(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إن من عظيم نِعَمِ الله على العباد وَهبَهُ إياهم أموراً تُمَيِّزُ بعضَهم فيها عن بعض ، و قُدَرَاً متفاوتة مختلفة .

فليس البشر كلهم في القُدُرَات سواءً ، و لا هم _ أيضاً _ في المواهب على اتفاق ، بل أوجَدَ الله فيهم اختلاف ذلك ، و تفاوته و عدم اتفاقه لِحِكَمٍ, عُظمى قلَّ المُدرِكُون لها .

 

و لذلك كانت هذه الكلمة تحمل في طيَّاتها أصلاً أصيلاً ، و قاعدةً متينةً و هي : ( معرفة المرء قُدَرَ نفسه ( .

قال العلامة ابن عاشور _ رحمه الله _ : ( و هذه الآية أصلٌ لوجوب عرضِ المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علِمَ أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة .

و معناها واردٌ عن السلف _ رضي الله عنهم _ و من أحسن تلك الكلمات ما كتبه الإمام مالك بن أنس _ رحمه الله _ لأحد العباد _ لما كتب أحد العباد إليه ينكر عليه اشتغاله بالعلم، ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك -رحمه الله-: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".

 

فالإمام مالكٌ _ رحمه الله _ أشار هنا إشارة بليغة إلى هذه القاعدة الكبيرة ، فما أفقهه من إمام ، و ما أبعد نظره .

و هذه القاعدة الكبرى مُرتَكِزَةٌ على ركيزَتَين اثنتين :

الأولى : عدم رَفعِ النفس فوق قدرِها .

حيث ترى _ و هو كثير _ مَن يُخادع نفسه و يُلبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها ، ليست هي من أهلها و لا قَرُبَت من أحوالهم .

الثانية : عدم إهانتها و إنزالها عن قدرها .

و هذه كسابقتها في الكثرة و الانتشار .

و كما أن الناس متَّعَهم الله بقُدَرٍ, فإنه مما لا شك أن لتحصيلها سُبُلاً و طُرُقَاً ، و جملة تلك طريقان :

الأولى : إدراك المرء ذلك من نفسه .

و ذلك من خلال تجارُب و أحوال مرَّت به علَّمته أنه يملك قُدرَةً على أمر دون غيره ، و قليل من يُدرِكُ ذلك من تلقاء ذاته .

و لقد حَفَلت السيرة بشيء من ذلك ما يُذكِرُ عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال : أنا من الراسخين في العلم .

فابن عباس _ هنا _ أدرك من نفسه هذه القُدرَة فنبَّه عليها ، و أفصح عن حقيقتها .

و مثله : ما يُذكرُ عن كثير من السلف _ صحابةً و تابعين و تابعيهم _ من إخبارهم غيرَهم عما يعلمونه دون غيرهم .

الثانية : إدراك غيره منه .

الإنسان مَدَنِيٌ بطبعه ، مُنجَذِبٌ إلى بني جنسه ، كثير المعاشرة لهم لذا فقد يطلع بعضٌ على أن فلاناً موهوب بموهبة كذا و هو جاهل بقُدرَته هذه ، غافلاً عن تلك الموهبة .

و من هذه ما حفَلَت به السيَر فمنها :

شأن أبي ذر _ رضي الله عنه _ فقد طلب من النبي أن يوليَه إمرةً فقال له: "إني أراك ضعيفا،ً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم"

 

فالنبي أدرك من حال أبي ذر _ رضي الله عنه _ عدم أهليته للإمارة فنهاه ، و قد غابت هذه عنه و أدركها غيره .

 

و مِن ذلك ما يُذكر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي _ رحمه الله _ لما جاءه الأصمعي _ عبد الملك بن قريب _ رحمه الله _ طالباً علم العَرُوض فلم يستطع فهمه ، فأنشد الخليل :

إذا لم تستطع شيئاً فدعه       و جاوزه إلى ما تستطيع     

و مما يَجدُرُ التنبٌّه إليه هنا ضرورة اهتمام العلماء و المربين إلى من تحت أيديهم من طلابٍ, و مُرَبَّين و ما يتمتعون به من قُدُرَاتٍ, و طاقات ، و دلالتهم إلى حُسنِ استغلالها ، و إعانتهم في تفعيلها لخدمة العمل الإسلامي .

كما هو الشأن في فعل النبي مع زيد بن ثابت _ رضي الله عنه _ حيث دلَّه على تعلم لغة يهود _ السريانية _ .

و أحوال و أفعال أُخَر من النبي في هذا الصدد المهم .

و حيث عُرِفَ هذا فإن على الإنسان أن يعلم أن لهذه المعرفة لقُدُرَات النفس مجالان _ هما أهم ما يظهر في الساحة _ :

الأول : العلم .

مُفرِحٌ أن نرى كثيراً من رجال الصحوة يعملون و يشتغلون في طلب العلم ، و لكن يُؤسِفُ _ جداً _ أن ترى عدداً ليس بالقليل منهم ينفضٌّ عن مجالس العلم تلك في فترة قصيرة و جيزة .

و حين بَحثِ السبب في ذلك تلمح أنه الجهل بقُدرَةِ الرجل و ميوله و اهتمامه .

فإن طلب العلم شأنُ مَن ليس له أي شأن إلا طلب العلم º فهو يحتاج إلى تفرٌّغٍ, ، و سهر ، و بحث ، و تحرير ، و حفظٍ, ، … .

فكثير ممن سلك ذلك لم يَدُر في خاطره _ و لو لمرَّةٍ, _ تساؤلٌ :

هل هو ممن يستطيع طلب العلم و التفرٌّغ له ، و إعطاءه حقه ؟

الثاني : الدعوة .

إن الاهتمام بالدعوة شأن كثيرين من رجال الصحوة و شبابها ، و هذا مما يُبَشِّرُ بخير .

لكن يَرِدُ عليه ما وَرَدَ على المجال السابق و هو : أن بعض المشتغلين بالدعوة ممن دفعتهم عاطفتهم إلى العمل بها ، و هذا أمر لا يُراد إذ أمور الدعوة لابد لها من سلوك مسارات منضبطة ، و نظام مدروس .

أما أن تُسلَك سُبُل الدعوة هكذا بلا قواعد تُدرَسُ من خلالها ، فلا .

و أما أن يسلك الدعوة من له قُدرة على تحمل أعبائها و من ليس له قدرة ، فلا ، و ليس من شأن الجادين

هذان مجالان مهمان جاء الحديث عنهما لكونهما هما الظاهران في الساحة ، و في صفِّ رجال الصحوة ، و في سلك العمل الدعوي .

و إلا فهناك مجالات كثيرة تحتاج إلى أن نتحدَّث عنها في مثل هذا .

و أخيراً : فإن لمعرفة المرء قُدَرَ نَفسِه ، و اكتشاف مواهبه ، فوائد نفيسة º منها :

الأولى : تنظيم العمل الإسلامي .

فإذا عرف كلُّ منَّا ما يحسنه و يتقنه من أعمال ، و مجالات ، انتظم العمل الإسلامي بعمومه º العلمي ، و الدعوي

فمن عرف أهليته للعمل الدعوي ، و توافرت لديه إمكانات و قُدَرُ الإبداع في المجال الدعوي سلكه و سار فيه .

و من عرف من نفسه الإتقان في المجال العلمي انتهجه و لَزِمَه .

و بذلك ينتظم العمل الإسلامي في أحسن مساراته .

الثانية : حفظ الوقت .

و سرٌّه أن كلاً سيعمل في حقله الذي مالت إليه نفسه ، و وثق في الإتقان فيه ، و الإبداع في مجالاته .

و حفظ الوقت هنا نوعان :

الأول : حفظ وقت العمل الإسلامي .

فلا يضيع أكثر زمانه في أمور ليس منها نفع له .

و ذلك : أنه لو أخذ كلُّ منَّا مجاله الذي يتقنه لكان في ذلك إنجاز أهدافٍ, كِثار كبارٍ, في مشروع العمل الإسلامي .

لكن حين تقلب كثيرٍ, من رجال الصحوة في مجالات عِدَّةٍ, ، و تنقلاتهم فيما بين مجالات العمل الإسلامي تتأخر أهداف كان تحققها في وقت سبق ، أو ربما تتحق في وقتها لكن ليست بإتقان و إحكام ، و هذا مما لا يتمشى مع أهدافنا في العمل للإسلام و السعي نحو نشره .

الثاني : حفظ وقت الشخص .

ففي سلوكه مجالاً ليس له أهلية السلوك فيه يُورِثُه الملل و السآمة ،و من ثَمَّ الانقطاع عنه و البحث عن غيره  

فهذه الحالة أنتجت ضياع وقت كان من الممكن أن يُستَغلَّ _ لو عُرِفَت قُدرَةُ النفس _ في غيره من الأعمال الأخرى .

و أعني بالأعمال : ما يحسنه الشخص و يرى أهليته له .

الثالثة : تقدير الجهود .

حيث كلُّ على ثَغرَةٍ, من ثغور العمل الإسلامي ، و كله عمل خير .

فذو العمل الدعوي يُقَدِّرُ جُهدَ العامل في العمل العلمي ، و كذلك العكس .

و حين تتخلَّف المعرفة لِقُدَرِ النفس و مواهبها يكون النقد _ الهادم _ للجهود ، و يكون الانتصار للزيف الإنتاجي إذ يظن كل عامل أنه خير من صاحبه شأناً ، و أجل منه عملاً .

و هذا ما جلب لنا الخرقَ الكبير في صرح العمل الإسلامي .

الرابعة : تغطية جوانب العمل الإسلامي .

و لعل هذه من أجلِّ فوائدها ، و أعظم ثمارها º فهو ما نطمح إليه في العمل للإسلام و السعي لنشره و تبليغه للناس في أقاصي الأرض .

فقد عَلِمَ كلٌ مشربه ، و لَزِمَ دَربَه .

فَيَجِدٌّ العامل بإتقان عمله و توسيع نطاقه ، و تكثير مَن يُعينه ممن ينهج نهجه في القُدَر و المواهب .

هذه خاطرة سنحت فكُتِبَت ، آملُ أن أكون قد وُفِّقتُ في وضع نقاط على أحرفها .

و الله الموفق و الهادي لا إله إلا هو ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد .

 

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply