التأهيل بين النظرية والتطبيق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:

فالتأهيل: تهيئة المستفيد وإعداده للانتقال من مرحلة الاعتماد على المساعدات على الاعتماد على النفس. وتأهيل النفس والروح هو أساس كل تأهيل، فإذا كانت النفس زاكية حيية نفعها أدنى تأهيل وتوجيه باستثمار طاقتها وتشغيل قدراتها، ورضيت بالقليل من الكسب مقابل أن تبقى لها عزتها وكرامتها.

أما النفوس الدنيئة فتركن إلى الدعة والكسل، وتفضل الطرق المهينة والملتوية في تحصيل ما تريد ولو كان ذلك مقابل عزتها وكرامتها.

وقد وعى كثير من العاملين في العمل الخيري هذا الجانب وأولوه عناية فائقة، وأصبح تأهيل المستفيد هو التوجه العام لدى الجهات الخيرية، فإعطاء المستفيد الفأس ليحتطب ليس كإعطاء سلة تمر ليأكلها (وتعليمه صيد سمكه أفضل بكثير من إعطائه مجموعة من السمكات).

 

أصل التأهيل وغايته:

وبعد البحث الميداني وسبر أحوال المستفيدين وجد أن أصل التأهيل والغاية منه تكمن في حفظ ماء الوجه أولاً. إذ أن من أراق دم وجهه وامتهن المسألة سواء عن طريق الأفراد أو الجهات الخيرية يستمرئ هذا العمل ويعتبره مهنة له، يصعب عليه تركها والتحول إلى العمل والاحتراف، وليت الأمر اقتصر على رب الأسرة فقط بل إن هذه المهنة تنعكس بالذلة والمهانة على سائر أفراد الأسرة من بنين وبنات.

ونحن حين نهمل شريحة المحتاجين ونغفل عنهم حتى نلجئهم إلى المسألة ومراجعة الجهات الخيرية بطلب المساعدة، نكون قد ساهمنا في تسهيل مهنة التسول وتعمدنا إراقة ماء وجه المحتاج، فإن الملاحظ أن كل محتاج يقدم إلى جهة خيرية لأول مرة بطلب المساعدة تجده غالبًا متنكرًا متلثمًا مستحييًا، ومرة بعد أخرى تزول عنه تلك الصفات ويصبح ممتهنًا للتسول لا يتأثر من رؤية الآخرين له في الجهات الخيرية.

ولقد جاءت نصوص الشريعة بالترغيب في إخفاء الصدقة والستر على الفقير، قال الله - تعالى -: {إِن تُبدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخفُوهَا وَتُؤتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِن سَيِّئَاتِكُم وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ}(1) أشار بعض المفسرين إلى أن الآية أولت أهمية لإخفاء الصدقة على الفقراء، وأنه مقدم على إعلانها(2).

ورُتب على إخفاء الصدقة فضلٌ عظيم ودرجةٌ رفيعة، حيث نال صاحبها منزلة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «سَبعَةٌ يُظِلٌّهُم اللَّهُ - تعالى -فِي ظِلِّهِ يَومَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلٌّهُ: إِمَامٌ عَدلٌ وَشَابُّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجتَمَعَا عَلَيهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيهِ وَرَجُلٌ دَعَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِبٍ, وَجَمَالٍ, فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ, فَأَخفَاهَا حَتَّى لاَ تَعلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَت عَينَاهُ»(3).

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «والله ليأتين الراعي في اليمن حقه من هذا المال ودمه في وجه».

وكان عمل السلف الوجه التطبيقي والعملي لهذه النصوص، فعلي بن الحسين - رحمه الله -، لم يعلم أهل المدينة بأنه هو المتصدق على بيوتات الفقراء حتى مات، إذ كان يأتيهم ليلاً خفيةً فيضع الطعام على عتبات أبوابهم.

وعامر بن الزبير - رحمه الله - كان يضع الدنانير في أحذية القراء وهم يصلون، فلما سئل لماذا لا تعطيهم بنفسك أو ترسل بها خادمك؟ قال: «أخشى أن يلقاني أحد منهم فيتمعر وجهه».

وقد وقع لبعض تجار الأندلس عند غلاء الأسعار أن جاءه الناس يسألونه فقال: «خذوا بالدين»، فلما أخذوا أسقط عنهم الديون فيما بعد. فلما سئل قال: أخشى أن يأنف بعض المحتاجين من الصدقة. فهو لا يريد أن يحرج صاحب المروءة، ولا يأخذ غير المحتاج لأنه بيع، ولا يأخذ أحد أكثر من حاجته فهو دين عليه.

وقال سعيد بن العاص لابنه عمرو: «يا بني أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداء عن غير مسألة. فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه مخاطرًا لا يدري أتعطيه أم تمنعه فوالله لو خرجت له من جميع ما تملكه ما كافأته»(4).

 

ومن التطبيقات المعاصرة الخاطئة:

1- أي إراقة لماء الوجه أشد من ممارسة بعض الجهات الخيرية للتصوير أثناء تسليم المعونات والمساعدات للمستفيدين، وحفظ تلك الصور في إرشيفها، فبقاء تلك الوثائق في الإرشيف عار عليه وعلى ذريته من بعده، فيما أراه.

2- الملاحظ أن الجهات الخيرية تُعَرِّف المستفيد بأنه «من تقدم للجهة الخيرية بطلب مساعدة» وهذا هو التسول المنظم كما يقال.

والحقيقة أن تقدم المحتاجين للجهة الخيرية يسبب لها مشاكل عديدة إدارية ومالية، لأن ذلك يتطلب جهاز استقبال مع خبرة في معرفة الناس والتفريق بين الصادق والمحتال، ثم إن هذه الطلبات تخضع لحسن العرض والقدرة على التمثيل والبكاء والخداع. وقد يتسبب تكاثر وتجمهر الفقراء وغيرهم على أبواب الجهات الخيرية، في زرع الخلاف وأحيانًا الشجار في الجهاز الإداري للجمعية، إذ أن من العاملين من تسيطر عليه عاطفته وتغطي على تفكيره وعقله، فإذا رأى رجلاً أو امرأةً تبكي وتتأوه عند بوابة الجمعية تأثر بذلك فعند أول اجتماع يرى أن يبدأ بحل هذه المشكلة، على حين أن زملاءه يرون أن هذا من صور المخادعة والاحتيال، فيتراشقون بالكلمات بأن هذا لا إحساس له وليس في قلبه رحمة...و.. و..

والذي أقترحه على الجهات الخيرية، أن تتعامل بهذا الشعار: «الفقير نعرفه ولا يعرفنا، نأتيه ولا يأتينا». وفي هذا حفظ لماء وجه المستفيد، وقطع للمشاكل والاتهامات عن الجهة الخيرية، وتوفير للطاقات الإدارية والثروة المالية. ولا شك أن هذا يتطلب كمًا كبيرًا من الباحثين المتطوعين، وهذا مقدور عليه بإذن الله لكثرة الراغبين في المشاركة في أعمال الخير والبر، وبخاصة إذا قضت الجمعية على الجوانب الإجرائية في صرف المعونات للباحثين الذين سيقومون بدورهم بتوزيعها على الأسر التي يقومون على رعايتها ومتابعتها، مع تفويضهم ببعض الصلاحيات التي تليق بهم. والله الموفق.

 

وسائل التأهيل:

لم يعرف المجتمع المسلم البطالة في عموم فترات تاريخه، حيث هيأ النفوس ورغبها في العمل والاحتراف، وفتح للمسلم جميع أبواب العمل، وألغى

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply