قصر العمائم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في أزقتها يتجول التاريخ، على أطرافها تتناوب أقدام الفقراء و الحوار مع الأرض في منظومة البحث عن الرزق، حركة الناس المبعثرة في دكاكين مدينة البصرة العتيقة توحي بانتظام هذه العشوائية الجميلة.

شوارع السوق يتأرجح على ظهرها البسطاء. العمائم تتراقص على جوانب الدكاكين... النساجون تتقوس ظهورهم في شكل فيسفيسائي بديع......

فجأة عجلة السوق توقفت عن الدوران.. الأيادي رفعت عن الخيوط.. انتظم الناس في تجمعهم سكنوا خلف طبول المنادي... منادي الوالي يقترب من الجموع.. حوله، تقاطرت الناس، لفوه كعمامة أصيلة تحتضن رأس فارسها.

أعينهم، أفواههم، أياديهم كلها فتحت تراقب منادي الوالي، المنادي وقد ارتقى ساحة السوق على أكتاف أربعة من الرجال أسدل ستار البداية بالسلام، زحفت كلماته محلقة في فضاء الناس:

قرر الوالي الهمام بيان الدين الإمام وبعد مشاورات مع خبراء العالم في السوق واحتياجاته والمال واستخداماته... أن يمنح أمتنا فرصة الكسب وذلك بزراعة الصوف الخام استفادة من سعره المرتفع هذه الأيام بما يحقق للبلاد وشعبها المقدام أمل الرخاء والسلام.

أخوكم في الإسلام /الوالي الهمام بيان الدين الإمام والي العراق ومصر والشام.

 

الأيادي في ألم تنزع العمائم من على أبواب الدكاكين... لم يمهلهم الجو العاصف....

أسبل المطر في المدينة.. فرق بإسباله موكب الناس.... ضجت شظايا الحنق في كلماتهم اختلطت بقصف الرعود المتتالي.

تفرق الناس... دوائر همساتهم نفذت آذان الجدران... باتجاه الشيخ الناصر (شيخ نساجي الأمة) انطلق نفر من النساجين همم يقظة ووجوه يبعثرها الغضب وقفوا أمام الشيخ الناصر... على كرسيه جلس، لحيته البيضاء، استدارة وجهه، مسارات السنين في جبينه صنعة حكمته.

حيوه بملامحهم الحزينة أدرك ألم الخطب لكنه ما توقعه..

الناصر: ما خطب أبنائي المهرة

أحدهم: انتهينا يا شيخ

أضاءت كلماته: لا ينهيكم إلا الذي أحياكم.... ما لذي أصابكم …

أوردوا البيان على شيخ النساجين.. بدا في صمته المطبق حوار أدرك كنهه الموجودون..

الناصر: اذهبوا إلى حاجب الوالي واستأذنوا لي في مقابلته فلعل في الأمر لبس.

مضى النساجون ومضى الشيخ إلى ذهنه، سأل نفسه: رباه ماذا يدور في ذهن الوالي....

 

اخترق بوابة القصر.... هرم من العمائم اغتصب قلب الحديقة كان في شكل بديع، قصر من العمائم....  استسلم لابتسامته المطحونة: أتلبس الأرض عمائمنا قصراً وتخلو رؤوسنا منها... تابع المسير يتقدمه الحاجب?…? لبرهة استوقفه رجال القصر، أكمل بعدها مسيره دخل مجلس الوالي كان خالياً جلس ينتظر مجيئه.....

صوت الوالي يسبق خطواته استقام الشيخ حيا ه..

على يمين الوالي جلس، صمت احتسى المكان اخجل في نفس الناصر ومضة الإقدام لكنه لم يمحها قلبت طاولة الصمت إشارة الوالي.

الوالي:ما خطبك أيها الناصر.؟

الناصر: جئت رغبة في فهم أكثر لمضمون البيان الذي تلي اليوم.. فسوق البصرة العتيق تأكل أنفاسه الشكوك.!

الوالي:اسمع أيها الناصر أنت حكيم، ولا أظنه يخفى عليك ما تمر به بلادنا من فقر أجدب الخزينة... من الأولى أن نبيع الصوف الخام فمدخوله وافر.. والبلدان الصديقة تسعى لدفع ثمنه ذهباُ...

الناصر:ارفق بنساجي أمتك.. في نسجهم معان.. هم لا ينسجون عمائم هم ينسجون تاريخاً.

الوالي: أنا ارفق الناس بهم وبكسبهم يا هذا... ومع ذلك فعمائم الروم سعرها زهيد…

الناصر: أو تعتقد أن الروم ينسجون عمائمنا!... إنهم ينسجون تاريخهم... كيف لأبناء البصرة التي اشتهرت بنسج العمائم حتى لقد طرز اسمها قصركم الميمون.. (قصر العمائم) كيف لها أن تلبس تاريخهم؟

الوالي: ويحك أيها الناصر...قد جاوزت في كلامك الحد.

الناصر: بل والله قد رأيت الحق فقلته... لماذا تذبح صنعتنا ويستباح نسيجنا؟

استشاط الوالي غضباً.. ملء كؤوس حنقه.. صرخ قائلاً: لن ترى عيناك النور بعد الآن أيها العجوز الحالم.

أمر حرسه بسجنه.. ساروا به إلى الزنزانة... وجهها المظلم استقبله بفرح... ارتكن إلى زاوية صغيرة نظر إلى السماء... ناجى ربه... تأمل حاله... استلقى على ظهره... لثم فاه نومه.. عانقه... التهمه النعاس ... المساء يتأمل سوق العمائم وقد خلا من أهله غاب عن صمته، نثر همه مع النجوم أخذ من سناها حلمه..ألهمه انبعاثها أملا...ألقى بكتفه على السوق غاب السوق في سواده.

لحظات وانطلقت المفاجأة:

.... الليل صار نهاراً... أبواب المدينة أغلقت.... صهيل خيول يفترس الأرض... نيران تشتعل في المكان.... فرسان تصعد أكتاف القصر.... تهاوت رؤوس العامة دكاكين البصرة انتهكت... قصر العمائم تهاوى على الأرض، سيوف تهدمه تقطع خيوطه، صارت العمائم كومة قش.... استفز الأمر.. الحرس قاوموا الفرسان ما استطاعوا... الوالي حمل على خوفه سار بيده السيف... خبئ أهله في حجرة بعيدة.. انطلق يبحث عن الصوت... فاجئوه.. قفزوا إليه (كان يلبس عباءة أهداها له ملك الروم)... تقدم أحدهم من الوالي... أمام نظرات سيوفهم ألقى سيفه...

قال أحدهم:

ما رأيك في عباءتنا أيها الوالي:

تصلبت أطراف الكلام تنازعت الدهشة قلبه اصطدمت بقارب غضبه أسقطته على الأرض لماذا؟ قفزت أسئلة الوالي................... لم يجبه إلا صوت الناصر، في زنزانة واحدة جلس الاثنان كان البكاء يخالج بوح الوالي... فقد كانت المفاجأة اكبر من أن يتوقعها الوالي..

في غفلة استولى الروم على الأرض.

 

... لملم الغزاة العامة... في حزن يرقبون الحدث... سلاسل الحديد تقود الوالي والناصر...خرت الأصوات دهشة... صعق المكان ماذا سيحدث لهم تناثر هذا السؤال على طول الشاطئ،ما أجاب أحد؟!! دفع الاثنان بأمر من كبير جنود الروم إلى قارب صغير قيدوا جسدهم بالقارب... استلم كبيرهم الحبل المعلق به، قطعه... دفع بقوة القارب انهزم الموج أمامه، أبحر القارب... أنامل قلوب العامة ودعت الراحلين.

الوالي: الموت أيها الناصر قد اقبل..

الناصر: مازلت تنظر بعيني رأسك أيها الوالي و مازلت انظر بعيني عقلي!

ما يشغلني إلا الإجابة على سؤال أرهق ذهني

الوالي: وما هو هذا السؤال؟

الناصر: ما الذي سيحدث بعد هذا لأبنائنا يا والي؟

الوالي: حقاً أيها الناصر.. إنها أمة تذبح….. صمت لبرهة…. صهل خيل شعره… أنشد:

ابعد عمامتي خلعت بلادي      وبعد العز تنتحب الكرامـــة

خلعت عن الحكيم حكيم قومــي     قلادة عقله فدنت مـــــلامة

عمامـــــة ناصري كانت رداء       لفـهم العقل اكبر من عمامة

وهذا فهم من بالدين ســـــــوى       مناهج عزمه طول استقامة

أهذا الروم من وعدوا بعــــــــز        نعم وعدوا وقد وفت الندامة

ابعد عمامتي خلعت بـلادي      ابعد عمامتي خلعت بـــــــلادي

 

البحر التهم القارب.... غابا معاً.

 

العام 1422للهجرة... \"و في عصر العولمة هل ذابت هوية المسلمين؟ أصبحنا نلبس لباسهم نحتسي حسائهم نفهم على طريقتهم هل انتهينا حقًا... \" (المذيع وقد تأبط حيويته تابع بث مقدمة برنامجه الصاخب: كانت هذه القصة مقدمة كتبها الكاتب الإسلامي..(المعروف) رغم أن القصة تبدو من نسج الخيال إلا أننا أوردناها مقدمة لحلقتنا اليوم في برنامجكم الحواري الساخن بعنوان هوية الأمة بين الصمود والذوبان...

نلتقي فيها مع المفكر الإسلامي أحمد عبد الله والمفكر العلماني أحمد عبد الله... المذيع وقد شمر عن ساعدي نظارته المثقفة! تفضل يا أستاذ أحمد.

أحمد عبد الله الأول: أنا اعتقد أن النظام الاستخرابي الجديد يستعمل البوابة الاقتصادية للترويج لمجموع قيمه نظرة إلى الملابس التي تستهلك أجسادنا ستجد من الرموز العقدية والفكرية والصور ذات المضامين التاريخية ما يعتبر محاولة حقيقية لهز قيم أجيالنا الجديدة... ولك في أطعمتنا التي فرضت نمطها ظروف حياتية اجتماعية غربية مثال واضح....نمط المجتمع الاستهلاكي المفروض علينا بفعل الإغراءات نمط جديد ضد قيمنا وديننا انه نمط مجتمعات تبحث عن المتعة لا الآخرة.

 

أحمد عبد الله الثاني: اعتبر هذا الكلام كلام أناس يعيشون في الماضي... نحن في عصر الفضاء والعالم تحكمه ثقافة واحدة.. اسمها العولمة.. ما دخل الملابس والأكل في الموضوع (انتو ناس بسطاء) لا تفهمون!!!! هناك اتجاه نحو إنسانية الثقافة عالم واحد بثقافة واحدة افهموا يا إخوان!

كما قاد المذيع الحوار... ألجمه... نشرة الأخبار تقدمت... أعلن مذيعها على الملأ:

 

رغم تشكيك خبراء عالميين في جدوى انضمام دول نامية لمنظمة التجارة العالمية... رغم ذلك.... أعلن في منظمة التجارة العالمية عن قبول خمس دول إسلامية كأعضاء جدد في المنظمة.

توثب المذيع هاجم الجمهور قائلاً:

من موقع الحدث وعلى الهواء مباشرة ننقل لكم هذه اللقطات..

الكاميرات تطارد الناس... أضوائها ألهبت المكان.. أعيت أعين الحضور.... أمام الأمين العام للمنظمة تسلقت الميكروفونات تبعث صوته السعيد: تم القبول بالإجماع بعد استيفاء الشروط المطلوبة وخاصة فيما يتعلق ببند فتح السوق المحلي للمنتجات العالمية.

شاكراً غادر الأمين!

كومة من المذيعين ارتحلوا إلى المسئول الاقتصادي في منظمة المؤتمر الإسلامي يهنؤن بالعضوية.

بحنو توقفوا أمامه، أطراف أصابعهم استدارت... أطفئوا أنوار كاميرا تهم... أغلقوا ميكرفوناتهم.... غادروا القاعة... فهو منذ الصباح مازال... (خخخخخخخخخ).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply