العلم والدين وشبهات المستشرقين:
ومما يتصل بتقليد طه حسين للزنادقة وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية قضية \"الصلة بين العلم والدين\"..حيث يرى أن الدين من نتاج الجماعات البشرية تقليدا لرأى \"دور كايم\" الذي يقول: \"إن الجماعة تعيد نفسها\" أو بعبارة أدق أنها تؤله نفسها ويقول د.طه حسين وهو يتبنى الفكر \"العلماني\".
إن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتقع الجماعة في تطورها، وإذن فالدين في نظر \"العلم الحديث\" ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء، ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.
ثم يرى د. طه حسين في محاولة للتوفيق الملفق بين العلم والدين \"أن من الممكن أن يكون الإنسان ذا دين يؤمن بما لم يثبته العلم، ويكون عالماً لا يقر ما لم يثبته العلم\".
\"فكل امرئ هنا يستطيع إذا فكر قليلا أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنتقد وتحلل، وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجه وتكوينه لا نستطيع أن نخلص من إحداهما\".
ثم يتصور \"طه حسين\" الحل التلفيقي للتلاقي بين العلم والدين وهما في رأيه لا يلتقيان!! يقول: \"فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة؟ وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة ديانة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ \".
ثم يقول: \"وأنا أؤكد أن هذا اللون من الحياة النفسية وحده هو الذي يكفل السلم بين العلم والدين\".
وهذا التقسيم قائم على افتراض مخطئ وهو التصادم بين العلم والدين، والمنهج الإسلامي لا يقول بهذا التصادم.. لأن العلم يكتشف أسرار الله في الكون وفق تفكير منظم، وآليات وتقنيات تتجدد وتتطور حسب تطور الأزمنة.. والبيئات ونظريات العلم ووسائله، والحركة العلمية في ظل الإسلام تؤكد ذلك نظريا وعمليا.
وعلم النفس في أحدث ما انتهى إليه ينقض كلام د. طه حسين في مسألة الذات العاقلة والذات الشاعرة.
وهل التدين بعيد عن \"العقل\"؟ وهل هو مجرد خواطر وسوانح وتخيلات؟؟
وأمام هذا التصور الغريب، والموقف المتناقض من \"الدين\" يقول الرافعي مستظلا براية القرآن، ومتحصنا بأسلحة اليقين ويرد على \"طه حسين مفندا رؤيته المتناقضة: \"يخلط طه في معنى العلم ومعنى الدين، فيذكر أنهما لا يلتقيان إلا نزل أحدهما للآخر عن شخصيته، ويزعم أن العلم لا يرى الدين إلا قد خرج من الأرض كما تخرج الجماعة، فمتى قطع العلم على أن الجماعة الإنسانية خرجت من الأرض، وقد أخذ مذهب دارون يتصدع ويتخرب على زلازل القلم وانحياز ناموس النشوء عن هذه الجهة الحيوانية.
ومتى كان العلم يبحث في الأديان على أنه علم؟ وكيف له أن يبحث فيها وهو مقصور بطبيعته وتحديد هذه الطبيعة على ما يدخل في باب الأدلة الحسية، ولا وسائل له إلا وسائل الحس المعروفة من البحث والاستقراء والمقابلة والاستنباط، دون أن يتصل بالمعاني العقلية المحضة مما هو نظري فلسفي كالمعاني التي يرجع إليها الدين. إنه ليس بعلم ما يجاوز تلك الحدود المسورة بأسوار البحث والامتحان بحيث لا تخرج منه النتيجة الصريحة التي برهانها الحس واليقين دون الظن والجدل\".
ثم يقول الرافعي ملخصا الرد على طه حسين ومنكرا عليه رأيه:
\"فقول طه مثلا \"إن قصة بناء الكعبة خرافة، وإن إبراهيم وإسماعيل شخصان وهميان لا يعدان علما، بل حمق محض، فإذا اعتذر منه بالعلم أضاف إلى حمقه جهلا، فإذا أصر على قوله واعتذاره زاد على الجهل الحمق والغفلة\".
وفكر د. طه حسين الدائر في فلك \"العلمانية، والذي أدى به إلى التقليد واتباع آراء بعض المستشرقين.. جعله يتعصب لآرائه اقتناعا منه بهذا المنهج..
وقد اتهمه الرافعي، وحلل موقفه الفكري، ومنهجه \"العلمي\" القائم على \"الشك\".
يقول: رأينا عصبية طه على الإسلام تلبس ثلاثة وجوه:
أولها: عقيدته في القرآن وأنه من وضع الذي جاء به لا من وحى ولا تنزيل ولا معجزة.
وثانيها: رأيه في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه رجل سياسي فلا نبوة ولا رسالة.
وثالثها: عمله في توهين أمر الأئمة من الصحابة في من بعدهم وقياسهم في الإنسانية وأهوائها وشهواتها على قياس من نفسه وطباعه.
وهذه التهم تحتاج إلى مراجعة ومناقشة وتحليل ولكنها تتوافق مع المنهج الذي تابع فيه د. طه حسين آراء المستشرقين ومناهجهم المادية.
والدكتور طه حسين لم يتابع الردود على ناقديه.. ولكنه كتب إلى مدير الجامعة المصرية موضحا موقفه العام من \"الدين\" وهو موقف نابع من رؤيته لتكوين الشخصية تكوينا ازدواجيا أو تناقضيا ـ كما اتضح من أقواله.
يقول: كثر اللغط حول الكتاب الذي أصدرته منذ حين باسم \"في الشعر الجاهلي\"، وقيل إني تعمدت فيه إهانة الدين والخروج عليه، وإني أعلم الإلحاد في الجامعة، وأنا أؤكد لعزتكم أنى لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ولكن الرافعي يفند هذا الكلام في فصول متعددة من كتابه \"تحت راية القرآن وهى:
عصبية طه حسين على الإسلام.
قد تبين الرشد من الغي
و\"مسلم لفظا لا معنى\" وهو من أشد المباحث ضراوة.
ولكن الرافعي في المقدمة يقول وهو يرجو أن يتراجع د. طه حسين عن آرائه التي قلد فيها الزنادقة وبعض المستشرقين يقول \"وما نريد أن نزيد طه على ما قلنا مما سنقرؤه في هذا الكتاب، ولكنا نرجو أن يهديه الله فيكون من أمته ويعود إليها، فإنه إلا يكن بها لا يكن بغيرها، وإنها إلا تكن به تكن بغيره\"
وأرى أن الخلاف بين الرافعي وطه حسين يرجع إلى طبيعة منهج كل منهما، وطريقته في التفكير.. فالرافعي ينطلق من ثوابت الفكر الإسلامي، ومن الإحساس بقيمة التراث العربي، وعلومه ومناهجه.
ود. طه حسين متأثر بمناهج التفكير الغربية، وينطلق من قاعدة منهجية وهى التصادم بين التفكير العلمي، والتفكير الديني مع محاولة التوفيق بينهما في صورة تلفيقية أو خداعية من باب \"التقية\".
والجزء الأول من كتاب \"تحت راية القرآن\" يجسد هذا التصور الذي يؤطر حقيقة الخلاف بين الرجلين فهو خلاف جذري، ومنهجي، وشخصي، وقد تضمن الكتاب ست مقالات في قسمه الأول.. وهى تفصيل لمنهج \"الرافعي\" ولموقفه من الثقافة الغربية ودعاوى التجديد والمقالات هي:
1 - المذهبان: القديم والجديد.
2 - الجملة القرآنية.
3 - ما وراء الأكمة.
4 - الرأي العام في العربية والفصحى.
5 - تمصير اللغة.
6 - جلد هرة.
وكل هذه المباحث تناقش ماهية القديم.. وماهية الجديد، وماذا نقبل منهما؟ وماذا نرفض في ظل ثوابت الحضارة العربية، والثقافة الإسلامية: مع رفض كل ما يتعارض معهما من مكونات الفكر \"الأجنبي\" وقبول الرؤى والأفكار والمناهج التي لا تتصادم مع مناهجنا وعقيدتنا.
جذور المعركة وبواعثها:
وحين نتأمل ونبحث عن جذور الخلاف بين الرافعي وطه حسين نجد أن طه حسين هو الذي بدأ بالهجوم على الرافعي متهما إياه بالجمود الفكري ـ وهو اتهام ينطلق من الخلاف المنهجي كما وضحت سابقا.
فالرافعي أسبق في الحياة الأدبية من طه حسين والعقاد.
وبدأ الرافعي بالنقد الأدبي مبكرا وسنه خمس وعشرون سنة، وكتب في المقتطف مقالا عن الشاعر محمود سامي البارودي سنة 1905م، قال فيه \"شاعر فحل مجود، ضيق الفكر، ضعيف الحبك\" في إبراز المعاني واختراعها.
ولكن طه حسين يبدأ بالهجوم على الرافعي.. ويسخر من منهجه في كتاب \"تاريخ آداب العرب\" فيقول في صحيفة \"الجريدة\" سنة 1912م إنه لم يفهم من هذا الكتاب حرفا واحدا\"
وحين ألف الرافعي كتاب \"حديث القمر\" قرظه الأديب العالم \"حفني ناصف\"، ولكن د. طه حسين نقد هذا الكتاب نقدا لاذعا.. وقال في تهكم: إن هذا التقريظ ليس من عمل حفني ناصف، بل من عمل الرافعي نفسه.
وحين ألف الرافعي \"رسائل الأحزان\" التي كتبها إثر موقف \"مي زيادة\" المضاد منه بعد أن توهم أنها تبادله مشاعر المودة والمحبة.. وبعد أن سعى العقاد للوقيعة بينهما.
تناول د. طه حسين والعقاد هذه الرسائل بالنقد العنيف، ومما زاد من ألم الرافعي في محنته مع \"مي\" أنها وقفت كما يقول \"حسنين حسن مخلوف\"، مع د. طه حسين في بعض ما أخذه على الرافعي ونشرته في مجلة المقتطف.
ويقول د. طه حسين في نقده للرافعي ونقد \"رسائل الأحزان\" نظلم الرافعي إذا قلنا إنه يشق على نفسه في الكتابة والتأليف بل أنت تنصفه إذا قلت \"إنه ينحت من صخر إن كل جملة من هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورا قويا مؤلما بأن الكاتب يلدها ولادة، وهو يقاسى من هذه الولادة ما تقاسى الأم من آلام الوضع\".
ويقوم الرافعي بالرد معلنا اشتعال المعركة، واحتدام لهيبها فيكتب في السياسة الأسبوعية قائلا:
الأستاذ الفهامة الدكتور طه حسين:
يسلم عليك المتنبي ويقول لك:
وكم من عائب قولا صحيحا *** وآفته من الفهم السقيم
قرأت يا سيدي ما كتبته عن \"رسائل الأحزان\" مما أتسمَّح في تسميته نقدا، وألممت بالغاية التي أجريت لها كلامك، وما كان يخفى علي أن في الحق ما يسمى تعسفا، وفي النقد ما يدعى تهجما، وفي المنطق ما يعرف بالمغالطة، وفي كل صناعة ما هو انتحال ودعوى وتلفيق.
وانطلق الرافعي من هذه المقدمة الحادة الساخرة إلى التصريح بالهجوم على كتابات د. طه حسين في تاريخ الأدب قائلاً \"أفلا تسأل نفسك\" لِمَ لم تعجبني كل الفصول التي كتبتها في الأدب وتاريخه، وأنت تتخبط منذ سنين، وتكتب كل أسبوع مرة، فإن سألتها فهل تستخرج من ذلك إلا أن هذه الفصول هي في رأيي خلط مخلوط، تركب فيها الشطط، ثم تعتسف الطريق، ثم تضع التاريخ كما تخلقه أنت لا كما خلقه الله، وتصول على الأموات الذين لا يملكون دفعا ولا ردا ولا حوارا ولا جوابا\"
وتحت راية القرآن يظل الرافعي مقاتلا ومدافعا عن قيم الإسلام وثوابته ومعالمه لا يخشى في الله لومة لائم.
وهذه المعركة مازالت مستمرة.. وما زال الفريقان يصولان ويجولان.. وكل يرفع رايته ـ ويشهر أسلحته ويعلن حجته - ولكن تبقى كلمة الله هي العليا.
وكما قال - تعالى -: (بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
وما أروع هذه الكلمات التي وصف بها الرافعي \"القرآن الكريم\" الذي عاش يستروِح نسائمه، ويستظل برايته، ويدافع عن حقائقه، ويحتمي بآياته البينات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد