طفل مسلم حتى النهاية ...


بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخذت بضعة أوراق من على الطاولة، ثم بدأت في حل مسائل الرياضيات الصعبة، تعمقت بروحي وقلمي، وركزت بناظري لتلك المسألة، حتى أحسست بيد لطيفة تهزني، ابتسمت حينها، والتفت بحب ووفاء...

 

نعم، دائما ما يأتي بدر ليضفي على وقتي مرح وسرور، أسألته المتكررة، وأسلوبه الجاد، مع أنه طفل في الخامسة من عمرة، إلا أنه وأشهد أنا على ذلك منذ نعومة أضافره، عالم بمعنى الكلمة، تكفيك ابتسامته التي تبعث في النفس هدوء وروعة.

بدر، هو ابن جارنا، لا يقطن في بيتهم أبدا،... من يفقده، يجده معي،، هو كذلك، يعتبرني صاحبه، وصديقه المخلص!!

إلتفت إليه، فقال لي: ألم تنتهي بعد من المذاكرة يا أحمد؟

تأملت في وجهه الطفولي، وأمعنت النظر بدون إجابة، كنت أنتظر ردة فعلة. فصرخ في وجهي صرخة أفزعتني، وضحكنا معا طوال ساعة، ثم لم يلبث حتى بدأ باستفساراته.

بدر: أحمد، لماذا خلقنا الله - سبحانه وتعالى-، أليس للعبادة؟

فأجبته: بلى هل تحفظ الآية التي علمتك إياها؟

بدر: نعم \" وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون \"

بدر: الله بعث الرسول ليدعو الناس إلى الإسلام، فلماذا مات الرسول، والله - تعالى - يحبه؟

- الله - تعالى - خلق الرسول بشر، ووكل له مهمة، وحكمة موت الرسول لا يعلمها إلا الله.

- بدر: آمنتُ بالله، ربما لكي يكشف الله المسلمين من المنافقين.

- يا حبيبي يا بدر، إن الله يعلم من المؤمن ومن المنافق.

- بدر: وهل أبي منافق، إنه يدخن، وقلما يصلي في المسجد؟

 

عندها غيرت الموضوع، وتهربت من الإجابة، كانت بعض الأسألة التي يسألني بدر، لا أستطيع الإجابة عنها، فيلجمني بعضا، وأسكته بعضا...

 

في أحد الأيام خرجت عصرا، ووجدت بدر يبكي كثيرا، فقلت في نفسي، ربما وبخته أمه على تأخره، ولم أشأ أن أتدخل وقلت لنفسي سنلتقي الليلة، وعندما حان الليل لم يأت كعادته، سبحان الله: هل منعته أمه من أن يأتي؟ لا أدري... أين بدر؟، أحس بأن الفراغ يقتلني.. هذا الطفل يملئ وقتي، ويزيد إيماني ويجدده، كأننا نتذاكر في الله بل هو حق.

انطوت تلك الليلة، وفيها من القلق ما منعني أن أنام، استيقظت كعادتي، وخرجت لصلاة الفجر، والتفت لبيت الجيران، أطلت النظر، فسمعت صوت بكاء بدر، ترى ماذا جرى؟ سأطرق الباب، وأرى ماذا يجري، ربما كان بدر مريضا، ففتحت والدته الباب، فقفز إلي وتعلق بملابسي، وراح يبكي: أرجوك خذني معك، أريد أن أذهب لأصلي معك.

فتكلمت والدته حينها: لقد أزعجنا بدر منذ الأمس، وأنت تعلم أن والده، لا يصلي الفجر، إلا والصبح قد أشرق.

المهم، أخذته معي بعد أن لبس ملابسه، كانت سعادته غامرة، كنا نمشي في جو بارد، رجلان أحدهما في عمر يناهز الثانية عشر، ورجل لا يزال في ربيعه الخامس، أي حب هذا الذي يجمعنا.

تعلم بدر مني الصلاة، ويا سبحان الله عندما ترى وجهه وهو يصلي، تجد الخشوع في صورته، تحس بصدق ركوعه وسجوده، لا يلتفت، هذا ما أعجبني فيه، وقربني إليه.

ليس ككل الأطفال، يسابق إلى الصف الأول، وهم يسابقون إلى الصف الأخير، يصلي السنة بعد الفريضة، ويطلب مني أن أقرأ له القرآن، وفي بعض الأحيان أطلب منه أن يتلو لي إحدى السور القصار، فيبكيني، صوت شجي، وقلب خاشع، والله إن صوته الحاد يهزني من أعماقي، ويجدد إيماني........

مرت ثلاث سنوات، و يوما ما وجدت على وجهه علامات الحزن والكآبة. فتسللت معه في الحديث وفهمت أن إمام المسجد يطرده مع الأطفال الذين يفعلون الفوضى في المسجد، فأخذته من يده إلى الإمام، وهناك.

قلت لإمام: إن بدر يريد أن يقتص منك لمنعه قراءة القرآن.

انتبه الإمام: ماذا تقول، هذا الطفل يريد أن يقتص مني يا أحمد؟.. وكيف ذلك.

بدر: أنت تطردني من المسجد دائما تمنعني من الصلاة والقرآن قال الله - تعالى -: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم\".

فساد صمت عظيم علينا، ومن هول المفاجأة لم يستطع الإمام أن ينطق بحرف، راحت الأفكار تتردد في ذهنه، يا ويلتي منعت أن يذكر أسم الله في المسجد، وصددت عنها، وسعيت لخرابها، يا ويلتي ماذا فعلت، وأي جرم ارتكبت....

فانسابت الدموع من عيني الإمام..... فاعتذرت منه، وقلت له: إن بدر لا يقصد، هيا يا بدر، واعتذر منه......

خرجنا من عند الإمام، فواجهة صديقي الصغير بدر، فوبخته، ونهيته أن يتسّرع في الحكم على الناس..

فأطرق صاحبي رأسه، وما عاد يحويه نظرات عيني، فأمسكت بدر من كتفه، لقد واظب على حفظ القرآن الكريم، ودنوت من وجنته، فطبعت عليها قبلة حب وإخلاص.

فأشرق وجهه بابتسامة عذبه

ومذ ذلك اليوم، تغيرت وجهة نظر الإمام إلى بدر، وراح يدارسه القرآن، حتى بلغ العاشرة وهو يحفظ القرآن كاملا.

ومضت شهور عدة، فوفقني الله، ونجحت، وذهبت إلى بعثة لسنتين إلى إحدى الدول الأجنبية، وكم رأيت أننا نعيش في نعمة، وأن المسلمين يعانون هناك. فمرة كنت أمشي في الشارع خلف امرأة محجبة، فجاءت من خلفها فتاة تجري، شدت حجابها بقوة وراحت تركض، فأمسكتها، وأخذت الحجاب من يدها وصفعتها على وجهها وأنا غاضب، وأطرقت رأسي لأعيد الحجاب الذي أخذته، وأنا أحس أني عاجز، عن كل شيء....، فشكرتني أختي المسلمة، وتفرقنا.

وإن كنت بعيدا عن بلادي، فلي صديق عزيز، أنتظره، وهو حتما كان يفتقد صحبتي، ويهون على نفسه بالصبر واليقين...

أخير نجحت وبتفوق، ولم يسنى لي جفن، وأنا في الطائرة، كنت أرغب أن أبهج عيني برؤية صديقي، فلم أستطع محادثته وأنا مسافر.......

عدت إلى الديار وأنا أحمل في طيات صدري ألم وحنين، حتى أقبلت مناظر قريتي الصغيرة أمامي، فغمرتني السعادة، وشكرت ربي..... وهناك

 

التقيت بأحبابي وأصحابي، وتركتهم في فرحهم، أما أنا فتوجهت إلى منزل صديقي بدر. فقابلني والده، فسألته عن بدر، فسكت برهة من الزمن، وكاد أن يتكلم، فعلمت أن بدر غير موجود هنا، فتركت والده ومضيت مسرعا إلى المسجد، كان إحساسي يقودني إلى هناك، حقا، مثل هذا الوقت يقرأ بدر القرآن، ولكن أخطأت التقدير، فلم أجد بدر......

كان أصحابي وجيراننا مجتمعين في البيت، في حفلة نظمها والداي بمناسبة عودتي ونجاحي، ولكني لم أذق طعم السعادة أبدا، لفقدان بدر.....

أحست والدتي بي، وأخذتني على انفراد،

- وقالت: قل لي ما بنفسك، أهو بدر؟

- فقلت: نعم يا أمُاه، ولن يصيب النوم عيني إلا برؤيته؟ أين هو يا أمي، أين؟

- وهل ستترك الحفلة وتذهب إليه؟، أولاََ عدني بأن لا تغادر المكان قبل خلوه من الضيوف، وسأبلغك بمكان بدر..

- إن شاء الله.

- قلت عدني يا أحمد.

- أعدك...

- إنه في المستشفى

زادت أسئلتي كيف ولماذا ومتى دخل المستشفى، أما أمي فأجابتها واضحة صريحة: لقد وعدتني، أحسست بانهيار تام، وسالت دموعي، فأمسكت الباب وأردت أن أخرج، غير أني وعدت والدتي، يا ليتني ما سألتها، فدخلت صالة الضيوف، و ووجدت آذانا صاغية، فأمسكني أحد رفاقي، ومسح دموعي، وواساني، ثم خرج الجميع وقالوا: كلنا سنذهب لزيارته معك؟

توجهت للمستشفى في وقت قد زال الشفق منه، وأضرم الليل فيه، حتى كنت أول الواصلين،، كان حدسي يقودني إليه، دخلت غرفة بدر، فشممت رائحة عطر طيبة، وأبصرت نورا في وجه حبيبي، فهمست بصوت رقيق: بدر، بدر.

فانتبه بدر لصوتي، وحاول النهوض، فأسندته إلي، و رأيت العرق يتصبب منه، فوضعت يدي على جبهته، كان جسده ساخنا كليا.....

حاولت إيقاضه، ولكنه لا يتحرك، كان المرض قد أخذ من جسده كل مأخذ كانت دموعي تتناثر، وأنا أرى حالته، فسمعت صوتا ضعيفا يصدر منه: لا تبكي.... لا تبكي يا أحمد.

فتناولت كأس ماء وصببته على وجهه، فأفاق قليلا، فألفيت ابتسامة على وجهه،...

- فقلت: ماذا حصل يا بدر؟

- بدر: أواه، يا حسرتاه مما أذنبت..

- ماذا حل بك يا بدر؟ أين رونقك وابتسامتك...

- بدر: إن الذي تراه أمامك هو شيطان، شيطان في صورة ملاك.

- لا تقل ذلك أرجوك...

- بدر: أخي و حبيبي في الله، إني أرى نورا يتجه نحوي.. نورا يشرق به فؤادي

 

فرفع بدر يده في اتجاه الباب، فالتفت ولم أجد أحدا.....

فقلت: بدر ماذا تهذي ماذا تقول، اشتقت إليك.

- بدر: الموت قادم لا محالة، إني أرى النور يزداد..

فزاد تصبب العرق، فقلت ودموعي تنساب بغزارة: لا.. لا تقل ذلك يا بدر أنت لا تزال صغير، تذكر أن عمرك هو 12 سنة.

فلاحت صور الماضي أمام بدر، راح يتذكر جلساتنا معا، وضحكنا، وقراءة القرآن، تذكر أيام وأيام، عاشها في طاعة الله، كان يبتسم لكل ذكرى يمر بها، ولكن إذا مرت به ذكريات والده بكى، عندما كان ينهره ويضربه لأنه يصلي، كان والده لا يقرب الصلاة، كان يتناول الخمر، فيمسك ببدر ويضربه ضربا مبرحا، ويحبسه، ويمنعه من الصلاة، ومع ذلك كان بدر يدعو له بالهداية، هنالك ندم بدر عندما كان يكذب على والده ليذهب للصلاة في المسجد....

رفع بدر مرة أخرى يده في اتجاه الباب، وقال: إني أرى نورا عظيما.

فاحتضنته، فإذا به يقول: مُد يديك يا رسول الله، فإني أشهد ألا إله إلا الله، وأنك لرسول الله...

فتوقف قلبه عن النبضان، ومات صاحبي بعدها، فأجهشتُ بالبكاء، فخرجت من الغرفة، وأبصرت في وجه أصحابي، وأنا أقرأ في عيونهم الحزن....، لموت بدر....

لا اله إلا الله

لقد مات بدر وسبقني إلى الجنة.. الجنة.. الجنة..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply