بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي الفقيه الإسلامي المعروف، ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة - جامعة دمشق، وصاحب المؤلفات الموسوعية التي أضافت الكثير للمكتبة الإسلامية هو ضيفنا في هذا الحوار، حيث نحاوره فيما يهم الساحة الإسلامية من قضايا.
* يتعرض الإسلام لحملات عاتية ولا تتوقف من أعدائه، كان آخرها تهجم بابا الفاتيكان عليه ووصفه إياه بالعنف وأنه انتشر بالسيف وأن الجهاد وسيلة لقهر الشعوب.
** هذا كله إما جهل بحقيقة دعوة الإسلام السلمية، أو تشويه مغرض نابع من نار التعصب والحقد والكراهية على المسلمين، أو تفسير مغلوط لحقائق التاريخ، أو تأويل سطحي لبعض النصوص التشريعية وعبارات بعض الفقهاء الرامية إلى الحفاظ على قوة المسلمين وتأكيد هيبتهم، وضرورة صمودهم واستماتهم في قهر العدو الذي بدأ العدوان، واخترق حرمات المسلمين وديارهم وأوطانهم، واغتصب بعض أجزاء بلادهم، وقاوم بشدة وظلم وتحدّ كل مقومات الحرية الطبيعية في اختيار العقيدة الصالحة والدين الأقوم.
والواقع أن الإسلام في جوهره ووسائله وغاياته أشدّ الأديان حرصاً على إقرار الأمن والسلم في العالم، سواء في أوطانه، أو في أوطان الآخرين، لا يختلف اتجاهه في التاريخ بدءاً من بزوغ فجر دعوته، ومروراً بسياسة دوله وحكّامه وعلى مر العصور، وانتهاءً بتحقيق الغاية الأساسية له، وهي: تحقيق الاستقرار والاطمئنان في العالم، وتوطيد دعائم السلم في كل وقت، واحترام أصول الحرية والعدالة والمساواة في كل مكان وزمان، ومع كل شعوب العالم.
ومنشأ التشويه والخطأ في فهم رسالة الإسلام السلمية أن المسلمين في كل العصور، وفي الماضي والحاضر والمستقبل كانوا ومازالوا هم المعتدى عليهم والمهددة مصالحهم، والمتآمر على وجودهم وكيانهم، ومحاولة القضاء على وطنهم ودعوتهم، واستلاب خيراتهم ومحاولة تركيعهم لنفوذ وهيمنة غيرهم من أولئك الذين ينتمون إلى الثالوث المدمر ألا وهو: الشرك أو الوثنية، واليهودية أو الصهيونية الغادرة، والصليبية الحاقدة.
إن دعوة الإسلام إلى الأمن والسلم الدوليين، والأمن الداخلي بين أبناء المجتمع في مطالبة تعددية مذهبية ودينية وطائفية هي من جوهر رسالة الإسلام وغايته الأساسية، لأن الإسلام دين العقل والفكر، وأبسط المبادئ العقلية أن ما فرض بالقوة أو أكره عليه ولاسيما العقيدة، سرعان ما يزول بزوال ظرف الإكراه أو القوة، وقد صرح القرآن الكريم بمنع الإكراه في الدين، أو إقرار الحرية الدينية، فقال الله - تعالى -: {لا إِكراهَ فِي الدِّينِ} وهذا دليل قاطع على أن المسلمين لم يكرهوا ولن يكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام، وقد دلت وقائع التاريخ على هذا، فلم يثبت في أي حقبة زمنية في الماضي السحيق أن المسلمين أكرهوا أحداً على الإسلام.
والحقيقة المؤكدة أيضاً أن الإسلام حريص كل الحرص من أجل ضمان حرية انتشاره في العالم على إشاعة السلام والاستقرار، ومحاربة الإرهاب، إلا إذا توافرت حالة الحرب، أو اعتدي على بلاد المسلمين. وأول دلالة على هذا أن المسلمين في صدر الإسلام صبروا على أذى المشركين الوثنيين ومن وراءهم من الحاقدين فترة تقارب 15 سنة، دون إذن بردّ الاعتداء، ومع الإصرار على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة، وفيما بعد مرحلة الإذن بالقتال وتقرير مشروعيته، أمر الله - تعالى -المسلمين بان يؤثروا السلام والتفاهم والحوار وحل المشكلات بالصلح والمعاهدة، فقال - تعالى -: {وَلا تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَستَ مُؤمِناً} [النساء: 4/94]، {يا أَيٌّها الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ كافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ} [البقرة: 2/208]، {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 8/61].
وكانت تحية الإسلام على الدوام: السلام عليكم، والجنة: دار السلام، {وَاللَّهُ يَدعُو إِلَى دارِ السَّلامِ} [يونس: 10/25].
ولكن من العبث والهزء أن يدعو المسلمون غيرهم في أثناء نشوب المعارك إلى قبول السلام، لذا قال - تعالى -: {فَلا تَهِنُوا وَتَدعُوا إِلَى السَّلمِ وَأَنتُمُ الأَعلَونَ} [محمد: 47/35].
وإذا قبل الأعداء قبل البدء في القتال الاحتكام إلى السلام والصلح والتفاهم والمعاهدة الموطدة لدعائم السلام، فإن المسلمين على الفور يستجيبون لنداء السلام الآمن المستقر غير القائم على المكر والخداع، ونية العودة إلى القتال، والاستعداد للمعارك في المستقبل، فمن الخطأ الفادح وصف المسلمين أنهم متعطشون لإراقة الدماء، فهذا صنيع أو شيمة من لا يخشى الله، ولا يعتقد بأن البشرية كلها عباد الله، وصبغته وصنعه: {صِبغَةَ اللَّهِ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عابِدُونَ} [البقرة: 2/138].
والقاعدة أو المبدأ العام في العلاقات الخارجية أو الدولية بين المسلمين وغيرهم هو السلام، والحرب استثناء أو ضرورة طارئة، وهذا مقرر لدى مختلف الفقهاء من المذاهب: أهل السنة وغيرهم، بدءاً من أواخر القرن الهجري الأول والقرن الثاني: عصر الاجتهاد الفقهي.
لكن إذا اغتصب الأعداء أرضاً إسلامية، أو تآمر غير المسلمين الخاضعين لمظلة الدولة الإسلامية على إحداث الفتن الداخلية أو محاولة الانفصال والانشقاق، فلا يصح للمسلمين اللجوء إلى المسالمة، بل لابد من استرداد الحق بالقوة، والحفاظ على وحدة البلاد ووحدة الأمة من المسلمين وغير المسلمين، لأن القبول بالغضب ذلة ومهانة، والرضوخ لأراجيف الأعداء ومؤامراتهم وتحركاتهم المشبوهة لون من الهزيمة والضعف أو الاستضعاف، وهذا مناف لمبدأ الكرامة الإنسانية، وعزة النفس، وصون الحقوق والمكاسب، وحينئذ ينقض عهد المعاهدين، ويحتكم إلى السلاح.
* انتشرت في الآونة الأخيرة الدعوة إلى الحوار بين الأديان، فهل لهذا الحوار حدوداً يجب أن يقف عندها؟
** إن كان الهدف من الحوار الديني استغلال الجانب الإسلامي للاعتراف بصحة ما عليه غير المسلمين من عقائد وأوضاع فهذا عمل خائب أو فاشل يجب الحذر منه.
وإنني مع الحوار في الجانب المناوئ للإلحاد أو المهدد لمصالح أمتنا وحقوقها في فلسطين وغيرها من البلاد المعتدى عليها.
ولست مع الحوار الذي يعني صهر الأديان وتوحيدها في مفهوم عقدي واحد ينافي أصول الدين الإلهي الحق القائم على التوحيد الإلهي والعدل والمودة والمساواة وإحقاق الحق وإبطال الباطل.
* يرى كثيراً من الناس، ومعهم بعض المتخصصين أن الفقه الإسلامي لم يعد يستوعب مقتضيات العصر، نتيجة للاكتشافات المتوالية، وتغير أنماط الحياة، ويقولون إننا بحاجة إلى تجديد في الفقه. إلى أي حد تصدق هذه الدعاوى؟
** هذا كلام يردده بعض الناس السذّج الذين هم لا يعرفون من الفقه شيئاً ويريدون تجديد كل شيء. الإسلام هذا شرع الله ودينه، وأحكامه منها الثوابت ومنها المتغيرات، فالثوابت هذه لا مجال لتغييرها وتبديلها فهي شرع الله أحكم الحاكمين، ولا يملك أحد في الدنيا أن يغيّر جزءاً من هذه الأحكام لأنها أساس بقاء الشريعة وخلودها إلى يوم القيامة، وهناك زاوية أخرى من الأحكام الأصلية على مسايرة العرف ومراعاة المصالح الزمنية وأحوال القياس والمصالح المرسلة، هذه يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، وتتجاوب مع مقتضيات الحياة، وحينئذ الجمع بين الثوابت والمتغيرات هو الذي يحقق لهذه الشريعة خلودها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وهؤلاء الذين يدعون إلى تجديد الفقه الإسلامي لا يدركون حقيقته، إنه نظام للحياة الإنسانية برمتها، والدليل على ذلك أن غير المسلمين منذ مؤتمر لاهاي في عام 1937 وفي مؤتمر باريس عام 1951م ومؤتمرات عمداء كليات الحقوق في السبعينيات والثمانينيات في القاهرة وبيروت والرياض، كلهم أجمعوا على أن الشريعة الإسلامية - يريدون بها الفقه لا العقيدة - شريعة حية صالحة لكل زمان ومكان وأنها من مصادر التشريع العالمية الكبرى، وأنها تصلح للتطبيق. هذا الحكم دليل على أن هؤلاء بعقليتهم القانونية الفذّة أدركوا ما في هذا الفقه من عظمة ونظام شامل لكل أنواع الحياة ومجالاتها، فالدعوة إلى تجديد الفقه، على هذا الإطلاق، دعوة غير سليمة، لأنهم حينما يريدون التجديد فكان الإسلام فيه قديم وجديد، الإسلام لا قديم فيه ولا جديد، والتجديد بمعنى هدم ما كان بالسابق وبناء شيء جديد هذا يمكن أن يقال في القوانين الوضعية، أما الفقه الإسلامي فلا يقبل ذلك.
* هذا بالنسبة للدعوة لتجديد الفقه، فهل هناك إمكانية لتجديد الفكر الإسلامي؟ وما هي حدود ذلك وضوابطه؟
** إن بنية الفكر الإسلامي تقوم بصفة دائمة على الإصلاح الجذري والتقدم الشامل لكل شؤون الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه أصول ذات صفة دائمة لا تحتاج لتجديد أو تقويم أو تصحيح.
فإن كان الهدف من تجديد الفكر الإسلامي هو التحرر أو الانعتاق من الأصول الدينية والأخلاقية والإنسانية فهذا أمر مرفوض، وإن كان الهدف من تجديد الفكر التحرك في إطار شرع الله ودينه لإصلاح اعوجاج الأمة أو المجتمع أو الدولة أو من أجل تطبيق النظام الأصوب فهذا لا مانع منه شريطة أن يظل التجديد في إطار الأهداف التشريعية العامة فهذا التجديد من أجل التخلص من أمراض التخلف والتمزق والضياع والتشتت ومن أجل إثبات الذات والاعتماد على النفس والثقة بمقدراتنا هو ظاهرة صحية مقبولة. أما التجديد الذي يراد به الهدم والتخريب والخروج من مقاييس الدين أو الشريعة فهو منبوذ، لأنه وإن سمي تجديداً فهو تخريب كتجديد تركيا على يد أتاتورك بهدم الأصول الإسلامية وفرض العلمانية أو اللادينية ومعاداة كل ما هو إسلامي فهذا كفر وردة وخلل في الفكر فهو وإن سمي تجديداً فهو تخريب قطعاً.
* نلاحظ في هذه الأيام تفشي الأنانية بين المسلمين وعدم تفكير المسلم العادي فيما هو مصلحة لمجتمعه وأمته. كيف يمكن غرس هذه الأمور في نفسية المسلم العادي، وما هي حقوق الأمة في على كل مسلم؟
** هناك ثقافة غائبة عن كثير من المسلمين وهي تفريطهم في حقوق أمتهم عليهم، ومن هذه الحقوق، العناية بمصالح الأمة وقضاياها الكبرى، لأن كل فرد مسلم جزء من الأمة، يسرّه ما يسرّها، ويؤلمه ما يؤلمها، ويشاركها في آمالها وآلامها، وتطلعاتها، ويحذرها مما قد تتعرض له من مخاطر ومشكلات، ويجنّبها الانزلاق في المهاوي والعثرات، ويدفع عنها الشر والسوء والويلات، وغير ذلك من أحوال نهضة الأمة وتقدمها صناعياً وتجارياً وزراعياً وفنياً وتقنياً وعلمياً وتربوياً وإعلامياً وحضارياً ومدنياً، وهذا الإحساس الحيوي المشترك هو المعبر عنه بالولاية، أي المناصرة في قوله - تعالى -[والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون، عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك س- يرحمهم الله - إن الله عزيز حكيم].
وحراسة مصالح الأمة بتحقيقها، ودرء الخطر عنها، والحذر من أعدائها والجواسيس حولها: واجب ديني عام، يحقق الخير للجماعة والأفراد على السواء، فمن يقطع صلته بأمته، ولا يلتفت إلى ما ينفعها أو يدفع الضرر عنها، فهو عديم الإحساس، سقيم الوجدان، غير محسوب بحق من أمته. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - مبيناً ما على المسلم في عنقه من حقوق غيره: (من لا يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، ومن لم يصبح ويمس ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه، ولعامة المسلمين فليس منهم).
ولا يكفي المسلم أن يكون موقفه سلبياً فيما يتعلق بمصالح أمته، فلا يلحق بغيره ضرراً أو أذى، ولا يتآمر على قضاياهم، وإنما يجب عليه أن يكون إيجابياً، مسهماً بقدر استطاعته في إصلاح غيره، ونفع أمته، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) أي إن عماد الدين وقوامه النصيحة، وهي إرادة الخير للمنصوح له، والنصيحة لله: تكون بالإيمان بالله - تعالى -، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه - سبحانه وتعالى - من جميع النقائص، والإخلاص في عبادته، والقيام بطاعته وتجنب معصيته.
والنصيحة لكتاب الله: تكون بالإيمان بجميع الكتب السماوية، المنزلة كلها من عند الله - تعالى -، وبأن القرآن الكريم خاتم لها، وشاهد ومهيمن عليها ومصدق لأصولها، وبالعمل بما جاء به من شرائع أو أحكام، وبتلاوته وترتيله وتدبر آياته ومعانيه.
والنصيحة لرسول الله: تكون بتصديق رسالته، والإيمان بجميع ما جاء به من قرآن وسنة، والعمل بها، كما تكون بمحبته وطاعته، ومحبة الرسول محبة لله - تعالى -.
والنصيحة لأئمة المسلمين (الحكام): بإعانتهم على الحق، وإطاعتهم فيه، ودعوتهم برفق وحكمة لتطبيق شرع الله، وإحياء تعاليم القرآن والسنة في المجتمع.
والنصيحة لعامة المسلمين: بإرشادهم لمصالحهم في أمر آخرتهم ودنياهم.
* ما هو الأسلوب الأمثل في التدين والدعوة إلى الإسلام؟
** الأسلوب الأمثل في ذلك هو الوسطية والاعتدال، والوسطية تعني التوسط بين الطرفين، كوسط الدابة والمكان والمرعى والحال المعيشية، وهو ما يعبر عنه لغة بأنه الاقتصاد، أي الوقوف في موقف الوسط والاتزان، فلا جنوح أو شذوذ، ولا ضمور، ولا إفراط ولا تفريط.
والوسطية في العرف الشائع في زمننا تعني الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق، وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة في الدين، ولا تطرف ولا شذوذ في الاعتقاد، ولا تهاون ولا تقصير، ولا استكبار ولا خنوع ولا ذل ولا استسلام ولا خضوع وعبودية لغير الله - تعالى -، ولا تشدد أو إحراج، ولا تساهل أو تفريط في حق من حقوق الله - تعالى -، ولا حقوق الناس، وهو معنى الصلاح والاستقامة.
والوسطية هي مبدأ اليسر ودفع الحرج، أي المشقة الذي هو أحد خصائص التشريع، الأساسية وهي قلة التكاليف، والتدرج في التشريع، والأخذ باليسر وعدم الحرج، ويمكن أن يعبر عن الإسلام بأنه دين السماحة وليس التسامح الصادر من الجانبين، أي إنه الدين المعتدل الذي تتجسد فيه السماحة في ذاته وتعاليمه وأحكامه، فهو الدين الأيسر والأسهل بين الأديان، والأبعد عن الشدة والقسوة.
والوسطية تعني أيضا الاعتراف بالحرية للآخرين ولا سيما الحرية الدينية، والوسطية تعني أيضا الجمع بين الماديات والروحانيات وهي ميزة الإسلام، لأن الإنسان جسد وروح، وله حوائج مادية وروحانية، ولأن العلم الصحيح يكون للدنيا والآخرة. والوسطية تعني كذلك عدم التعمق أو الإغراق في الدين، أو الاسترسال في الروحانيات والتصوف، أو الإقبال الشديد على الدنيا وزخارفها وشهواتها.
إن مقاصد الشريعة وغاياتها الأساسية الكبرى، خمسة هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال، لتحقيق مصلحة الفرد والجماعة والأمة، وإيجاد التوازن والاعتدال الذي به تدوم الأوضاع والأحوال على منهج حسن ووضع مستقر، فالتوسط في الأمور ينسجم مع إمكانات البشر وقدراتهم وعطاءاتهم، وبه ينعم الناس في مظلة الحرية، ومتابعة الفعاليات والإنجازات، فيتحقق الأمن النفسي والاجتماعي والصحي والمعيشي، ويتجنب الناس كل ألوان الخوف والقلق واليأس والإحباط، ومن خلاله تنتعش الأحوال الاقتصادية، ويعم الاستقرار والوئام، ومن ثم ويقبل الأفراد والجماعات على التنمية وزيادة الإنتاج، وتوفير الثروة.
* هل هناك أمل في عودة الأمة الإسلامية إلى سابق نهضتها العلمية؟ وما هي وسائل تحقيق ذلك؟
** بالتأكيد هذا ممكن، ووسائل عودة النهضة العلمية للمسلمين واضحة، تتلخص في: توافر الإخلاص في طلب العلم، والإخلاص منشؤه التدين، ورائده تحقيق مصالح الأمة العليا.
أما العلم الآن فهو نظري بحت، وبعيد عن التطبيق العملي، ويقصد به مجرد الارتزاق والوصول إلى المنصب. والعلم في الشرق الإسلامي مقرون بالتدين الصحيح.
وعلماء اليوم ليسوا على مستوى علماء المسلمين في السابق، والله - تعالى -يقول: واتقوا الله ويعلمكم الله والتقوى اليوم شبه مفقودة لدى الأكثرين.
إن التقدم العلمي أو النهضة العلمية...كل ذلك يحتاج لبرمجة، وسخاء الدولة في إعداد البحوث التطبيقية، وترك الخوف من الأعداء الذين يحرصون على إبقائنا متخلفين وعلى هامش الحياة
* بعض شباب المسلمين يخلط في موضوع الأصول والفروع، ويرى الدين كله أصولاً لا فروع فيه.ما هو الخطأ في ذلك؟
** التمسك بالأصول هو الأصل لكن بإدراك كل الأصول، وبعض الناس يأخذ بأصل واحد وينسى أصلاً آخر فيقع في الحرج، أما قضية الفروع، فصحيح أن بعض الناس يتمسك بكليتها وهذا أيضاً خطأ، ليست كل هذه الفروع يجب العمل بها، ينبغي أن نفرق بين ما هو شريعة وبين ما هو فقه، الشريعة - وهي الثوابت والأحكام الأساسية والأصول التي لا تقبل التغير كما ذكرت لك - هذه يجب قبولها والعمل بها، أما الفروع فمن أراد أن يلتزم بها فيجوز له ذلك، لكن إذا أردنا أن نضع نظاماً عاماً للمجتمع الإسلامي نختار من هذه الفروع ما هو أصلح لهذا الزمان أو لمعالجة قضية معينة وفي أفق محدد، حينئذ نختار ما هو مناسب وما هو أصلح بشرط ألا يخرج عن مقاصد الشريعة ولا عن أصولها ولا عن توجهاتها العامة، فإذن الأصل في الفروع أننا نعمل بها خصوصاً إذا أدركها عالم في العصر الحاضر وأدرك دليلها وصحتها فيأخذ بها، أما غير العالم فعليه أن يعمل بمقتضى ما يوجه إليه العلماء.
* يدعي العلمانيون أن مناهج التعليم الدينية، هي المسئولة عن تخريج أجيال سطحية وأحادية النظرة إلى الحياة وما فيها، وإلى الآخر وإلى العلاقة مع المجتمع بأطيافه وتكويناته. كيف نرد على هؤلاء؟
** إن أسوأ ما خُطط للأمة العربية والإسلامية هو هذا الفصل المقيت والشاذ بين تعليم عام أو عصري أقبل عليه أكثر الناس، وبين تعليم ديني. لقد أقبل أكثر الناس في العالم الإسلامي والعربي على التعليم العام بنسبة تفوق تسعين في المائة أو أكثر وبقي هناك تعليم ضعيف ومقتصر في مبدأ الأمر على التثقيف في الثقافة الدينية المتعلقة بشؤون العبادات والمعاملات ولم يكن هذا التعليم قوي الجذور ولا بعيد الطموحات ولا يتعرض للمشكلات العامة.
إن القضية سحبت من أيديهم، فأصبحوا يعنون فيما يملكون وأصبح التخطيط للآخرين، فحدثت هوّة كبيرة بين جهتي التعليم وكان هذا أكبر خيانة لفكر هذه الأمة، هذا التعليم المزدوج الذي خطط له دعاة الاستعمار مثل رفاعة الطهطاوي في مصر وتابعه طه حسين في تنفيذ هذه المخططات.. فإذاً نحن في التعليم الشرعي نريد أن يكون هناك تنوع أوسع وأكثر، ولكن المشكلات الأساسية هي أن هذه الشهادات لم تكن تعترف بها الدولة لا من قريب ولا من بعيد، فأصيبت بالإحباط وحكم عليها بالتخلف، وكان هناك شبه اتفاق على إبقاء هذا التعليم غير مقبول لأنه لا مستقبل للشهادة ولا أمل في أن يكون دارس هذه العلوم الشرعية له امتداد في قضايا المجتمع وقضايا الأمة.
إذاً هذه الظروف هي التي أدت إلى قوقعة هذا التعليم الشرعي، وثمة سبب آخر أيضاً وهو بعد التخطيط السياسي عن أي شيء يمت إلى الشريعة الإسلامية فكيف يمكن أن يكون هناك تعليم منفتح وأصحاب الاتجاه الآخر هم الذين أخطأوا عندما نقلوا القوانين الغربية والعادات الأجنبية وخدعوا من قبل الآخرين أن هذا هو طريق التقدم والنهوض والتحضّر، فأصبح القائمون على التخطيط الفكري والتعليمي والتربوي في البلاد، لا هم مسلمون بالمعنى الصحيح ولا هم عرب، ولم يعد لهم هوية محددة.. لذلك فالجميع مسئول عن هذا التخلف.
التعليم الشرعي ليس هو المسئول عن تخلف البلاد، بل التعليم العام ورجالاته لأنهم كانوا مجرد تراجمة لفكر الآخرين ولم يقدموا ولو شيئاً بسيطاً وأتحدى أن يكون هناك اختراع لآلة بسيطة عند أغلب هؤلاء العرب بعد أن أنفقت عليهم النفقات الباهظة.
* تثار بين الحين والآخر في أجهزة الإعلام العربية والأجنبية دعوات مطالبة بتجديد الخطاب الديني. ما هو تعليقكم على هذه القضية؟
** نحن في شريعتنا لا نملك تغيير النصوص الشرعية، لأن هذه النصوص موحى بها من رب العالمين وليست نصوصاً أو قوانين وضعية حتى نعدّل ونغير ونلين ونشدد.. هذه النصوص لا تملك قوة في هذا العالم أن تعدلها أو تحرفها.. هذه النصوص أدت إلى ما يسمى بالثوابت والمتغيرات.. فالثوابت لا يمكن لأي إنسان تجاوزها لأنها مقدسة، ولكنّ هناك مجالاً وهو «المتغيرات» نستطيع فيه الاجتهاد وقد فعلنا، وكتبنا مليئة ومؤلفاتنا في كل المجالات تحدثت عن التطلعات التي يريدها الناس منها، فهذا المجال القابل للتغيير والمبني على مراعاة مصالح المجتمع ومصالح الأمة أغنيناه ضمن هذا الجانب وهو فئة المتغيرات.
تجديد الخطاب الديني هو نغمة غربية واستشراقية يراد بها العصف بأصول هذه الشريعة والقضاء عليها.. لأننا إذا مسَسَنا هذه الخطابات فهذا معناه أننا ألغينا نسيج هذه الشريعة.
إذاً، الخطاب أصلي لا نملك تغييره لأنه خطاب الوحي الإلهي، أما ما يتعلق بالاجتهادات فيراعى فيها مصالح الأمة، نحن دائماً نتحدث ونقول هذا يتفق مع تطلعات الأمة ونهضتها وظروفها وقفزاتها الحضارية التي نجدها بسبب ما قذفته الحياة المعاصرة من مشكلات قضايا، سواء في قضايا الجو والبر والبحر، هذه القضايا المختلفة لابد من أن يكون لنا وقفة أمامها والحمد لله كتب أساتذة الجامعات في العالمين العربي والإسلامي مليئة بمعالجة هذه القضايا.. لكن قلت لك مشكلتنا أن الدولة تسير في اتجاه والفكر الإسلامي يسير في اتجاه آخر. فإذا فتحنا صيدلية مثلا وأنجزنا اختراعات أدوية معينة ولكن لم يشتر أحد منها، فماذا تكون النتيجة.. لاشك هي الإخفاق والخسارة والحكم على هذه الصيدلية بضرورة الإغلاق.. نحن لم نغلق الباب وما زلنا نعطي ونقدم لكن الحياة تسير على غير منهاج الإسلام.. تسير على منهاج مخططات وأفكار وقوانين وأنظمة مستوردة من الغرب والشرق هي التي أدت إلى أن تضيع هوية هذه الأمة فلم تعد تعرف الطريق إلى التقدم.. جربت هذه القوانين ربما بنية حسنة، لتتقدم فلم تفعل شيئاً، وتركت الإسلام جانباً فجاء بعض الناس واتهموا الإسلام بأنه سبب التخلف ولكن في واقع الأمر أين هو هذا الإسلام الذي هو سبب التخلف هل له رصيد أو وجود أو تفاعل مع الساحة العامة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. أم أنه نُحّي عن كل تلك الأوساط والمجالات لذلك لا غرابة أن يكون هناك ضرورة كما قال العلامة الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري، أن الاستعمار أفل وآن للضيف أن يذهب ويذهب ما معه، ونعود لشريعتنا وأصولنا ومنطلقاتنا وهذا لم يتم على مدى الخمسين سنة في القرن الماضي.
* أصبح مصطلح \"الجهاد\" يواجه بالتشنيع والهجوم من أعداء الإسلام في الداخل والخارج ولا يمر يوم إلا وهناك حملة عالمية أو محلية ضده. ما هي أسباب ذلك؟
** الجهاد يفهم فهماً خاطئاً عند كثير من الناس، مثلاً أن الجهاد أداة تأديب للآخرين ويصورون أن هذا التأديب ينقضٌّ على الأمم الأخرى غير الإسلامية فيفرض عليها الإسلام فرضاً.. وهذا أكبر خطأ في فهم الجهاد. الجهاد أداة ردع لأولئك الذين يعتدون على قيمنا وبلادنا وديارنا، والجهاد أداة الحفاظ على عزتنا وكرامتنا والدليل واضح: لماذا تقوم الأساطيل الحربية وقوى العدوان الخارجي من الغرب وتحتل البلاد وتستعبد العباد ويفرضون كل ألوان الذل والمهانة بالنسبة للعرب وفي أفغانستان، ويمارسون عليهم أبشع ألوان الذل والمهانة والتعذيب والإساءة، هؤلاء مجاهدون.. أم مستعمرون.. ؟ الجهاد يختلف عن الاستعمار.. الجهاد أداة ردع ضد المعتدي وشرف لنا أن نقاوم المعتدين فالجهاد يرادف ما يسمى اليوم حق المقاومة، وهو حق مشروع أقرته الشرائع السماوية، والدفاع عن الوجود والبلاد والأخلاق والقيم هو أيضاً مشروع في ميثاق الأمم المتحدة وكل الشرائع الدولية.. هذه قضية الجهاد.. الجهاد إذاً ليس لفرض الإسلام بالسيف كما يدعي بعضهم. المنصفون من الغربيين يعترفون بذلك، وأريد أن أصلك بكتاب ألفه أحد المستشرقين أثبت أنه لم تقع حادثة في التاريخ الإسلامي تقول إن المسلمين أكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، ما يدل على أن الجهاد ليس أداة لفرض الإسلام بالقوة وإنما وسيلة للحفاظ على الوجود..
حينما تركنا الجهاد أصبحنا كما قال سيدنا علي - رضي الله عنه -: ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، وما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا،.. عندما تخلينا عن تنظيم الجيوش للدفاع عن الأوطان تنظيماً على المستوى اللائق أصبحنا نعاني المهانة ونستجدي الحلول من الآخرين ولن نصل إلى الحل الذي يتفق مع الحفاظ على كرامتنا وحقوقنا.. سُلبت منا الأندلس سابقاً بسبب تفرق المسلمين وتركهم الجهاد، وسُلبت فلسطين بتعاون قوى الغرب والشر وتُسلب الآن أفغانستان والعراق.. وهكذا تدور الدائرة علينا ونخسر بلداننا الواحد تلو الآخر وكلهم لا يجاهدون وإذا قامت فئة تقاوم العدوان اتهمتا بما سمّوه وروجوا له في إعلامهم بـ (الإرهاب).. لا أجد فكراً منحطاً مثل هذا الفكر.. الذين يدافعون عن بلادهم ونسائهم وديارهم وأوطانهم عندما يوصفون بأنهم إرهابيون ماذا ننتظر منهم؟ أن يستقبلوا المعتدي بالأحضان حتى يقال عنهم إنهم مسالمون.. هم الإرهابيون ونحن المجاهدون ولا يزال الجهاد شرفاً لنا وللإسلام ولذلك هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة والنبوية تدعو إلى الجهاد بمعنى ردّ العدوان وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
الإسلام دين سلام ومحبة ينشر دعوته بالحسنى والموعظة الحسنة لا بالإرهاب ولا بالإكراه ولا بالاضطهاد، وهو ليس هو كالاستعمار من أجل اصطياد ما لدى الآخرين من ثروات ومصادرتها وأخذها.. كل هذا لا يعرفه الإسلام، فقارن لي بين الجهاد المشرّف للحفاظ على حقوقنا وبلادنا وبين ما تفعله قوى الشر في الوقت الحاضر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد