العربية، وكلها ملتزم بالمنهج العلماني، ولكن بصياغة عربية معدلة لابد فيها من التدرج، وعدم مفاجأة الناس بما لا يطيقون.

 

- جميع القادة الذين تولوا شؤون الحكم والفكر في بلادنا متخرجون من مدارس تبشيرية صليبية، أو من جامعات غربية كجامعة لندن، وباريس، وبرلين، أو من فروعها في بلادناº كالجامعة اليسوعية، أو الأمريكية التي تخرج منها أكثر دعاة القومية العربية الذي تزعموا أحزاباً وحركات علمانية.. والكليات الحربية التي خرّجت قادة الانقلابات العسكرية لا تشذ عن هذه القاعدة في نـهجها، وفي تربية الضباط الذين يتخرجون منها، ولا يكتفي المشرفون على هذه الكليات بالمناهج العلمانية التي يتلقاها الدارسون قبل تخرجهم، وإنما يرسلونـهم إلى أمريكا وأوربا بما يسمونه دورات تختلف في مسمياتـها، وتتفق في نتائجها التي لا تخرج عن الإعجاب بالغرب وتقدمه في مختلف المجالات، وفي مقدمتها إقامة علاقات محرمة يحنون إليها بعد عودتـهم إلى بلدانـهم.

 

- أنشأ المشرفون على الجامعة المصرية كليات ومعاهد عليا أطلقوا عليها اسم "الفنون الجميلة" مع التزام قاعدتـهم الآنفة الذكر "التدرج وعدم مفاجأة الناس بما لا يطيقون" أتدري أيها القارئ الكريم ما هي هذه الفنون الجميلة؟!.

 

إنـها: التمثيل، والتصوير، والموسيقى، والمسارح، والرقص، والسينما. ولابد للدارسين والعاملين في هذا الميدان من اختلاط الرجال بالنساء، كما أنه لا يمكن للمرأة أن تمارس هذه المهنة إلا إذا خرجت سافرة ومتبذلة.. هذه هي فنونـهم الجميلة، أي أن ترقص المرأة مع الرجل على خشبة مسرح عام تمتلئ مقاعده بالمشاهدين فكيف إذا كانت هذه الفنون قبيحة؟!.

 

- كان من بين الذين مهدوا لهذا الغزو الهدام ناس تخرجوا من الأزهر، وآخرون مثقفون بثقافة إسلامية، ومن بين هؤلاء وأولئك: الشيخ رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق، يقول الأخير في تقريظه لكتاب "السفور والحجاب" للكاتبة السورية نظيرة زين الدين:

 

"إني لأحسب مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هل هو من الدين أم لا، ومن ضروريات الحياة الحديثة، أم لا، بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدنية عنها".

 

".. أما إخواننا السوريون فيلوح أن للسفور والحجاب عندهم تاريخاً غير تاريخه في مصر، فهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه بيننا المرحوم قاسم أمين منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنهم على ذلك يسيرون معنا جنباً إلى جنب في الطور الجديد الذي نسير فيه، طور السفور الفعلي الكلي الشامل"[2].

 

أما الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقد أعرب في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" عن إعجابه بحضارة الغرب، ودعا بعد عودته من فرنسا إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص، مدعياً أن الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء، بل هو أناقة، وفتوة[3].

 

ولم يكن موقف الشيخ محمد عبده بعيداً عن موقف هؤلاء المحسوبين على الأزهر، يقول عباس محمود العقاد وهو من المعجبين بالشيخ: إن دراسة الفنون الجميلة من بنات أفكار محمد عبده، ومن جهة ثانية فقد نقل عن بعض الذين كانت لهم صلة بالشيخ أنه هو الذين ألف كتاب "تحرير المرأة"، أو أنه هو الذي أملى أفكار هذا الكتاب على تلميذه قاسم أمين إرضاء للأميرة "نازلي فاضل" التي غضبت من كتابه الأول الذي ينتصر فيه للحجاب، وينتقد بعض السيدات المصريات اللائي يتشبهن بالأوربيات، فظنت الأميرة نازلي بأن قاسماً يعنيها.

 

الأميرة نازلي فاضل هي ابنة الأمير مصطفى فاضل نجل إبراهيم بن محمد علي الكبير، وكان والدها مصطفى فاضل يعتبر نفسه أحق بعرش مصر من الخديوي إسماعيل، وهي - نازلي - كانت ضد الخديوي عباس، ولهذا السبب كان لها صلة وثيقة بقصر "الدوبارة" وهو مقر المندوب السامي الإنكليزي، كما كان لها صالون يرتاده كبار أهل السياسة والفكر من أمثال: المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر، فارس نمر، يعقوب صروف، الشيخ محمد عبده، قاسم أمين، اللقاني، محمد بيرم، سعد زغلول.

 

ومن الجدير بالذكر أن هذه الأميرة المعجبة بالغرب، والداعية إلى السفور والاختلاط كانت تطبق الاختلاط في صالونـها يوم أن كان الاختلاط غير وارد طرحه للنقاش عند عامة الناس وخاصتهم إلا من كانوا على شاكلة رواد صالونـها.

 

إذن كان الشيخ محمد عبده من رواد هذا الصالون، ومن المعجبين بالأميرة، وكانت هي معجبة به كذلك، وقال الشيخ فيها كما جاء في كتاب تاريخ الإمام -: "حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنـزل الأبـهى، والمقام الأسمى"، وما كان الشيخ - وهو الذي يتقد ذكاء - يجهل انحراف هذه الأميرة وفسادها، ولا عجب إذا علمنا أنـها تزوجت فيما بعد من طبيب أمريكي فأخرجها عن الإسلام، وتنصَّرت والعياذ بالله وكذا ابنتها "فتحية"، شقية الملك فاروق فقد تزوجها قبطي مصري، بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها، وفارقها، ثم قتلت فيما بعد في أوربا"[4].

 

- إذا كان الاختلاط والسفور قاصراً على صالونات: نازلي فاضل، ومي زيادة، وروز اليوسف، وكان رواد هذه الصالونات نوعية محدودة من أهل الفكر والسياسة، فإن هدى شعراوي تمكنت من السير بـهذا النشاط الهدام خطوات أخرى، ففي سنة 1919 قادت مع زوجة سعد زغلول المظاهرة النسائية التي طافت شوارع القاهرة هاتفة بالحرية، "ثم تجمعن أمام ثكنات قصر النيل، وهتفن ضد الاحتلال.. ثم بتدبير سابق، ودون مقدمات ظاهرة، خلعن الحجاب، وألقين به في الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النار.. وتحررت المرأة!!! "[5].

 

وفي عام 1923 دعت عدداً من النساء لحضور اجتماع في منـزلها، وترتب على هذا الاجتماع بدء تشكيل الاتحاد النسائي المصري، الذي أخذت مجالات أنشطته تتطور وتتشعب داخل المجتمع المصري.

 

وفي عام 1944 تمكنت مع زميلات لها من عقد المؤتمر النسائي العربي الأول الذي أثار موجة غضب واستنكار في عدد من العواصم العربية.

 

وكانت هدى شعراوي في جميع أنشطتها النسائية مقلدة للمرأة الغربية، ومنفذة لما يطلب منها في الاتحاد النسائي الدولي، وفضلاً عن هذا وذاك فقد كانت معجبة بكل ما في الغرب، حتى شراسة أخلاق الرعاع في باريس كانت معجبة بـها، ففي خطبة لها بمناسبة الاحتفال بالعيد العشرين للاتحاد النسائي الذي عقد في مدينة روما تقول:

 

".. ومنذ ذلك اليوم - أي يوم قبلت عضوية مصر في الاتحاد النسائي الدولي - قطعنا على أنفسنا عهداً أن نحذو حذو أخواتنا الغربيات في النهوض بجنسنا مهما كلفنا ذلك، وأن نساهم بأمانة وإخلاص في تنفيذ برامج الاتحاد النسائي الدولي الذي يشمل أغراضنا المشتركة".

 

وتقول عن فرنسا في أول زيارة لها:

 

"وقد أعجبني في باريس كل شيء حتى شراسة أخلاق الرعاع فيها، لأنـها لا تخلو من خفة الروح وتعبر عن شخصية لا تكلف فيها ولا تغيير، فالفرنسيون أشخاص متفردون بعبقريتهم، مستقلون في أفكارهم وطباعهم وأعمالهم وصفاتـهم حتى في عيوبـهم".

 

وفي خطبة لها أمام الطاغية كمال أتاتورك قالت: ".. إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية، شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر، والمطالبة بحقوق المرأة.. وأضافت: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم وأسموك [أتاتورك] فأنا أقول: إن هذا لا يكفي بل أنت بالنسبة لنا [أتاشرق] فتأثر كثيراً بـهذا الكلام الذي تفردت به، ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وقد شكرني كثيراً في تأثر بالغ، ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته لنشرها في مجلة [الإجيبشيان]"[6].

 

إن هدى شعراوي برت بعهدها الذي التزمت به في روما!! فحذت حذو المرأة الغربية، واتخذتـها قدوة لها، وفي تركيا رشحت كمال أتاتورك ليكون أباً للشرق كله، وليس أباً لتركيا وحدها، وهي التي لا تجهل فساد هذا الطاغية وامتهانه للمرأة عندما جعل من قصوره موطناً للدعارة والفجور، وإذا كنا اليوم نقرأ مذكرات بعض الذين عاشوا مع أتاتورك، ونقرأ فيها فظائع عن مخازيه بحق المرأة نعف عن ذكرها في كتابنا، فكيف بمن كانت على صلة قوية بتركيا ورجال السياسة والفكر فيها أيام الطاغية أتاتورك؟!، ولا تجهل هدى شعراوي شدة عداوة أتاتورك للإسلام والمسلمين، فكيف تعمل على تحرير المرأة ثم تصفق من جهة أخرى للذي استعبد الأمة التركية رجالاً ونساءً.. عقيدة وفكراً، وجعل من نفسه إلهاً يعبد؟!.. إن هدى شعراوي تريد عن علم وخبث أن يحلّ بمصر خاصة والشرق عامة ما حلَّ بشعب تركيا.

 

وخلاصة القول: إن هدى شعراوي استفادت من أخطاء: نازلي فاضل، وروز اليوسف، ومي زيادة فتداركتها، وأقامت علاقات واسعة مع أهل الفكر والسياسة والإعلام، ومن ذلك بعض شيوخ الأزهر، وما كانت تخطو خطوة جديدة في مسيرتـها إلا وتـهيء لها مختلف الأسباب، وتقف في بعض الأحيان في صف الذين يدافعون عن الإسلام، ولها في ذلك رد على بعض الأقباط.

 

لكن هدى شعراوي رغم إمكاناتـها الواسعة ما كان لها أن تحقق هذا النجاح الذي أحرزته لو لم تكن ابنة عميل الإنجليز محمد سلطان باشا، وزوجة علي شعراوي باشا الرجل الثاني بعد سعد زغلول في حزب الوفد، ولولا دعم الدوائر الاستعمارية لها داخل مصر وخارجها.

 

أما بالنسبة لدور الشيخ محمد عبده المؤسف وعلاقته بالأميرة نازلي فاضل وبمن كان يتردد على صالونـها، فلا أظن أن الشيخ كان يريد للمرأة المسلمة ما يريده الإنجليز والفرنسيون ولا حتى ما تريده نازلي وغيرها، ولكن خصومته مع الخديوي ومصالح دنيوية أخرى دعته إلى الاستعانة بـهذه المرأة وباللورد كرومر الذي كان يتردد على صالونـها، وكان رواد هذا الصالون من معارضي الخديوي.. والشيخ في هذا مؤاخذ غفر الله له.

 

* * *

 

إن سياسة الإنجليز والفرنسيين كانت منسجمة انسجاماً كاملاً مع ما قاله زويمر، وخير مثال على ذلك ما ذكره الجبرتي عن أحداث سنة خمس عشرة ومائتين وألف، قال - رحمه الله -:

 

"ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونـها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيس العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التداخل أولاً مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخضاعه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق، وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوا من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم، فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات وغيرهن من النساء الفواجر، ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصاً عقول القاصرات. وخطب الكثير منهم بنات الأعيان، وتزوجوهن رغبة في سلطانـهم ونوالهم فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزينات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابـها وأضيافها على مثل شكلها. وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام.

 

"ومنها أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون، ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاذيف بسخيف موضوعاتـهم وكتائف مطبوعاتـهم وخصوصاً إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غانئهم وتقليد كلامهم شيء كثير.

 

وأما الجواري السود فإنـهن لما علمن رغبة القوم في منطق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً فرادى وأواجاً فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان، ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك"[7].

 

----------------------------------------

[1] الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب، وجذور البلاء لعبد الله التل ص 275 276، وزويمر من أخبث المستشرقين وأشدهم عداوة للإسلام والمسلمين.

[2] صدر هذا الكتاب سنة 1928، انظر مجلة الهلال، أغسطس 1928 [عن كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي، ص: 631].

[3] عودة الحجاب: 1/26، للدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل، وكتاب: الإسلام والحضارة الغربية، ص: 36، د. محمد محمد حسين.

[4] - عودة الحجاب، القسم الأول، معركة الحجاب والسفور، د. محمد بن أحمد بن إسماعيل، ص: 37 - 39.

[5] - واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص: 258.

[6] هذه المقاطع يمكن العودة إليها في الصفحات التالية من مذكرات هدى شعراوي: 129، 249، 454، كتاب الهلال، وكتاب عودة الحجاب، مصدر سابق، ص: 113.

[7] تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، للشيخ عبد الرحمن الجبرتي، دار الجيل: 2/436.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply