صفاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شعر بدوار خفيف حين تصاعدت الأصوات متلاحقة من داخل الحجرة المغلقة.فالماء الساخن يدخل عبر الباب الذي يُوارب لثوان قبل أن ينغلق تماما.وصوت يأتيه: اعملوا قرفة قوام؟

لحظة الميلاد الصعبة التي مرت به مرتين من قبل، بعد التعب والمصاريف ووجع القلب يموت الوليد، وينشف لبن الأم في الثديين حزنا ورهقا.

يدور في الصالة، و\"الداية\" بالداخل تنهى وتأمر، \"تشخط وتنطر\" في النسوة الخبيرات بأحوال الولادة العسرة. عليه أن يخرج الآن للشارع ليراقب حركة الظل، وزحزحة الشمس على جدران بيوت الأعمام والأخوال، لكن قلبه لا يطاوعه.

امرأته التي غضبت وخرجت إلى بيت أبيها تعود إليه قبل الميلاد بأيام، وهو ينظر إليها حانقا، يود أن يعاتبها، لكن بطنها البارزة أمامها تمنعه، فيما هي تواصل غضبها القديم بنظرة عتب جارحة، وبنصف كلام: ربك مسامح!

جملة أقرب إلى الاتهام الصريح، وهو لا يريد الولد للعزوة والمباهاة، ولا يريده ليرثه فليس عنده عقارات، ولا أفدنة زراعية. كل ما يملكه مكتبة ضخمة ورثها عن أبيه شيخ الأزهر، زودها بمجلدات من سور الأزبكية، ومن باعة الصحف. لكنها ترى أن الكتب تجعل البيت ضيقا، ولا فائدة منها سوى خسارة الوقت والنظر.

هي التي بدأت الخصام حين انتزعت صفا كاملا، وألقمته نيران الفرن أعلى السطح، فلما رأى المصيبة التي حلت به، ارتفع صوته، فلما جادلته هوى بيده على وجهها. كان خطأ جسيما منه، ولم يستطع أن يسترد صفعته. ارتدت ثيابها غضبى، تمهلت ترتب أشياءها كي تترك له فسحة من الوقت ليصالحها، ويمنع خروجها.

لم يفعل.. بكت وهى تخرج حاملة حقيبة صغيرة فيها ملابس الحمل الواسعة، وأدوية الضغط، وأكياس ضبط الزلال، و\"شبشب خفافي\" لا يعلو كثيرا على الأرض.

قبل أن تخرج نظرت حولها في استعطاف مبهم، لكنه داس قلبه وتركها. حين خشي أن يغشى عليها صعد لشقة الجيران، وطلب من أم محمود أن ترسل ابنها ليحمل عن زوجته حقيبتها.

برأسها الناشفة كصخرة من جرانيت رفضت. تابعها حتى اختفت عن أنظاره.

الصوت \"الحياني\" يزلزل البيت، صرخة مدوية حشت صدره، كأنه يلد لاهي. غالبه خاطر أنه إنسان بلا قلب، ودّ في هذه اللحظة أن يدخل حجرتها يقبلها بين عينيها. يعترف لها أنه مخطئ، والغلط راكبه فوقه وتحته. لكن صرخة أخرى داهمته. أحس بـ\"لهوجة\"، وأنين \"يصعب على الكافر\"، ثم زغرودة طويلة ارتجف لها كيانه.

خرجت امرأة من أقاربها تبشره بالمولود. وغرست نظرة ممانعة كي ينتظر قليلا قبل الدخول.

كان يعرف أن تلك اللحظة تشهد قطع الخلاص، وربط السرة. وتشميم المولود بصلة ليفيق. سمع \"وأوأة\" ارتعد لها قلبه، أحس أنه طائر خفيف قادر على الطيران. مد يده محركا المقبض في تردد. من سريرها أومأت له بنظرة متسامحة أن يدخل. مدت يدها بالطفل، قبلها ولامست شفتيه خدها الشاحب بفعل الصرخات، والدماء التي فقدتها. سألته: الولد حلو؟

مسد شعرها، ويده تقبض على يدها في امتنان: أي حاجة يجيبها ربنا خير. أغلقت عينيها اللتين بدتا مرهقتين، فيما رددت بخفوت: سمي الولد باسمك!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply