العطلة الصيفية.. رؤية شرعية


بسم الله الرحمن الرحيم  

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه و سلم -، أما بعد:

فالعطلة الصيفية واقع في حياتنا كمسلمين لا يمكن تجاهله، ومنهج الإسلام صبغة ينبغي أن تصبغ كل جزئيات واقعنا وحياتنا، فهل صيفنا يحكي إسلامنا؟ أم أنه يحكي غربتنا عن ديننا؟!

هل القضية في سعة أوقات الصيف والفراغ، أم في تعاملنا مع هذا الفراغ؟

نعم قد تملّ النفس وتسأم وتحتاج إلى شيء من الترويح، لكن هل هو ذلك الترويح الذي ذهبنا إليه؟

أسئلة تفرض نفسها عند تناول قضية الفراغ وخاصة وقت الصيف والعطلات، ولبيان ذلك نقول:

 

أولاً: أسباب التفريط في العطلة الصيفية

1 غياب الوعي:

داؤنا في غياب الوعي يمثل الخطر الأعظم في تصوراتنا ومسالكنا تجاه أوقات فراغنا وخاصة وقت الصيف، وربما لا يشغل بال الكثير منا التفكير في مواد مناسبة لشغل تلك الأوقات، وقد لا تخطر لنا القضية على بالٍ, أصلاً.

لقد غاب عن وعينا أن الوقت في ذاته نعمة، والفراغ في أصله منّة من الله - تعالى - على العبد، فكم من مشغول يتمنى أن لو كان مكفيًا، قال - صلى الله عليه و سلم -: "نعمتان مغبون فيهما الكثير من الناس: الصحة والفراغ". {البخاري 6412}.

والمغبون من غلب عليه كسله واسترسل مع نفسه الأمارة بالسوء فخلد إلى الراحة وترك الطاعة، فأضاع نعمة الله من بين يديه، وأقام حجة الله - تعالى - عليه، فذهب ربحه، وكثير ما هم.

والمغتبط من استعمل فراغه في طاعة الله، فكان وقته مطية إلى مرضات ربه ورضوانه، وقليل من عبادي الشكور.

فالكثير مغبونº يضيع من رأس ماله فراغه، فهل يبغي ربحًا من أضاع رأس ماله؟ إنه ما بالربح فاز، ولا على رأس المال حافظ، بل وقلب مطية الخير عائقًا يحول دون بلوغه ذلك الخير، وصَيّر أداة المنفعة معول هدم يُضاف إلى غيره من المعاول من حيث لا يشعر.

 

2 الفراغ الإيماني:

إن مكمن الداء ليس في وجود الفراغ أو سعة الوقت، وإنما في فراغ النفس والروح عن الرصيد الإيماني فضلاً عن الأهداف الجادة.

فترى الغوغائية التي لا تحكمها ضوابط وتفتقد إلى الهدف حينما يتوفر لهذا الإنسان الفارغ مزيدٌ من الوقت.

قال الحافظ ابن حجر: قال القاضي أبو بكر بن العربي (رحمهما الله): اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة (الوقت)، والأول أَولى (الإيمان)، فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة (الوقت) نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذ يُغبن فيها كثير من الناس. اه "فتح الباري" (11286).

فلا يمكن أن تستثمر نعمة في الدنيا إلا إذا صاحبت نعمة الإيمان، وحين تلتقي نعمة من نعم الدنيا مع نعمة الإيمان لقاءً حقيقيًا لا شعارًا يذوق القلب حلاوة المنة من الله، وتتمتع الجوارح بنعمة الله، وعند فراغ النفس من الإيمان يُساء استعمال نعم الله فتصرف في غير مرضات المنعم - سبحانه - فتحدث المشاكل وتكون القضية.

 

3 التقليد والعادة:

التسليم للواقع دون مجرد التفكير فيه يجعلنا ندور حيث يدور الناس ولا ندري.

قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا ". {رواه الترمذي مرفوعًا وصحح الألباني وقفه على ابن مسعود في المشكاة}.

لقد صارت العادة دين الكثير من الناس، ووزنت الأعمال عندهم بميزان العادة لا بغيره ولو كان الشرع، وانخدعنا بكثرة زائفة عصت ربها واتبعت أهواءها، قال - تعالى -: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وقال - سبحانه -: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، فلا أسوة لنا في الشر أو الضلال، ولا انبهار عندنا بواقع صارت السعادة فيه وهمًا عريضًا كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.

 

ثانيًا: صيفنا يحكي غربتنا

يأتي وقت الصيف وكأنه قد آن للكادحين أن يرتاحوا من عناء العمل، فتُشدٌّ الرحال إلى المصايف ودور اللهو، ومن آثر الراحة في بيته أجهد قلبه في القنوات والفضائيات التي تنطلق في الصيف انطلاق الشيطان بعد رمضان، فأين هي تلك الراحة؟ فمن عناء السعي على الكسب ومتابعة الأولاد في دراستهم والمذاكرة والامتحانات وانشغال القلب بالرزق والشهادات، إلى عناء القلب من معصية الله في موسم الصيف.

مسكين ذلك الإنسان، تصرخ الروح فيه ولا يدري ممّ تصرخ؟ يريد أن يُسكت الصوت داخله فيزين له الشيطان أودية الحرام بدعوى الحاجة إلى الترويح واللهو لينتقل ذلك المغبون من مشغلة الدنيا إلى مشغلة المعاصي على شواطئ البحار ودور اللهو والأندية والنواصي وفي الطرقات وأمام الفضائيات.

فإلى متى يبقى هذا القلب عن الله مُشرّدًا؟

ومن أين تأتيه الراحة أو يعرف السرور وهو منهك في كل وادٍ, إلا في طاعة الله، ومشغول بكل شيء إلا بالإقبال على الله؟

إن الترويح والترفيه يعني إدخال السرور على النفس وتجديد نشاطها والتنفيس عنها دفعًا للسآمة والملل.

فأين هذه النفوس الناصبة الذاكرة الجادة حتى تبتغي الترويح فيما هو مباح لتجدد من نشاطها في الإقبال على ربها؟ وعند أنفسنا من الغفلة ما يكفينا.

وإلا، فأين تلك الوسائل التي تُسعد هذه النفوس التي تعلقت بالله ربها؟!

وصدق فينا قول القائل: "وداوني بالتي كانت هي الداء".

 

ثالثًا: فقه الترويح في الإسلام

لسنا نحرم ما أحلّ الله لأن ذلك قرين الشرك، قال - تعالى -: اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون {الأعراف: 170}، وقال - سبحانه وتعالى -: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو - سبحانه - عما يشركون، قال حذيفة وابن عباس: إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. {تفسير ابن كثير للآية}. وشريعة الإسلام جاءت بالتكامل والتوازن، فهو دين يعامل الناس على أنهم بشر لهم حظوظهم النفسية فلم يفترض فيهم أن يكون كل كلامهم ذكرًا، وكل شرودهم فكرًا، وكل تأملاتهم عبرًا، وكل فراغهم عبادة، وإنما وسّع للفطرة البشرية في تلبية حاجاتها من الأفراح والأتراح، والسآمة والمزاح، واللهو والمرح، كل هذا في حدود الشرع.

ورسول الله - صلى الله عليه و سلم - الأسوة والقدوة، كان مع جِديَّة الرسالة هاشًا باشًا بسامًا، يقول سماك بن حرب: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول اللَّه - صلى الله عليه و سلم -، قال: نعم، كان طويل الصمت، وكان أصحابه يناشدون الشعر عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ويضحكون فيبتسم معهم إذا ضحكوا. {مسلم 760}.

وكذلك كان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه و سلم - يلهون ويمرحون من غير أن يشغلهم هذا عن الواجبات أو أن يكون لهوهم هذا في مواطن الجِدّ.

عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: "إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو المباح ليكون أقوى لها على الحق". {الذهبي في السير: 5421}.

هكذا كان الترويح في حياة سلفنا الصالح، لم يكن وجوده وسط ركام الجد والعمل إلا ضربًا من ضروب العون وشحذ الهمم على تحمل أعباء الحق والصبر على تكاليفه، مع شعورهم بأن ما للجد أولى بالتقديم مما للهو والترويح، ألم يشتكِ حنظلة بن عامر شيئًا من الغفلة في اللهو المباح حيث ملاطفة الأهل وملاعبة الأولاد، والتي كانت تتخلل بعض أوقات ذكره، فقال له النبي - صلى الله عليه و سلم -: "ولكن ساعة وساعة". {مسلم 2750}.

ليُعَلِّم النبي - صلى الله عليه و سلم - ويبين للأمة من بعده أن في الإسلام ترويحًا وترفيهًا له طبيعته المشروعة حيث يتعدى المباح، ومن وراء هذا الترويح هدف مقصود هو دفع الملل، واستعادة نشاط النفس على العمل، حينئذ يُقَرِّب الترويح المصالح ولا يباعدها، ويستعان به بعد الله على مرضاته لا سخطه.

يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: (ولقد رأيت الإنسان قد حُمّل من التكاليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حُمّل مداراة النفس وتكليفها الصبر عما تحب وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس).

أمّا أن يصبح الترويح عن النفس وخاصة وقت الصيف هو جلّ اهتمامات المجتمع فذلك خروج بالترويح عن طبيعته ومقصده، واتجاه بالحياة إلى العبث، هذا في اللهو المباح، فما بالك باللهو الحرام الذي تُتَعدى فيه حدود الله بزعم حسن النية وسلامة الطوية، والحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، والدين ما شرع الله.

ورحم الله أحد سلفنا الصالح وهو يصف الباغين في اللهو دون رسم للحق أو رعاية للحدود، يقول: قد استخفوا عقولهم وأديانهم فلم يكن لهم قصد نافعٍ, ولا تأديب نافذ، فلبسوا المرقعات واتخذوا المتنزهات، ويظنون بأنفسهم خيرًا، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، والله - تعالى - يبغض الشباب الفارغ، ولم يحملهم على ذلك إلا الشباب والفراغ. اه {بتصرف من الإحياء 2250}.

يحكي هذا في زمانه، فكيف بزماننا؟! نسأل الله - تعالى - العافية والسلامة.

ومن هنا ندرك الهوة بين مفهوم الإسلام للترويح وبين لهونا في صيفنا وعطلتنا، حتى بتنا نعيش الغربة والفتنة في آن واحد، غربتنا عن ديننا وغفلتنا عما أصابنا حتى سقطنا في مواطن الفتن من حيث لا نشعر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

هلموا إلى صيف جديد

هلموا إلى صيف جديد يذوق القلب فيه طعم الراحة من عناء البعد والانشغال عن الله، ويجتمع فيه شتات النفس المنهمكة في أودية الدنيا، من جمع المال وتحصيل الشهادات، ونيل المراتب والدرجات، وتنعم فيه النفس بسعادة طالما بحثت عنها في كل سبيل إلا في الطريق إلى الله.

نريد صيفًا يُجَسد حرص المسلمين على مرضات ربهم والإقبال عليه، صيف يحكي أننا وإن غفلنا فابتعدنا عن الله في زحمة الدنيا ومشاغلها إلا أننا نجد الفراغ فرصة وأملاً في العودة إلى الله.

نريد صيفًا يجدد نشاط القلب الذي مَلَّ التعلق بالدنيا الفانية، وسئم النصب من أجلها، ليستعيد هذا القلب حياته من جديد.

نريد صيفًا الفراغ فيه مطية إلى مرضات الله، وتداركًا لما غفلنا عنه أو فرطنا فيه من حق الله.

فلِمَ لا تصنف البرامج لتعبئة الأمة إلى الله في موسم الصيف والعطلات؟

فيرتبط المسلم بكتاب الله - عز وجل - تلاوة وحفظًا، ليُعرف وقت الصيف من كل عام أنه موسم أصحاب القرآن الذين يجدّون وينشطون في تعلمه وتعليمه، قال - صلى الله عليه و سلم -: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". {صحيح أبي داود 1464}.

فلم لا يشهد هذا الصيف شرف انضمامك إلى أصحاب القرآن الذين لا يفارقونه لتنال تلك المنزلة؟.

وفي الصيف يتعلم المسلم دينه في بيوت الله يستمع كلام الله ورسوله في صحبة الملائكة، تغشاه رحمة الله، وتتنزل عليه السكينة من عند الله، وينال شرف ذكر الله له باسمه في الملأ الأعلى. قال - صلى الله عليه و سلم -: "...وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". {مسلم 2699}.

وفي الصيف يتذاكر طلاب العلم دروس العلم ويواصلون ويجدّون في مدارسته وتعليمه، يقربون علوم الشرع للناس، قال - صلى الله عليه و سلم -: "من تعلم العلم ثم لا يُحدّث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه". {صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 122}.

وفي الصيف تزداد همة المسلم في الدعوة إلى الله وتبليغ دين الله، قال - تعالى -: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين. {فصلت}

وفي الصيف تتعلق القلوب بالمساجد، فلا ترى أَروَح لها من المكث في بيت الله، فتفر من حر الصيف إلى بيت الله لتنعم بظل الله يوم تدنو الشمس من رؤوس العباد ولا ظل إلا ظل الله - عز وجل -.

قال - صلى الله عليه و سلم -: "سبعة يظلهم الله - تعالى - في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: "ورجل قلبه معلق في المساجد". {البخاري 1423}.

وفي الصيف تُشَدّ الرحال إلى بيت الله الحرام، في رحلة مباركة إلى البقاع الطاهرة لأداء مناسك العمرة، فإن عزّ علينا المال، فكم من الأموال تُدَّخر لتنفق في أمور الدنيا وحاجاتها التي لا تنتهي، بل من الناس من يدَّخرون من رواتبهم طول العام لينفقوا ما ادخروه على شواطئ المصايف التي لا ترضي الله - عز وجل -.

فادَّخر ما استطعت والله - عز وجل - منه البركة وحده، ينفي فقرك، ويسد حاجتك، ويكفيك وعيالك. قال - صلى الله عليه و سلم -: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خَبث الحديد" {صحيح سنن النسائي للألباني: 2630}، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينها". {مسلم 1349}.

والحمد لله رب العالمين

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply