- أيها العابرون من هنا، لحظة من فضلكم!
- ما الأمر؟!
- هناك مأساة أود أن أسردها على مسامعكم لتكونوا شاهدين على عصرنا..
- مأساة؟
- نعم مأساة، مأساة لو شئتم لأجملتها لكم في سطرين، ولو شئتم أن تستزيدوا، فإن أيام حياتكم كلها لن توفيها حقها.
- عجبا! وأي مأساة هذه؟
- إنها مأساة ما تقفون على أنقاضه!
- وهل نقف على أنقاض؟!
- نعم، على أنقاض ذكرياتنا وحياتنا، على أنقاض حريتنا وحقنا الذي حاول البعض إنتزاعه منا واهمين، وعلى أنقاض مخيمنا الجريح!
- مخيم؟ لقد أثرتِ فضولنا، فهيّا حدثينا، فكلنا آذانٌ صاغية.
- حسناً، اسمعوني إذاً، اسمعوني ودعوا ضمائركم تتحدث وتنطق بالحق والعدل عالياً...
كان ذلك في يومٍ, من أيام هذا الزمن الكثيرة، ربما كان يوماً عادياً يسير برتابة كسائر الأيام التي تمرٌّ على هذا العالم، لكن هنا، وفي هذه البقعة من الكون بالذات، كان الأمر مختلفاً وإلى أقصى الحدود، ففي سويعات قليلة، كانت الفاصل بين البقاء والفناء، بين الوجود والرحيل، وبين الموت والحياة، تحوّلت بقعة صغيرة من هذه البسيطة - سطّرت يوماً أروع ملاحم البطولة والتضحية- تحوّلت إلى ركام، خراب.. ودمار، فهنا.. كان أناس تقتل وأخرى تجرح، أناس تحرق بنار حقد الغير، وأخرى تهدم مساكنها فوق رؤوسها، أناس تفقد أعزّ ما تملك... بيتها... ذكرياتها.. حياتها...
ابنها وابنتها.. والدها ووالدتها، ثم لتفقد ذاتها، نفسها، ولتقضي نحبها بسادية لم تر البشرية مثيلاً لها على مر العصور، سادية كانت كافية لتلين الصخر نفسه الذي كان شاهداً عليها. لا شكّ أن أسئلة كثيرة ستتبادر إلى أذهانكم، وتتصارع فيما بينها الآن، لكن أكثرها إلحاحاً بالتأكيد، متى وكيف لم نسمع بها؟ ثم.. لماذا؟!
متى؟.. كان ذلك في وقت كنتم فيه غارقين حتى آذانكم في شهوات وملذّات هذه الدنيا الفانية، وكيف لم تسمعوا بها.. ربما لنفس السبب السابق، وربما لأن ضمائركم كانت قد جفّت وربما كانا الاثنين معاً.. أراكم تستنكرون وتحتجون وترفعون أصواتكم و...
ولكن أليست هذه هي الحقيقة؟ أليست الحقيقة التي تسكن قلوبكم وترفض أن تصدّقها عقولكم وتعترف بها؟ لكن دعونا من هذا الآن، فما حدث قد حدث ولم يعد هناك مجال حتى لمجرّد التفكير بالتراجع، وهنا نأتي لنكرر سؤالنا، لماذا؟.. لماذا؟..
أما لماذا؟، فإجابتها بسيطة، أو لعلها ليست كذلك، وأيّاً كان وصفها فهي إجابة واحدة على مرّ الأزمنة والعصور...
بسبب الضغائن والأحقاد التي تسكن القلوب...
بسبب الرغبة في التملك والانفراد والسيطرة التي تجتاح العقول...
وبسبب الأنانية والسادية التي تلتهم كل ذرة إنسانية باقية في ثنايا الإنسان، فهناك.. انظروا هناك.. انظروا إلى تلك المرأة واذهبوا إليها، اذهبوا إليها لتحدّثكم عن مأساة دفن فلذة كبدها حيّاً أمام ناظريها، وعلى بعد أمتار منها اذهبوا لتسمعوا مأساة استشهاد الوالد وأنظار طفل بخشوع شاخصة تنظر إليه، وعند تلك الزاوية هناك، أصغوا لفتاة كغصن البان فقدت بصرها، وإحدى يديها وتركت وحيدة في صحراء هذه الدنيا دون أنيس أو رفيق و..و..و...
والمآسي كثيرة، ولعلها لن تنتهي أبدا ما دامت نزعة الحرب والدمار مزروعة في نفوسنا، وها أنا قد أخبرتكم، ولعلي لم أذكر لكم قطرة من بحر المآسي التي حصلت، ولم أروِ لكم ذرة من ذرات رمال صحراء هذه الجرائم، لكني سأترك لضمائركم أن تجيب، وإنسانيتكم أن تتحدث وتستيقظ من سبات دام طويلاً وجاوز الحدّ في الطول، لكني أرى، وفي غمرة انشغالي برواية هذا الفصل من فصول مسرحية المأساة هذه، أني أغفلت جواباً لسؤال أراه واضحاً في عيونكم قبل أن تنطقه ألسنتكم، من هم؟ من هم أولئك القتلة الذين استلذوا بتعذيب الآخرين وسفك دمائهم؟ من هم أولئك الوحوش الذين قتلوا الطفولة والبراءة وسلبوا بريق الحياة من العيون؟ من هم أولئك السفاّحون الذين داسوا حلماً، وخنقوا أملاً، ونشروا الأحزان في كل مكان؟
هم أعداء الإنسانية و البشرية على مر العصور، ولعلي كنت سأكتفي بهذا القول، لكني سأضيف:
\"هم صهاينة عنصريون غاصبون، استرقّوا قلوبكم بمحرقة مزعومة ليصنعوا منها محارق على مرّ التاريخ يندى لها الجبين\".
وقبل أن تحزموا أمتعتكم وتشدّوا رحالكم إلى بقعة أخرى، لن أنسى أن أذكر لكم أن هذا المخيم الذي سيسطّر اسمه في صفحات التاريخ بلونٍ, أحمرَ قانٍ,، هذا المخيم الذي سينقش اسمه نقشاً في مقدمة مجازر وجرائم أولئك الغاصبين، المخيم الذي سيبقى دوماً رمزاً لتضحية وفداء... وعاراً يكلل جبين الجبناء...
هذا المخيم هو..
مخيم جنين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد