حوار المفاهيم (2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تضمن المقال السابق النقاط التالية:

أن الألقاب والأنساب إلى الأديان والبلدان والمهن ظاهرة بشرية، المقصود منها التعارف، وأن أحكامها تختلف باختلاف مضمونها وموقف الدين منها، وأن من بين هذه الألقاب يبرز لقب السلفية والسلفيين وليس فيه محذور شرعي، وأن حقيقة هذا اللقب هو الرجوع في فهم الدين إلى صورته الأولى في الوضوح والسلامة من الزيادة أو النقص، وإفراد الكتاب والسنة بالمرجعية، وأن من العجب أن يعترض على هذا اللقب الشريف الذي يعمق صلتنا بسلفنا الصالحين الماضين في حين تنتشر في كل اتجاه الفرق التي تحمل الألقاب المستهجنة شرعاً، وبعضها يرجع أصله إلى مذاهب إلحادية ولا نسمع حولها أي تشويش.

 وأريد في هذا المقال أن أوضح أكثر في الاستدلال على مشروعية هذه النسبة فأقول:

الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإذا أردنا أن نحكم على مذهب أو عقيدة أو لقب فلا بد أن نتصور مفهومه عند أهله أولاً، ثم ننظر في الكتاب والسنة لنلتمس حكم الله فيه من الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الندب أو الإباحة، فمثلاً إذا أردنا أن نصدر حكماً على المذهب الاشتراكي أو الشيوعي كمذهب إلحادي فلا بد من معرفة ماهيته، ثم ننظر في حكم الله فيه، وهكذا إذا أردنا أن نحكم على الخوارج مثلاً كمذهب يزعم أهله أنه إسلامي فلا بد من تصور مذهبهم، ثم الحكم عليه بما يستحقه شرعاً وهكذا سائر الفرق.

وإذا نظرنا في التعريف السابق لمدلول لقب السلف أو السلفية فلا يبدو لي أن هناك مانعاً شرعياً يمنع من هذا اللقب لسلامة مدلوله من المحاذير الشرعية، بل ولتضمنه مقصداً من المقاصد الشرعية العظيمة ألا وهو أنه يفرض على أصحابه تصور هذا الدين كما كان في صورته الأولى، ورفض الزيادة عليه والنقص، وما أظن أن أحداً يعترض على هذا المقصد من حيث الجملة.

وهنا أمور حصل الاتفاق فيها وينبني عليها الكلام في صحة هذه النسبة من عدمها، وبيان ذلك أن المسلمين أو على الأقل الحركات الإسلامية متفقون على أن أحوال الأمة الإسلامية اليوم أحوال مزرية ومتدهورة في كل المناحي، وعلى أنها قد تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فنهبوا ثرواتها، وغيروا ثقافتها، وفرقوا صفوفها، وجمدوا نشاطها، وجعلوها في المؤخرة.

ومتفقون على أن سبب ذلك هو البعد عن الدين، وأن هذا البعد يتمثل إما في رفض التحاكم إلى هذا الدين، ورد مسائل النزاع إليه، واعتماد مصادر أخرى مغايرة، وإما إلى سوء فهم في تصورنا لقضايا متعددة منه، ومتفقون على أن الحل والمخرج لنا مما نحن فيه هو التمسك بديننا، ورجوعنا إليه.

ومتفقون - باستثناء الروافض - على أن الصحابة والتابعين هم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لتمثيل هذا الدين، وما منا من أحد إلا إذا أراد أن يشيد بأمجاد هذه الأمة، وتاريخها المشرق، وإنجازاتها الحضاريةº فإنه لا يجد ما يقوله إذا لم يكن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، ومن سار على منهاجهمº موضع استشهاده وإشادته، فهم الصفحة المشرقة المحتوية على كل الأمثلة التي نفاخر بها الأمم سواءً من ناحية سلامة المعتقد والتصور والفكر الذي أقاموا به تلك الحضارة وشادوا عليه بنيانها، أو من ناحية العدل وقيم التعامل مع مختلف الأمم التي وجدت نفسها تحت حكمه وقيادته.

وبعد هذا الاتفاق على أحوال الأمة، وعلى ضرورة الرجوع إلى الدين، واعتباره العنصر الرئيس في إحيائهاº فقد قام كل فريق من هذه الأمة - من المهتمين بالدعوة إلى الله - بما يراه واجباً في دعوته لأمته، وأخذه بيدها لإرجاعها إلى دينها، فترافقوا في سيرهم، وتفارقوا في مناهجهم ومفاهيمهم لهذا الدين.

فمنهم من يرى أن المنهج الواجب الاتباع هو ما عليه الموروث الصوفي من الاستنجاد بالموتى، والاستغاثة بهم، والاشتغال بإحياء الموالد والأناشيد الدينية، وإحياء طرائق الفرق الصوفية السلوكية كالشاذلية، والرفاعية، والقادرية وغيرها، والدعوة إلى التقليد المذهبي والجمود الفقهي وغير ذلك، مدعين أن الحل لما تعيشه الأمة من الناحية الفكرية والسلوكية هو هذا المنهج الذي هم عليه، وأن هذا هو الدين الذي أمرنا الله باتباعه واعتناقه.

فإذا عرضنا هذه المنطلقات على ما كان عليه الصحابة فإننا لا نجدها في سلوكياتهم وعباداتهم وأعمالهم، بل نجد أحوالهم ضد هذه الأوضاع والطرائق.

وفريق آخر يرى أن الدين هو ما قاله الأئمة المعصومون - في زعمه - وما فهموه منه وهو مذهب يقوم على تقديس أهل البيت، وطلب الشفاعة منهم، والاستغاثة بهم في الملمات، وقد وصفوهم وصفاً يخرجهم عن الطبيعة البشرية، ويقوم دينهم هذا على الطعن في الصحابة، وتكفير معظمهم، ويقومون بأعمال جاهلية تشوه جمال الإسلام وصفائه مثل: ضربهم لأنفسهم بالسلاسل، وتفجير الدماء من مواضع عديدة من أجسامهم ورؤوس أطفالهمº متقربين إلى الله بذلك، زاعمين أن هذا هو دين الله الحق الذي تجب دعوة الأمم إليه، وأنه هو الدين المعني بقوله تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).

ومعلوم براءة الدين الإسلامي، وبراءة السلف الصالح - وعلى رأسهم الإمام علي رضي الله عنه، وعن أهل بيته - من هذه الأوضاع كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب - كما يقال -.

وأتى فريق آخر فزعم أن الدعوة إلى الله والرجوع إليه يكمن في سلوك المناهج الفلسفية، والطرائق الكلامية، والمحارات العقلية في الدفاع عن العقائد الدينية، والأحكام الشرعية، أمام الهجمات الفكرية الصليبية والاستشراقية، وأن النصوص الشرعية لا تكفي في هذا الباب، لأن القضية عقلية، والنصوص الشرعية مساعدة فقط لا يعتمد عليها، ولا تنفرد بالتأصيل لهذه القضايا، وأعادوا دعوة أسلافهم إلى تلك المناهج جذعة ممن أطلق عليهم لقب أهل الكلام مع علمهم بمخالفة السلف الصالح لها، وتحذيرهم منها.

وفريق آخر أذهلته الحضارة الغربية بوسائلها المادية، وطرائقها السياسية والاجتماعية، ومظاهرها المدنية، بل ومناهجها الفكريةº فصار مجنوناً بها يهذي في كل الأوقات بالإشادة بها، داعياً إليها، ساعياً إلى التوفيق بينها وبين خصائص الحضارة الإسلامية بطرق ملتوية، وتأويلات فاسدة، متألماً من تخلف الأمة عن ذلك الركب، وصار يركب الصعب والذلول في طرق التوفيق، فأتى بما أضحك منه العقلاء.

هذا بالإضافة إلى التوجهات الأخرى (غير الحركات الإسلامية) التي استدبرت مكة والمدينة، واستقبلت بوجهها إلى أثينا وواشنطن، ولندن وباريس وموسكو مثل: مناهج الأحزاب العلمانية القومية منها والوطنية، والديمقراطية منها والاشتراكية، والتي تشعبت بها السبل، وتفرقت بها الطرق، فلم تزد الأمة إلا خبالاً، ولم تجن الأمة منها إلا مزيداً من التفرق والتشرذم، والعداء والتربص بعضها ببعض.

فأمام هذه التوجهات برمتها فما ذنب من يتبنى في دعوته لأمته الإسلامية طريقة سلفها الصالح في الاعتقادات والعبادات والسلوك، وطرائق التفكير والحكم على الأشياء، معتمداً على كتاب الله وسنة رسوله، مستقبلاً بوجهه وفكره مكة والمدينة مهبط الوحي، رافضاً الإقتداء بماركس ولينين وإنجلز وغيرهم من مفكري اليهود والنصارى قديماً وحديثاً، داعياً أمته إلى التمسك بهذا الدين في العقيدة والشريعة، ولا يمنع من الاقتباس من هذه الحضارات العلوم الإدارية، والاستفادة من تكنولوجيا العلوم المختلفة، والثورات المعلوماتية، والسباق في الإحاطة بهذه العلوم، والمشاركة في الإبداع فيها، والإتيان بجديدها العربي والإسلامي، لأن هذه العلوم الآلية لا تختلف باختلاف الثقافات والأديان والعقائد، فهذه التكنولوجيات هي في لندن وواشنطن وباريس وبرلين النصرانية، وكانت في موسكو الشيوعية سابقاً، وهي في الصين الشيوعية حالياً، وهي في اليابان الوثنية، وماليزيا والباكستان الإسلامية، والهند المتعددة في ثقافتها وعقائدها، فليس بين ديننا وبين التقدم الصناعي ووسائل القوة والترفيه والتيسير المعيشي على الناس أي عداوة إن لم يكن يوجبه.

وإلى لقاء قادم بإذن الله – تعالى -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply