الابتكار .. تجديد في دماء العمل الدعوي


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يمثل التجديد دائما سببا رئيسا من أسباب النجاح في جميع المشاريع وفي كل المجالات تقريبا..وغالبا ما تصاب الأعمال والمشاريع التقليدية بالفشل ولو بعد قليل من الزمن، إذ إن عنصر الابتكار واستحداث أفكار ورؤى جديدة يستهوي الفئة المستهدفة فيزيد الطلب على المعروض ويحدث الرواج المطلوب.

وهذه تكاد تكون قاعدة عامة ومطردة في كل المجالات، ولاشك أن مجال الدعوة إلى الله واحد من هذه المجالات التي تتطلب تنوعا في الوسائل وتجديدًا في أساليب الطرح وابتكارا في كيفية العرض للوصول إلى المدعو وإيصال الدعوة إليه أو جذبه هو إليها.

ويمكن أن نقول إن التعامل مع الدعوة كمشروع تجاري ـ في نظري على الأقل ـ من الأهمية بمكان، بمعنى الاهتمام بها كمشروع عمر، والنظر المتعمق في وسائل وطرق إنجاح هذا المشروع وعمل دراسات جدوى لحساب نسبة المكاسب والخسائر والمصالح والمفاسد التي يمكن أن تنجم عن كل فكرة جديدة أو ابتكار دعوي ومدى ملاءمة هذه الأفكار لإمكانيات الداعية حسب الظروف المتاحة واستغلال أقل الإمكانيات لتحقيق أكبر الأهداف.

ولابد أن يلتفت الداعية صاحب هم الدعوة الذي يريد إنجاحها عند الابتكار إلى أمرين مهمين:

الأول: زيادة القدرة على توليد الأفكار وتنويعها.

الثاني: تطوير المهارات لتطبيق تلك الأفكار وتنزيلها على أرض الواقع.

ومن المعلوم أن الأداء الروتيني قد يفقد الداعية بعض أتباعه، كما أنه يحرمه أتباعا جددا يمكن أن يكتسبهم بمجرد إدخال تغييرات بسيطة في طريقة دعوته أو فتح باب جديد لتطوير عرضها، ونحن هنا نقصد الدعوة بمعناها الشامل والواسع لا مجرد درس علم أو موعظة، فالدعوة أكبر وأوسع من أن تحصر في ذلك، ولا مانع أبدا أن يفتح الإنسان بابا لنشر الدين ربما لم يخطر على بال أحد قبله، فالمعروف أن وسائل الدعوة ليست توقيفية كما أنها بإمعان النظر لا نكاد نراها تقف عند حد معين طالما أنها لا تخالف دين الله - تعالى -وأصول شريعته.

ومن الممكن أن يعمل الإنسان عقلة وفكره ليستحدث وسيلة يجمع بها قلوب الناس على دين الله أو يحبب الناس في ربهم ورسولهم أو حتى يعلمهم بها دينهم وهذا باب يعتمد على سعة الأفق والقدرة على الابتكار والتصور والتطور. فالابتكار هو عملية إبداع أشياء جديدة لا يوجد لها مثيل، ولا تظهر قيمة هذا الإبداع وذاك الابتكار حتى يتم تطبيقها على أرض الواقع، ولابد لوجود الابتكار من وجود الرغبة في الإجادة والحافز على التفكير والقدرة الإبداعية لإيجاد وتصور الأفكار الخلاقة.

 

الابتكار عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأصحابه:

قد يظن البعض أن مثل هذه الموضوعات جديدة أتى بها الفكر الإداري الحديث وأثمرتها وأفرزتها البحوث الحديثة، وقد يتعجب البعض إذا قلنا إن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم على كافة أركان ومقومات النمط القيادي الابتكاري الذي يدعم ويشجع الابتكار في أعلى درجات، وذلك في كل مظاهر إدارته - صلى الله عليه وسلم -.

ولعل من بين أعظم جوانب شخصيته القيادية العبقرية الفذة أنه تمكن ببساطة ويسر من تفجير الطاقات الإبداعية والابتكارية لصحابته على اختلاف قدراتهم ومستوياتهم وجعل كلا منهم يعمل عقلية وفكرة لخدمة الفكرة التي آمن بها وذلك بأعلى درجات الكفاءة والفعالية الفردية والتنظيمية.

فقد جعل كلا منهم قائداً متميزا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسئولية، وينغمس في العمل لفكرته بكل كيانه ووجدانه، ويشارك ويبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه دون حتى انتظار أن يطلب ذلك منه.

 

الصحابة والابتكار

ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة حين نقرر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استطاع أن يحقق بهؤلاء الأفراد العاديين في عاداتهم وطباعهم ومستوى حضارتهم وإمكاناتهم أعمالا غير عادية تفوقوا بها على أكثر الدول المحيطة بهم عدة وعتاداً وتنظيماً، وحضارةً كالفرس والروم، وهذا هو ما يعتبر بحق معيار نجاح أي قائد.

فإذا كان الابتكار يعرف في أبسط معانيه بأنه التوصل إلى وسيلة جديدة غير مألوفة لتحقيق نفس الهدف. فهذا هو ما حدث بالفعل في ذلك المناخ الإبداعي الذي صنعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصحابته.. ورغم أن سيرتهم رضوان الله عليهم مليئة بمظاهر النمط الابتكاري إلا أنني سوف أكتفي بالإشارة إلى موقفين أو ثلاثة لتكون دليلا على ما سواها من المواقف والتي تجلت في مناح كثيرة من حياتهم - رضي الله عنهم - أجمعين.

 

سلمان والخندق

لعل هذه واحدة من أعلى درجات النمط الابتكاري والتي تدلل على مدى انغماس الصحابة بكل وجدانهم وكيانهم عقلاً وفكراً وإحساساً بمسؤوليات الأمة وكيف استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يحول الفرد العادي إلى مشارك ومبادر مبدع ومبتكر بشكل غير عادي.

لقد أتى الأحزاب إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين، والقضاء تماما على هذه الدولة الناشئة وهذا الدين الجديد، وكانت أعدادهم من الكثرة بحيث لا يستطيع المسلمون الوقوف أمام جحافلهم، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للتشاور في الأمر وكانت الفكرة المبتكرة وغير المألوفة عند العرب حينئذٍ, من سلمان الفارسي وهي حفر خندق في الجزء الذي يمكن اقتحام المدينة منه وهو بين لابتين مرتفعتين، وهو ما يدل على مدي انغماس سلمان وانهماكه في التفكير المسئول والقائم على دراسة ومعرفة بجغرافية الموقع وإعمال عقله وفكره لحل المشكلة، وكأنه القائد الأعلى والمسئول الأوحد عن حلها.

وكم كانت فكرة موفقة وصائبة قلبت الموازين، وحولت ضعف المسلمين قوة، وقوة المشركين ضعفا، وشكلت لهم مفاجأة إستراتيجية لم يحسبوا لها حساباً وقلبت خططهم وتدبيرهم رأساً على عقب ووضعتهم في موضع الدفاع بدلاً من الهجوم وأفقدتهم ميزة العدد والعدة التي كانوا يتمتعون بها..

 

نعيم بن مسعود مفرق الأحزاب

ولم يكن رأي سلمان هو الابتكار الأوحد في المعركة وإنما كان هناك إضافة ربما لا تقل عن الأولى أتت هذه المرة على يد مسلم لم يمض على إسلامه ساعات وهو نعيم بن مسعود الذي جاء إلى رسول الله وقال له: “يا رسول الله إني أسملت ولم يعلم قومي بإسلامي فمرني بما شئت”، فكانت العبقرية في القيادة والتصرف الفذ من نعيم.. فوجهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يعلن إسلامهº فهو في المسلمين فرد لن يضيف شيئاً إذا انضم إلى صفوفهم المعلنة، وإنما عليه أن يخذل عنهم، فإنما الحرب خدعة أو كما قال له - صلى الله عليه وسلم -.. فانطلق نعيم بن مسعود كما هو معروف في السيرة، ووضع خطة متقنة لإفساد العلاقة التحالفية بين اليهود والمشركين وزرع بذور الشك والفرقة بينهم بحيث ينفض عقدهم وحلفهم ويفشل كيدهم وتدبيرهم ويرجع جمعهم دون إلحاق أي أذى بالمسلمين، وكل ذلك بدون استخدام سهم واحد، وإنما من خلال إعمال الفكر واستخدام العقل بأعلى درجات الفعالية والإبداع.

ودبت الشبهة من كلام نعيم في نفوس قريش وغطفان وأصبح اليهود لا يطمئنون إلى قريش وغطفان وقريش لا تطمئن إلى اليهود، وخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم وكانت العاقبة نصر الله لعباده.

 

الحباب وغزوة بدر

وقد شهدت غزوة بدر قبل الأحزاب الرأي الصائب من الحباب بن المنذر في تغوير الآبار ومنع المشركين عنها، وبقي الماء عند المسلمين يشربون ولا ماء للمشركين فكان لهذا الرأي أثره العظيم في انتصار المؤمنين على الكافرين.

ومن تتبع سيرة الصحابة وجد العجب في تفنن الصحابة في خدمة هذا الدين بكل الوسائل وتسخير كل السبل المتاحة لنشره ونصره.

 

زماننا أولى بالابتكار

وفي زماننا لا تقل الحاجة إلى تحديث الأداء وابتكار الطرق واستخدام الوسائل المستجدة في العلم والتكنولوجيا في إيصال الدين للخلق وإقامة الحجة عليهم بما يصح إطلاق إقامة الحجة به، وإيصال علوم الدين إلى كل الآفاق.

ولقد قرأت عن بعض الأفكار التي يطرب لها قلب المؤمن ويعجب لها في آن ويعلم أن هناك في الدنيا من يفكر لهذه الدعوة وهو وعد الله بنصر هذا الدين.

قرأت عن رجل ليس بعالم ولا طالب علم لكنه حامل هم فكر في طريقة يخدم بها دينه فهداه عقله أن ملأ سيارته بكتب العلم من لغات عدة ثم كتب على سيارته أيضا بلغات عدة من أراد أن يقرأ عن الإسلام فليوقفني، فإذا أوقفه إنسان سأله عن لغته ثم أعطاه كتابا أو كتبا مما في السيارة بهذه اللغة فأسلم على يديه أناس لا يعرف عددهم كما أنه لا يحسن لغتهم.

وقرأت مرة عن رجل في بلاد الغرب حجز المقعد الأول في إحدى خطوط المواصلات ودفع أجرته لمدة سنة، ثم كتب على هذا الكرسي إعلانا صغيرا مفاده \"إذا أردت أن تعرف شيئا عن الإسلام فما عليك إلا أن تتصل بهذا الرقم.. وكتب رقمه\"، فكان بعد ذلك يتصل به الناس فيجيبهم ويعرفهم بالإسلام.

وكتبت مجلة الأسرة في أحد أعدادها عن أحد شبابنا الذي أتقن القراءة في النصرانية حتى تمكن منها، ثم استحدث غرفة للتواصل عبر الإنترنت يجيب فيها على شبهات النصارى ويحاورهم حول دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويعرفهم بمزايا الإسلام وسلامة معتقداته،، فأخبر أنه أسلم على يديه بهذه الطريقة أكثر من خمسمائة شخص.

وغير هذا كثير، وما زال الباب مفتوحا أمام كل عقل يريد أن يبتكر، فليس الابتكار حكرا على أحد، لكن المهم أن تكون حاملا هم الدين، حريصا على هداية الخلق أجمعين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply