القوس العذراء


بسم الله الرحمن الرحيم

 إلى صَدِيقٍ, لا تَبلِى مودَّتُه: أمّا بَعدُ، فإني لم أكن أتوقََّّعُُ يومئذ أن ألقاكَ. وإذا كُنتَ قد أُوتيتَ حياء يغلُبك عند البغتَة على لسانك، حتى يُعوزَك(1) ما تقول، فقد أُوتيت أنا ضَرباً ثَرثاراً من الحياء، يُطلِق لساني أحياناً عند البَغتَة، بما لا أُحبٌّ أن أقول، وبما لا أدري كيف جاء، ولم قيل! كنت خليقاً يومئذ أن أقول غير ما قلت، ولكني وجدت شيئاً منك يَنسَرِبُ(2) في نفسي فيُثيرها، حتى يدورََ حديثي كُلٌّه على إتقان الأعمالِ التي يُتَاح للمرء أن يزاولهَا ـ في لِمحة خاطفة من الدهر، نُسميها نحن الناسَ: العُمُر!! ياله من غُرُور! بيدَ أنّ هذا الحديثَ أَبَى إلا أن ينقلبَ عائداً معيَ في الطريق، يُسايرني، ويُصاَحِبني، ويُؤنس وَحشتي، ويُسرٌّ إليَّ بوَسوسة خفية من أحاديثه التي لا تتشابَه، والتي لا تَتَناهى والتي هي أيضا لا تُمَلٌّ. وإذا كانت ثرثرةُ حيائي قد صَكّت مَسامعك ببعض عُنفي وصَرَامتي، فعَسى أن يبعثَ في نفسك بعضَ الرضا، ما أروِيهِ لك من بقايا َتلك الأحاديث التي رافقتني منذُ فارقتك إلى أن استقرت بي الدارُ، ثم طارت عني إلى حيثُ يطير كُلٌّ فِكرٍ,، وغابت حيثُ َيغيب! الإنسانُ خَلقٌ عجيبٌ!! كلّ حَيٍّ,، بل كُلّ شيء مخلوق، يسير على نَهج(3)ٍ, لاَ حب لا يختلّ، يُؤَيِّده هَديٌ صادق لا يتبدَّل. ومهما تباينت مسالكُهُ في حياته، وتنوَّعت أعمالُه في حِياطة مَعِيشته، فالنهجُ في كل دَربٍ, من دُروبها هُوَ هُوَ لا يتغَّير والهَدي في كل شأن من شؤونها هو هو لا يتخلّفُ(4). تُولد الذَّرَّة(5) من النِّمال، وتنمو، وتبدأ سيرتها في الحياة، وتعمل فيها عملَها الجِدَّ، وتَفرغ من حَقِّ وجُودها، ثم تقضي نَحبَها(6) وتموت. هكذا مُذ كانت الأرضُ وكانت النِّمال: لا تتحوّل عن نَهجٍ,، ولا تَمرقُ(7) من هَديٍ,. وتاريخ ُأحدثِها مِيلاداً في مَعمعة الحياة، كتاريخ أعَرقِ أسلافها هَلاكاً في حَومِة الفَنَاء. لا هي تُحدِث (8) لنفسها نَهجاً لم يكن، ولا هي تبتدعُ لوارثِها هَدياً لم يتقدَّم. فسَل كل حيًّ: كيف تعملُ؟ ولِمَ تعمَلُ؟ ومَنِ الذّي عَلَّمَكَ وهَدَاك؟ ومَنِ الإمامُ الذي سَنَّ لك الطريقَ(9)؟ وبأيّ عبقريّة يأتي إبداعُك؟ ولمَ كان عملُك نَسَقاً(10) مُنقادًا لا يتغير؟ وكيف كَانت مهَارتُك تُراثاً(11) مُؤَبَّدًا لا يتبدل؟ وحذقُك طَبعاً راسخاً ًلا يتحوَّل؟ ولم صارت سُنّة(12) الأوائل منكم لِزَاماً على الأواخر؟ ومِنهاج(13) الغابرين شَرَكاً للوارثين! بل كيف أخطأ الآخرُ منكُم أن يَستدرِك عَلَى الأوَل؟ والخَلفُ أن يُنَافس صَنعةَ السَّلَف؟ وعَجَباً إذن! كيف صارَ كُلّ عملٍ, تَعمَله مُتقناً، وأنت لم تَجهَد في إتقانه؟ وأنى بلغتَ فيه الغاية، وأنت مسلوبٌ كلّ تدبيرٍ, ومَشِيئة؟ وما أنتَ وعملُك؟ أتحبٌّه وتألفُه؟ أم تَشنَؤُه(14) وتسأَمُه؟ أتُخامُرك نَشوة الإعجابِ؟ أبدعتَ فيه؟ أم تنتَابُك لَوعة الحُزن إذ أصابه ما يُتلِفُه أو يؤذيه؟ ألم تسأل نفسكَ قطٌّ: فيمَ أعمَل؟ ولمَ خُلِقت؟ وفيمَ أعيشُ؟ وأنا على يقين من أنّك لن تسمَعَ جواباً إلا الصَّمَت المُستَنِكرَ، والذٌّهولَ المُعرضَ، والصمَم المُستَخِفَّ الذي لا يَعبَأ. * * * إلاّ الإنسانُ!! إلاّ الإنسان!! ليتَ شِعري كيف كَانَ مَدرَجُ(15) أوَّله على أمِّه الأرض؟ وأيٌّ هَديٍ, كان لَفَرطه في مَطلَعِ الفجر؟ إنّه ككلّ حيّ، لم يُخلَق سُدًى(16) ولم يُترك هَمَلاً. سلَك له ربٌّه النَّهجَ الأوّل(17) حتى يتكاثَر، وآتاهُ الهديَ القديمَ حتّى يَستَحكِمَ، وسدَّد يَدَيه حتى يشتدّ، وأنارَ بَصِيرتَه حتى يَستَكِمل، وأنبَطَ(18) فيه ذخائر الفطرة حتى يَستبحِر، وفَجَّرَ فيه سَرائرَ الإتقان حتى يَسُودَ ويتملَّك، وعلّمه البَيانَ حتى يَستَفهِمَ، وكرَّمه بالفَتحِ حتى يَتَغلَّب. فلّما ثَبَتَ عليها وتأيَّد(19)، وتأَثَّل فيها وعَمَر، نَظَر إلى معروفها فاعتَبَر، وهجَم على مَجهولها فاستنكَرَ، فكأنَّهُ من يومئذٍ, حادَ(20) عن النهج الذي لا يخَتلّ، ومَرَق من الهَدي الذي لا يتبدّل. ابتُليَ من يومئذ فتَمرَّس(21)، وأُسلِم لمَشِيئته فتحيَّر. جارَ وعَدَل، فعَرف وجرّبَ. أخطأَ وأصاب، ففكّر وتدبر. نزع(22) إلى النهج الأوّل، فأخفَق وأدرك. تاق إلى الهدي القديمِ، فأعطِي وحُرِم. احتَفر(23) ذخائر الفِطرة، فأَكدَت عليه تارَةً ونَبَعت. التمس شواردَ الإتقان، فنَدّت(24) عليه مرَّةً واستقادت. وإذا كلٌّ صُنعٍ, يتقاضاه حَقٌّ إحسانِه، وكلّ عملٍ, يَحنٌّ بِه إلى قرارِة إتقانه. فعندئذ حاكَ الشكٌّ في صدر اللاحقِ، حتى قَدَح في تمام صُنع السَّابِقِ، فَاستدرَك عليه. وقلِقَ الوارثُ، حتى خاف تقصيرَ الذاهب، فاستنكفَ الإذعانَ إليه. فكذلك جاشت نفسُه(25)، حتى اندفقت صُبابةٌ منها فيما يعمل، وتَضَرَّمَ قلبُه، حتى ترك مِيسَمه(26) فيما أنشأ فَتَدَلَّهَ بصُنع يديه، لأنّه استودعه طائفة من نفسه، وفُتِن بما استَجَاد(27) منه، لأنه أفنَى فيه ضِراماً من قلبه. وإذا هو يَستَخِفٌّهُ الزَّهوُ(28) بما حَازَ منه ومَلَك، ويُضنِيه الأَسَى عليه إذا ضاع أو هلَك. هذا هُوَ الإنسان وعملُه. فإذا دبَّت بِينَهما جَفوة تَختل(29) النَّفس حتى تَمَلّ وتَسأم، أو عَدَت اليهما(30) نَبوة تُراودُ القلبَ حتى يَميل ويُعرضَ، انطمست عندئذٍ, أعَلامُ(31) النهج الأوّل، وركدت بَوارقُ (32) الهديِ المُتقادِم، وبقي الإنسانُ وحيداً مَلُوماً محُسوراً لا يزال يسأل نفسَه: فيمَ أعملُ؟ ولم خُلِقت؟ وفيَم أعيش؟ فما يكون جوابُه إلاَ حَيرةً لا تَهدَأ، ولهيباً لا يَطفَأ، وظَلاماً لا يَنقِشع. * * * بل حَسبي وحسُبك. فلقد خشيتُ أن تقول لي: إنّما أنتَ تحدّثني عن الفنّ، ـ فهذه صفِة أهله ـ لا عن العمل، فليس هذا من نَعتِه! وكأنّي بك قد قلتَ: إنَ الفنّ تَرَفٌ مُستَحدَثٌ، أما العمل فشقاء مُتَقادِم. هذا مّما تَعجَّله الإنسانُ وعاناهُ لقَضاء حاجته، وذاك مّما تَأنَّى فيه وصافَاه(33) للاستمتاع بلذّته. والإنسان إذا جوَّدَ العمل، فمُنتهَى هَمِّه أن يجعلَه على قضاِء مآرِبه أعوَنَ، أو يكونَ له في أسباِب معيشته أنَجح وأربح. أمّا الفنّ، فَثَمَرة لغَير شجرته، يَسقيها متأنِّق(34) من ينابيعَ ثرَّةٍ, في وُجدانه، وينضجُها مشغوفٌ بِلاعجٍ, من وَجده وافتتانِه، في غير مَخَافةٍ, مَرهوبة، ولا مَنفعة مَجلوبَة، فذاك إذن بطبيعته مستهلك مُمتَهن(35)، وهذا لحرمة نَشأته مَذخورٌ(36) مُكرَّم. وأقول: بل أنت تحدّثني عن الإنسان وقد فَسَق (37) عن تِلاد فطرته، واسَتغَواه(38) الشٌّحّ حتى انسلخ من ركاز جبلَّتَه. غَرَّهُ ما أُوتيَ من التدبير، فاقتحم على غَيب مُدَبَّر، يَعتسفُه بسَفاهة جُرأته. واستخفّه ما أُعين به من المَشيئة، فهجَم على خيرٍ, مبذول، يستكثِر منه بضَراوة(39) نَهمَته. فانبَتَّ من يومئذ في فَلاة مَطموسة بلا دَليل، يَظلٌّ يكدح فيها كدحًا حتى يُنادَى للرَّحيل! جَاء مُيسَّراً لشيء خُلقَ له، فظلمه حقَه حتى عَضِل(40) بأمره فتعسَّر، وهُديَ مسددًا إلى غاية، فَغَفل عنها حتى تبدّد خَطوه واختلّ. ولو دانَ الإنسانُ بالطاعة لِفطرته المكنونة فيه منذُ وُلِد، لأفضى إلى خَبئها(41) التَّليد إذا ما استوىَ نَبتُه واستحصَد. ولصارَ كلّ عمل يَعتَمِلُه(42)، تدريبا لما استعَصى منه حتَّى يلينَ وَينقادَ، وتهذيباً لما تراكم فيه حتى يَرِفَّ(43) ويتوهَّج. فإذا دَرِب عليه وصَبَر، أزال الثرى عن نَبعٍ, مُنبِثق، فإذا ألحّ ولم يَملَّ، انشَقَّت فطرتُه عن َفيضٍ, متدفّق. ويومئذ يُسفر(44) لَعينيه مَدَب ٌّالنَّهجِ الأوّل، بعد دُرُوسه وعِفائه، ويَستَشرِي في بَصيرته وَميضُ الهَدي المتقادِم، بعد رَكدته وخفائِه. وإذا كلّ عملٍ, يَفصم عنه مُتقَنًا، وكأنّه لم يجهد في إتقانِه، وإذا هو مُشرفٌ فيه على الغاية، وكأنه مسلوبٌ كلّ تدبيٍ,ر ومَشِيئة، ولكنّه لا يَفصمُ عنه حين يفصِم، إلاّ مَطويًا على حُشاشةٍ,(45) من سِرّ نَفسه وحياته، موسوماً بلَوعَةٍ, مُتَضرمة، على صَبوَةٍ,(46) فَنِيت في عِشرته ومُعَاناته. فالعملُ كما تَرَى، هو في إرثِ(47) طَبِيعته فنٌ مُتمكّن، والإنسانُ بَسِليقة(48) فِطرَتِه فَنَّان مُعرِقٌ. * * * وإنّي لَمُحدِّثك الآنَ عن رجُلٍ, من عُرض البشَر(49)، يَتَعيش بكدِّ يَديه، صابَرَ(50) الفاقةَ عامَين، يعمَل عملاً يُفلِتُ نَفَسًا من الغنى إليه، أغواهُ ثَراء يَبهرهُ، فما كاد يُسلِمه للبَيع حتى بكَى عليه. لم أعرفُه، ولكن حدَثني عنه رجُلٌ مثلُه عَمَلُه البَيان، ذاك فِطرتُه في يَدَيه، وهذا فطرتُه في اللِّسان. * * * هذا عامرٌ أخو الخُضر: توجَّسَت(51) به الوحشُ من عِرفانها شدّةَ نِقمته، جاءت ظامئة في بَيضَة الصيف(52)، فراعَها مَجثَمهُ في قُترتِه. قليلُ التِّلاد، غيرَ قوسٍ, أو أسهُمٍ,، خفيّ الِمهَاد، غيَر مُقلة تتضرَّم. تبيَّنت لَمحَ عَينيه، فانقلبَت عن شريعة الماء هاربة، ذكرت نِكاية مَرماهُ، فآثرت مِيتَةَ الظَّمأ على فَتكة الأسهُم الصائبة. وما عامرٌ وقَوسَه؟! 1 ـ فَدَعِ الشَّمَّاخَ يُنبِئكَ عن قَّواسِها البَائِس في حَيثُ أَتاَهاَ: 2 ـ أين كاَنت فيِ ضَمِير الغَيبِ من غِيلٍ,(53) نَماَهاَ؟ 3 ـ كَيف شقَّت عينُهُ الحجبَ إليها، فاجتَبَاهَا(54)؟ 4 ـ كَيفَ يَنغَلٌّ(55) إلَيهاَ فيِ حَشاَ عِيصٍ, وقاَهَا؟ 5 ـ كَيفَ أَنحى(56) نَحوَها مِبرَاتَهُ، حتى اختَلاَهَا؟ 6 ـ كَيفَ قَرَّت فيِ يديه، واطمأنَّت لِفَتَاهَا؟ 7 ـ كَيفَ يَستَودِعُها الشَّمسَ عَامَين.. تَرَاهُ وَيَرَاهَا؟ 8 ـ كَيفَ ذَاقَ البُؤس.. حتى شَربَت ماَء لِحاَها(57)؟ 9 ـ كَيفَ نَاجَتهُ.. وَنَاجَاها.. فَلاَنَت.. فَلوَاهَا؟ 10 ـ كَيفَ سَوَّاهَا.. وَسـَوَّاهَا.. وَسَوَّاهَا فَقَامَت.. فَقَضَاهَا؟ 11 ـ كَيفَ أَعطَتهُ منَ الِّليِن، إذَا ذَاقَ(58)، هَوَاهَا؟ 12 ـ أيٌّ ثَكلَى أَعَولَت إذ فَارَقَ السَّهمُ حَشَاهَا؟ 13 ـ كَيفَ يُرضِيهِ شَجَاهَا؟ كَيفَ يُصغِي لبُكاَهَا؟ 14 ـ كَيفَ ريعَ الوَحشُ مِن هَاتِفِ سَهم إِذ رَمَاهَا؟ 15 ـ كَيفَ يَخشَى طَارِقاً، فيِ لَيلةٍ, يَهمِي(59) نَدَاهَا؟ 16 ـ كَيفَ رَدَّاهَا(60) حَريرَ البَزِّ حِرصاً وَكسَاهَا؟ 17 ـ كَيفَ هَزَّتهُ فَتَاهَا؟ وَ- تعالى - وَتَبَاهى؟ 18 ـ كَيفَ وَاَفى مَوسَم الَحج بِهَا؟.. مَاذَا دَهَاهَا؟ 19 ـ أيٌّ عَين ٍ,لَمَحَت

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply