بسم الله الرحمن الرحيم
تستعد الأمهات والآباء للعام الدراسي الجديد بالتقديم لأبنائهم وبناتهم في المدارس وشراء الزي المدرسي والدفاتر والأقلام وحجز أماكن بالحافلة التي ستقلّ أطفالهم من وإلى المدرسة، وبتدبير نقود الدروس الخاصة التي أصبحت لا غنى عنها الآن في أغلب بلادنا العربية، و..و..
وعلى الجانب الآخر يتأهب الطلاب لاستقبال المعلم أو المعلمة الجديدة، وعلى طريقتهم يبدأ بعضهم في طرح بعض الأسئلة أو الاستفسارات أو حتى الألغاز المشهورة ليكتشفوا مدى قدرة معلمهم، وعلى طريقة مدرسة المشاغبين تحاول مجموعة أخرى تحديد شخصية هذا المعلم وقياس قدرته على التحمل وضبط الأعصاب.
وبانتهاء الحصة الأولى يكتسب هذا المعلم احترام طلابه أو يفقده إلى الأبد، وتبقى دائمًا ذكريات المعلمين مع الحصة الأولى من أهم خبرات المعلم، وأول مؤشر يرصد تغير القيم والأخلاق.
تصفح مذكرات 30 عاماً
قلّبنا في مذكرات عدد من المعلمين والمعلمات منذ أكثر من ثلاثين عامًا، واكتشفنا الكثير.
أولى المذكرات تعود لعام 1965 في إحدى قرى الريف في مصر، بطلها الأستاذ عبد الخالق عبد الحليم مدرس اللغة العربية الذي يدخل عالم التدريس لأول مرة، ويحذره المعلم الأقدم من طلاب الصف الثالث المتوسط لأن فيهم بعض المشاغبين، ويتأهب الأستاذ عبد الخالق لمقابلة هؤلاء الطلاب، ويبدأ الحصة الأولى متوقعًا الكثير لكن الأمور تسير على ما يرام، حتى بدأ يكتب بعض الجمل على السبورة، فإذا بأحد الطلاب يصدر صوتًا يشبه مواء القطة، ها قد بدأ الاستفزاز، ويتظاهر الأستاذ بأنه لم يسمع شيئًا، لكنه أيقن أن من فعل ذلك لا بد أنه سيكرره مرة أخرى حتى يجد رد فعل منه، ويكتب جملة أخرى ويحاول التركيز ليعرف مصدر الصوت وظهره للطلاب، استطاع الأستاذ أن يحدد جهة الصوت في البداية، ثم كرر الطالب فعلته وهنا استطاع الأستاذ أن يحدد الطالب الذي يصدر هذه الأصوات بالضبط.
ولم يفعل الأستاذ شيئًا وأخذ يسأل الطلاب ويناقشهم حتى جاء الدور على هذا الطالب، فطلب منه أن يحضر إلى السبورة ليكتب بعض الجمل ثم اقترب منه وسأله سؤالاً فلم يعرف إجابته، فلم يكن من الأستاذ الذي لم يعاقب أيا مما سبقوه وفشلوا في الإجابة، إلا أن قام بصفعه أمام الجميع عقابا على ما صدر منه، ورغم ما شعر به الأستاذ من ريبة مما فعله، إلا أنه تماسك أمام الطالب وحدثه بحزم وصمم على اصطحابه لمدير المدرسة ليفعل به ما يشاء ويستدعي ولي أمره، وهنا توسل الطالب إلى الأستاذ بأن يفعل به ما يشاء إلا أن يذهب به لمدير المدرسة، فعفا عنه الأستاذ وسارت الأمور على ما يرام في الفصل بعد ذلك، ولولا هذا الموقف لتحول الفصل إلى حديقة حيوانات في الحصة التالية.
هل نقول للضرب: نعم؟
وهنا يعلق الأستاذ عبد الخالق: مدير المدرسة في هذا الوقت لم يكن يخشى شيئًا كما يحدث الآن، وكان هذا يحمي المعلم ويسانده، أما الآن فالطلاب يعلمون أن الضرب ممنوع في المدارس، وأولياء الأمور الذين كانوا يقبلون في الماضي أن يُستخدم الضرب كعقاب للمشاغبين والمقصرين من أولادهم، أصبحوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا مس المعلم الطالب بأي مسطرة على يديه، ومدير المدرسة يخشى بطش المسئولين ومشاكل أولياء الأمور وردود أفعال الأقوياء والأغنياء وأصحاب النفوذ منهم، والكثير من المعلمين أصبحوا لا يجهدون أنفسهم بتقويم الطلاب أو عقابهم لأنهم يئسوا من أن تقف إدارة المدرسة بجانبهم، ويئسوا أيضًا من تغير الأحوال، ولهذا نجد أن بعض المعلمين الآن قد يتبادلون السجائر مع طلابهم في المرحلة الثانوية مثلاً!!، وقد يتبادلون الطرف أو النكت النابية بعد أن ضاعت المسافة بين الطالب والمعلم، خاصة بعد انتشار ظاهرة الدروس الخاصة، واعتماد المعلمين في دخلهم على الطلاب، فالطالب هنا هو المتحكم في اختيار المعلم الذي سينعم عليه بشرف التدريس له في بيته.
ويفسر الأستاذ عبد الخالق أحد أسباب انهيار الأخلاق في مدارسنا باستيراد النظم التربوية التي لا تتفق مع أحوالنا البيئية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فالضرب غير المبرّح وسيلة معترف بها دينيًا في التربية، فلماذا يُمنع الضرب نهائيًا في نظمنا التعليمية؟!، ونحن هنا لا ندعو إلى الضرب لمجرد الضرب، ولكنه يكون ضرورة أحيانا، المهم أن سلب المدرس لحقه في عقاب الطالب، تعدّى الضرب إلى عدم كتابة الطالب في الغياب أو طرده خارج الفصل.
الكلمة كانت أنجح مع الفتياتك
ونقلب مع الأستاذة مديحة محمود مذكراتها، والتاريخ يعود لعام 1967 عندما عينت لتدريس مادة الجغرافيا لفصل 3/4، وهو لفتيات في نهاية المرحلة المتوسطة، وقالت لها زميلتها: إن هذا الفصل به أسوأ فتيات المدرسة وعليك أن تنتبهي، ودخلت إلى الحصة بكل ثقة، لكنها فوجئت بإحدى الطالبات تضرب زميلتها مختلقة شجارا لتعم الفوضى في الفصل، فطلبت من هذه الطالبة الوقوف، وأخذت توبخها بكلمات قاسية، وشبهتها بالحيوان الذي يتشاجر مع حيوان آخر، وأن مكانها ليس المدرسة... وهكذا، إلى أن انفجرت الفتاة بالبكاء، وأصبحت باقي الفتيات يتجنبن فعل أي خطأ تحاشيًا للسان الأستاذة مديحة التي لم تعرف هي نفسها كيف تحدثت بهذه الكلمات التي لم تعتد على قولها من قبل، لكن ذهنها قد تفتّق وقتها عن رد الفعل هذا لتدارك الموقف، وأصبحت الأستاذة مديحة تشجع الممتازات أيضًا بالكثير من كلمات المدح، وبذلك استخدمت (الكلمات) كسلاح ذي حدين، دون أن تضطر لاستخدام العصا أو الضرب.
وما زالت الأستاذة مديحة تستخدم نفس وسيلتها الآن (الكلمات) بعد أن مُنع الضرب في المدارس وساءت سلوكيات الفتيات، وطالت ألسنتهن، وتنوعت أشكال الزي المدرسي الذي يرتدينه وهو بعيد عن أن يكون زيًا مدرسيًا، والغريب في رأيها- أن أولياء الأمور يسمحون لفتياتهم بارتداء الملابس الضيقة والمثيرة دون أية مشاكل، والمدرسة بمفردها لا تستطيع تغيير كل شيء، فخارج المدرسة تستطيع الفتيات أن يتشاجرن في الشارع مثلهن مثل البنين دون حياء أو خجل، فالمسألة ليست في السيطرة على فصل دراسي أو إلقاء مادة علمية، المعلم الآن معذور!!.
الدفتر الإيطالي هو السر!
ونقرأ في مذكرات تعود لعام 1974 لمعلم شاب وقتها- لمادة التاريخ، شاء حظه أن يبدأ حياته العملية في مدرسة صناعية ثانوية، والمعروف أن هذا النوع من المدارس عادة ما يكون تجمعًا للطلاب المشاغبين، كان الأستاذ أحمد عبد الجليل يتوقع كل أنواع المشاكسات والمعاكسات والاستفزازاتº وأخذ يضع سيناريوهات المواجهة في خياله استعداداً لمعركة الحصة الأولى التي ستحدد ملامح العام الدراسي كله، لكنه فوجئ بانضباط لا مثيل له من هؤلاء الطلاب، فقد ظلوا واقفين أمام باب الفصل في طابور منظم حتى وصوله، وجلسوا في أماكنهم بهدوء ولم يحدث أي شيء بالحصة، واكتشف السر في نهاية الحصة، فقد كان مطلوبًا منه أن يكتب في دفتر كبير موجود على المنصة التي يقف عليها المعلم، علامة غياب أمام اسم الطالب غير الموجود، وعلامة أخرى عن سلوكه في الفصل أثناء الحصة، وقبل نهاية كل حصة يمر أحد المشرفين لينقل بعض المعلومات من الدفتر ويخرج من الفصل دون أن يعطل سير الحصة، حتى لا يعبث أحد في أي شيء بالدفتر، ويسلم الدفتر في نهاية كل يوم دراسي، وعرف الأستاذ أحمد أن هذه المدرسة يشرف عليها بعض الإيطاليين وأن لهم نظامًا صارمًا، وأن هناك مادة دراسية مادة رسوب ونجاح وليست مادة شكلية- تسمى مادة السلوك، تُعطى درجاتها من خلال ذلك الدفتر اليومي، وإذا لم يحصل فيها الطالب على الحد الأدنى المسموح به في هذه المادة، تكون النتيجة رسوبه النهائي حتى لو حصل على الدرجات النهائية في بقية المواد العلمية أو العملية، وقد كان لهذه المدرسة سمعة كبيرة بالمصانع والشركات التي تطلب خريجي هذه المدارس فور تخرجهم.
ويعلق الأستاذ أحمد: الآن لا يمكن أن تسير الحصة الأولى عندي على هذا الشكل المثالي، ففي ظل انحدار الأخلاق وقلة حيلة المعلمين، أضطر لأن تصبح الحصة الأولى محاضرة في الأخلاق وجلسة نفسية، أحاول فيها أن أجعل الطلاب يتسامون بأخلاقهم، وأن أشعرهم بآدميتهم.
مشاكسات تحولت للانتقام
وفي مذكرات الأستاذة ليلى مدرسة الرياضيات عام 1978 الكثير من استفزازات ومشاكسات الطالبات التي مرت بها هي وزملاؤها وما زالت حتى الآن، فالطلاب قد يسمون المعلمين بأسماء غير أسمائهم، وبمرور الوقت يسمع المعلم كنيته عند مروره بجانب الفصل ويعرف أنه المقصود، هذا غير الشتائم التي يدخل الفصل ويجدها مكتوبة على السبورة، أو أصوات الحيوانات التي يصدرونها أثناء الحصة، وإذا كانت شخصية المعلم ضعيفة فقد يفتح الطالب باب الفصل ويخرج ليقضي أي شيء ويعود وقتما يريد دون أن يستأذن، والبعض يقفز من النافذة إذا كانوا في الطابق الأول، أو يرمون الكتب لزملائهم...، ونرى ذلك كثيرًا بعد أن يئس الكثير من المعلمين في انصلاح الأحوال، والكثير من المعلمين أصيبوا بأمراض السكر وضغط الدم بسبب ما يعانونه من الطلاب الذين قد يعتقدون أن ما يفعلونه لا يؤثر في نفسية بعض المعلمين ممن ليست لهم القدرة على أداء رد الفعل المناسب لكل ما يفعله الطلاب.
وتضيف: لم يكن يحدث في الماضي أن ينتقم الطلاب من معلم بحرق سيارته، أو ضربه أو سبه، كان أكثر ما يمكن أن يفعلوه هو النوم أثناء الحصة أو مواجهة المعلم بأسئلة غريبة أو محرجة ولا تمت لما يقوم بتدريسه بصلة، أو تقليد طريقته في الكلام إذا كان يعاني من عيوب في النطق.. ليس أكثر!.
يشعرون بأنها كذبة كبيرة
آخر مذكراتنا والتي يعود تاريخها إلى عام 1988 كانت مع الأستاذ نادي مدرس العلوم، والذي ينصح أي معلم بأن يتعامل مع الطلاب في أول أسبوع على أنهم شريحة واحدة ونوعية واحدة ومع أنهم ليسوا كذلك- لكن يجب أن يعاملهم كلهم بحزم وبشدة، حتى يعرف قصة كل واحد وكيف يعامله؟ فالبعض تجدي معه الكلمة الطيبة، والآخر الهجاء والذم، والثالث الصداقة، والرابع في حاجة للعطف والتشجيع، وهكذا، خاصة أن الطلاب الآن يعتقدون أنهم يعرفون أكثر مما يعرف المعلم، فهم يستخدمون الكمبيوتر والإنترنت وهو ربما لا يعرف، ولديهم عالم لا يعرف عنه المعلمون القدامى شيئًا، وهم يشعرون أنهم يستطيعون الحصول على المعلومات بطرق أخرى كالدروس الخاصة أو قناة التعليم التليفزيونية أو غير ذلك، وزاد الأمر سوءًا أن الكثير من الطلاب أيضًا لا يقتنعون بالمناهج الدراسية التي يدرسونها ولا بطريقة التدريس ويدركون جيدًا أنها لن تصلح لعصر المعلومات الذي يعيشون فيه وأنهم يعيشون كذبة كبيرة، أفاق منها من يكبرونهم واكتشفوا أن شهادتهم التي حصلوا عليها بعد سهر الليالي ليست كافية للحصول على فرصة عمل محترمة، بعد أن أصبح التدريب على أي شيء الآن هو الأهم، بداية من التدرب على الكمبيوتر وانتهاء بالتدرب على قيادة السيارات وهذا كله لا يدرسه الطلاب في المدارس.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد