بسم الله الرحمن الرحيم
استقرت البشرية في معظم مسارها، وبخاصة في مرحلة الصناعة على الصيغة الهرميّة في الإدارة، والاتصال، وتدفّق المعلومات، والحياة السياسية والاجتماعية. ثمة مسئول أول أو نقطة مركزية تملك المعلومات والقرارات والموارد، وتليها مجموعة قليلة، وهكذا تكبر قاعدة الهرم.
ما الذي يحدث اليوم لهذه الصيغة في الحياة والإدارة؟
لقد جعلت تقنية المعلومات والاتصالات الحياة شبكية، وقوضت الهرم الذي ظل رمزاً وفلسفة ومنهاجاً.
ماذا تعني إمكانية الحصول على المعلومة أو بثّها لأي شخص؟
كانت الحكومات والنخب والإدارات العليا في الشركات والمؤسسات تملك هذه المعلومات وتتحكم تماماً في طريقة بثها وتدفقها، وتحدّد من تصل إليه المعلومة. وكانت جهة واحدة هي التي تتلقى جميع المعلومات ثم تقرّر مصيرها.
ولكن المعلومات تصل اليوم عبر الإنترنت والأقمار الصناعية إلى أي شخص مهما كان موقعه الهرمي في المجتمع والدولة، وتقبع أجهزة استقبال محطة C.N.N أو مواقع الإنترنت في مكاتب رؤساء الحكومات وقادتها كما هي تماماً عند الصحفي في بيته وربة المنزل، أو راعي أغنام في الصحراء.
ولم تعد الرقابة على المطبوعات والمواد الإعلامية مؤثرة أو فعّالة، وتحوّل هذا المورد الخطير المهم (المعلومات) من مجوهرات خاصة جداً في خزائن النّخب إلى مادة شعبية، وربما أكثر من ذلك كالماء مثلاً أو الهواء، وهكذا فقدت الحكومات والنخب جزءاً كبيراً من أهميتها ونفوذها لصالح العامة والمجتمعات وكانت هذه أهم ضربة في الهرم جعلته ينبعج ويتفلطح، فلا يُعرف له رأس أو مركز.
ومن الواضح أن دور الحكومات والدول يتغير على نحو جذري، فالحكومات تنسحب من كثير من المواقع التي سيطرت عليها، وتتخلى عن أدوار كثيرة كانت تقوم بها كالتعليم, والصحة, وتنظيم الاقتصاد, وتوجيهه والأسعار, والثقافة، والسجون، والدفاع، والأمن .. وقد تنحصر مهمة الحكومات في الدفاع والأمن والتنسيق والمراقبة، ولكن بديل الحكومات ليس واضحاً بعد ولا محدّداً. لقد كان يظن أنه الشركات والقطاع الخاص. وذلك يصلح في المجالات التي يمكن أن تكون استثماراً ومصدراً للربح، فإذا لم تكن كذلك فلن تقدم عليها الشركات والاستثمارات، فهل يعني ذلك تبخّر كثير من الأعمال والبرامج والمشروعات غير الربحية كالثقافة مثلاً أو الرياضة في بعض المناطق؟ وهل يعني أيضاً حرمان الناس الذين لا يستطيعون أن يتعاملوا مع الخدمات كاستثمار: كالتعليم، والصحة، والاتصالات…
ولكن هذا السيناريو ليس هو الوحيد، فالمجتمعات والدول تعيد تنظيم نفسها على نحو (شبكي) قد لا يكون للشركات والاستثمارات فيه دور حاسم أو رئيسي، فتنمو اليوم مؤسسات جديدة قد تتبلور في المستقبل على نحو أكثر فاعلية، هذه المؤسسات من النقابات والاتحادات والتعاونيات والجمعيات التي تنتظم معظم الناس يمكن أن تطوّر من أدائها لتحقق للناس معظم احتياجاتهم بمعزل عن الحكومات والشركات الاستثمارية، إنها صيغة شبكيّة تتفق مع المرحلة والتغييرات الجارية، وفرصة نجاحها مستمدّة من كونها شبكيّة، بمعنى مشاركة جميع الناس في تمويلها والتخطيط لها.
ولقد لقيت أفكار وطروحات ما يسمى \"الطريق الثالث\" في أوروبا وأمريكا نجاحاً كبيراً يمكن ملاحظته بالانتخابات التي جرت في هذه الدولº إذ وصل إلى الحكم والإدارة شخصيات واتجاهات تؤمن بوسائل مختلفة في الحكم والإدارة عما عرفته الدول في القرن الأخير، وهي برامج استمدّت نجاحها أساساً من دمج جميع فئات المجتمع ومشاركة جميع الناس في المغانم والمغارم والتخطيط والمسئولية والمكاسب. فالعرب في الولايات المتحدة على سبيل المثال لم يستطيعوا إحضار \"دوكاكيس\" مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 1988 إلى مؤتمر انتخابي مؤيد له، ولكن الرئيس كلينتون (الذي يقود تياراً في الحزب الديمقراطي اسمه الديمقراطيون الجدد) حضر بنفسه وهو رئيس منتخب المؤتمر السنوي للعرب عام 1998، والشاهد في المثال هو الاختلاف في مسار الولايات المتحدة، وتحوّله من هرمي لا مكان لتجمعات صغيرة أو أقليات أو فئات خاصة إلى شبكي تمتلك الفئات المختلفة فيه أهمية ودوراً، وترجع أسباب نجاح كلينتون في الانتخابات إلى توجّهه إلى فئات كثيرة لم يلتفت إليها المرشحون الآخرون، مثل الشباب أو إلى تجمّعات عرقية وسكانية كانت مضطهدة ومنبوذة كالسود والعرب والمكسيكان…
ما الذي تعنيه أيضاً إتاحة إمكانات وفرص المعلوماتية؟
إنك تجد في شبكة الانترنت مواقع تبث النص والصوت والصورة يديرها شاب صغير أو مجموعة لم يكن يُتاح لها من قبل أن تصل إلى الإعلام، ولكن الشبكة اليوم تتيح للأشخاص جميعاً فرص امتلاك صحف وإذاعات ومحطات تلفزيون تبث وتتلقى ما تشاء وكيفما تشاء، ولم تعد هذه المشروعات حكراً على الحكومات أو الشركات العملاقة الكبرى، وهذا يعني أن الآراء والثقافات والأفكار والرغبات مهما اختلفت وتعدّدت حتى لو بلغت عدد أفراد البشر فإنها تجد فرصة في التعبير والتحرك والتعامل مع غيرها على قدم المساواة، والأمر ليس بهذه البساطة بالطبع لكن جوهر الفكرة صحيح وممكن.
وماذا تعني فرص البيع والشراء عبر الشبكة؟
وماذا تعني فرص بيع الأسهم وشرائها؟
وماذا تعني فرص تدفق الأموال عبر الشبكة؟
إن النشاط الاقتصادي والمالي عبر شبكة الإنترنت قلّص كثيراً إلى درجة عدم التدخل في دور الحكومات والدول في التحكم في الاقتصاد وأسعار العملات والأسهم وتدفق الأموال وتحركها، فالأموال نفسها تحوّلت إلى شيء غير محدّد… إنها ليست أكثر من ومضات إلكترونية لا يكاد يمسك بها أحد.
وما بقي من عمل للسفارات؟
لقد فقدت السفارات كثيراً من أدوارها الإعلامية والاتصالية والاستخبارية، وهذا أيضاً يقلص دور الحكومات والدول.
وباختصار فإن العالم يأخذ شكلاً جديداً يتيح للمجتمعات والأفراد دوراً أكثر من الحكومات والشركات، إن المجتمعات في العالم مقدمة على إعادة تنظيم نفسها وإدارة مواردها وثقافتها على نحو شبكي وليس هرمي وذلك يعني الكثير جداً، وخطورة هذا التحوّل علينا العرب أنه يجب إدراكه والتعامل معه في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان، إنها حالة تشبه امتلاك البارود اليوم أو قبل خمسمائة سنة، فإذا لم نمتلك فرص الشبكيّة اليوم فقد لا يكون مفيداً أن نمتلكها بعد ربع قرن أو قد يكون فات الأوان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد