بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
في كل عام في مثل هذه الأيام حينما تشتد حرارة الصيف اللاهبة والتي ما هي إلا نفس من أنفاس جهنم نسأل الله السلامة منها.
وعندما يلقي الصيف بسمومه يفر الناس إلى الشواطئ والمنتزهات عازمين السفر والتجوال حازمين الحقائب فراراً من حرارة الأجواء، ويترجم ذلك التهافت على مكاتب الحجوزات للسفر في شتى القارات.
لسنا ضد مبدأ السفر، فالأصل فيه الإباحة، وربما يكون مستحباً، أو واجباً إذا غلبت فائدته وقد قال الإمام الشافعي - رحمه الله- :
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفـريج هم واكتساب معيشــــــة وعلـم وآداب وصحبــــــــــــة مـاجـد
فبالسفر يُطلب العلم، وفي السفر يُحجٌّ بيتُ اللهِ الحرام، وفي السفر صلةُ الأرحامِ، وفي السفر الجهادٌ في سبيلِ الله، وفي السفر العظةُ والاعتبارُ، وفي السفر كسب الرزق، وفي السفر ترويح مباح.
كما أنّنا لا نعترض على النزهة والترويح المباح فإننا بحاجةٍ, إلى الراحة بعد الكد والتعب، وبحاجة إلى الهدوء بعد الضجيج، وبحاجة إلى الإجازة بعد العمل، ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
إنّ الإسلام يقر ذلك، وهو دين الفطرة. وقد جاء حنظلة بن عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه الغفلة عن الطاعة أثناء ملاعبة الأطفال ومعاشرة النساء:
( قُلتُ: نَافَقَ حَنظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِº فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: وَمَا ذَاكَ؟ قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِندَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأيُ عَينٍ,، فَإِذَا خَرَجنَا مِن عِندِكَ عَافَسنَا الأَزوَاجَ وَالأَولَادَ وَالضَّيعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن لَو تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِندِي وَفِي الذِّكرِ لَصَافَحَتكُم المَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُم وَفِي طُرُقِكُم وَلَكِن يَا حَنظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ).رواه البخاري رقم ( 4937)
لسنا ضد السفر والترويح، ولكننا ضد المعصية والانحلال، وما يمارس في بعض هذه الأسفار مما يستوجب التحذير والبيان، ولذا فسنقف عدة وقفات ونحن نستعد للإجازة الصيفية:
الوقفة الأولى:
إنّ مهمة الإنسان في الحياة، وسر وجوده ووسام عزه ومجده، بل وشرفه وسعادته عبوديته لله تعالى (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالأِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ) الذريات: 56.
إنّ المحافظة على العقيدة والأخلاق وعلى مرضاة الله ـ تعالى ـ هي من أعظم أولويات المسلم أينما حل، وأينما سافر في كل زمان ومكان، وهذا ظننا بكل مسلم.
فالمؤمن أينما حل وارتحل، وأينما وجد فإنه يضع مرضاة الله ـ تعالى ـ شعاره وطاعته لربه دثاره.
الوقفة الثانية:
الوقت وما أدراك ما الوقت، إنه مادة الحياة ووعاء العمر.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
والترفيه المباح والترويح المفيد لا ينافي الاستفادة من الأوقات فربما كان فيها فائدة وراحة ولكن يجب ألا تكون فيها غفلة ومعصية. قال ابن مسعود - رضي الله عنه- : "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمس نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي"، فالإجازة الناجحة تتطلب التخطيط السليم، فكم مِن عائدٍ, من إجازاته من غير فائدة دنيوية أو أخروية، بل لم يحقق حتى الترويح المباح وربما عاد بالوزر والوبال.
إنّ في الإجازة فرصٌ كثيرةٌ للترويحِ المباحِ، ولزيارةِ بيتِ اللهِ الحرامِ، والذي تعدل الصلاة فيه مئة ألف صلاة، إنها لفرصة عظيمة وتجارة رابحة. ففي زيارة البيت العتيق تعليمُ ابنائنا قدسية ذلك المكان وما فيه من مشاعر وأحداث. والناس يأتون إليه من كل مكان وهو منا قريب.
والإجازة فرصة لزيارة المدينة النبوية والصلاة في مسجد النبي الكريم ثم زيارة القبر الشريف والسلام على النبي الكريم وصاحبيه، وتعليم أبنائنا حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم- ومحبته ومحبة أصحابه، وتعلّم السيرة النبوية بمشاهدة أماكنها.
والإجازة فرصة لزيارة المصائف في الداخل والترويح المفيد، وهي فرصة لصلة الأرحام، وتدريب الأطفال والشباب على بعض المهارات كتعليمهم السباحة وإدخالهم المراكز الصيفية النافعة التي تنمي مواهبهم وتصقل مهاراتهم، وفيها حفظ كتاب الله ـ تعالى ـ ومعرفة السنة النبوية والأخلاق الكريمة والعلوم النافعة والرياضة السليمة والأنشطة المفيدة والعلاقات الخيرة وبناء الشخصية.
إنّ أولادنا ثروة عظيمة، فهل نترك الإجازة تمر عليهم دون فائدة؟
والأسوأ من ذلك إن نتركهم لرفقة السوء ليهدموا ما غرسه الآباء وما بناه المربون في المدرسة من علم وأخلاق .
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدمُ
إنّ المراكز الصيفية يديرها رجال التعليم بإشراف من رجال مخلصين - نحسبهم كذلك - وقد أقامتها الدولة مشكورة، وقد رأينا أثرها عاماً بعد عام في اكتساب العلوم والمهارات وقبل ذلك الأخلاق والآداب وهي محضن مفتوح ومأمون للترفيه والفائدة لاسيما ونحن نسمع عن الأعمال الإجرامية الأثيمة وفي البلد الحرام، من قِبَلِ أقوامٍ, هم بمعزل عن أهل العلم والتربية.
الإجازة فرصة للإفادة من الأوقات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك...وفراغك قبل شغلك) رواه الحاكم في المستدرك رقم (7847 ) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
و إذا لم يملأالفراغ بالمفيد فربما كان سببا للانحراف والفساد.
الوقفة الثالثة:
لأولئك المسافرين إلى بلاد الكفار أو إلى بلاد شبيهة بها كما اعتاده كثير من الناس، وقد يصطحبون أولادهم من مراهقين ومراهقات، وأطفال إلى تلك البلاد التي يجاهر فيها بالكفر والمعاصي.
فهم والله مسئولون عن أوقاتهم ومسئولون عن أولادهم وعن أموالهم :( فَوَرَبِّكَ لَنَسأَلَنَّهُم أَجمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ) الحجر:92-93
فهم يفرون إلى ديار الكفر في رحلات عابثة، كلها إسراف وتبذير، وغفلة وتفريط، ونحن لسنا بحاجة إلى تفصيل القول في أحوال الكثير من البلاد التي يُسَافَرُ إليها،حيث تتعرى الأجساد المحرمة، وتشرب الخمور كالماء، وينتشر الزنا في كل مكان، فضلاً عما سوى ذلك من الكفر والفسوق والإباحية.
فوالله، إنّه لتفريط في رعاية الأبناء وهم يعتادون على تلك المنكرات.
وهو أيضاً كفران بنعمة المال، ونعمة الفراغ والصحة.
وأخطر من ذلك إرسال الأولاد بمفردهم ورميهم في تلك المستنقعات.
إنه التفريط والإهمال تحت ضغط النساء أو البنين فربما استدان رب الأسرة لتلك الأسفار المحرمة والتي تترك فيها الواجبات، ويُعتادُ فيها على الحرام، وقد حرم الإسلام الإقامة في بلاد المشركين وأوجب الهجرة منها ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيراً ) النساء: 97.
فمن استطاع الهجرة وعجز عن الدعوة، وإنكار المنكرات فإنه لا يجوز له البقاء في تلك البلاد، فكيف بمن يذهب بأولاده من بلاد المسلمين إليها؟ وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أَنَا بَرِيءٌ مِن كُلِّ مُسلِمٍ, يُقِيمُ بَينَ أَظهُرِ المُشرِكِينَ ) رواه أبو داود رقم ( 2274).
وقد استثنى العلماء ما كان فيه نفع وفائدة معتبرة لنفسه أو للمسلمين كجهاد ودعوة وعلم وعلاج وغير ذلك.
وللأسف فإنّ كثيراً من تلك الأسفار، وتلك الرحلات السياحية، فيها مخاطر وإفساد، فلا علم أو دعوة أو جهاد. وفيها ضياع وانحلال، والآباء مسئولون عن هذا أمام الله - عز وجل-.
إنّ أصحاب مكاتب السفر عليهم أن يتقوا الله في تلك الإعلانات التي تزودهم بها الصحف هذه الأيام، والتي لا همَّ لها إلا المتعة، دون أيِّ اعتبارٍ, آخر: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدٌّنيَا وَاطمَأَنٌّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ ) يونس: 7-8.
فاتقوا الله.
فما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة، وما للهمم عن ركب المتقين فاترة، وما للألسن عن شكر النعم قاصرة،وما للعيون إلى الفانية ناظرة وعن طريق الهداية حائرة.
أيها المسافرون إلى طاعة الله ورضوانه، أو على الأقل بعيداً عن سخطه وعصيانه اعلموا أن للسفر آداب و مستحبات منها:
صلاة الاستخارة قبل السفر وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القران، وهو دعاء في نهاية ركعتين:( اللَّهُمَّ إِنِّي أَستَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَستَقدِرُكَ بِقُدرَتِكَ وَأَسأَلُكَ مِن فَضلِكَ العَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقدِرُ وَلَا أَقدِرُ وَتَعلَمُ وَلَا أَعلَمُ وَأَنتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِن كُنتَ تَعلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمرَ خَيرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمرِي ـ أَو قَالَ عَاجِلِ أَمرِي و َآجِلِهِ ـ فَاقدُرهُ لِي وَيَسِّرهُ لِي ثُمَّ بَارِك لِي فِيهِ وَإِن كُنتَ تَعلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمرَ شَرُّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمرِي ـ أَو قَالَ فِي عَاجِلِ أَمرِي وَآجِلِهِ ـ فَاصرِفهُ عَنِّي وَاصرِفنِي عَنهُ وَاقدُر لِي الخَيرَ حَيثُ كَانَ ثُمَّ أَرضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ )رواه البخاري رقم (1096).
ومن ذلك إرضاء الوالدين، وقضاء الدين إن وجد، والاتكال على الله - عز وجل-، وفعل أسباب السفر الناجحة من حجوزات و ترتيبات وحفظٍ, للأولاد والأغراض، و العبرة والاتعاظ بما في الأرض من عبر وآيات.
يقول الثعالبي - رضي الله عنه -:
من فضائل الأسفار أنّ صاحبها يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علما بقدرة الله ـ تعالى ـ، ويدعوه إلى شكر نعمه.
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائـع الآيـات والآثـــــــــــــارِ
وعلى المسافر مراقبة الله ـ تعالى ـ أينما حل، وعليه بالأخلاق الكريمة مع من يقابله فهو رسولُ بلده، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: ( اتَّقِ اللَّهِ حَيثُمَا كُنتَ وَأَتبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ, حَسَنٍ, ) رواه الترمذي رقم (1910).
فلنكن قدوةً بأخلاقنا، ودعاةً بأعمالنا، مكثرين من الطاعة وذكر الله ـ تعالى ـ، فإنّ الأرض تشهد بما يفعل عليها: ( يَومَئِذٍ, تُحَدِّثُ أَخبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوحَى لَهَا ) الزلزلة: 4-5.
وعلى المسافر إن يتذكر السفر الأخير الذي لا رجعة بعده، السفر إلى الدار الآخرة، والتزود له ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلبَابِ ) البقرة: 197.
كان الحسن - رحمه الله تعالى- يقول لطالب النصيحة: ( أكثِر الزادَ فإنَّ السفرَ طويلٌ، وأخلِص العملَ فإنَّ الناقدَ بصيرٌ، واحذر الغرقَ فإنّ البحرَ عميقٌ ).
يا سـاهـيـاً عما يراد بـــــــــــــه آن الرحـيــل ومـا قدمت من زاد
ترجو البقاء صحيحا سالما أبداً هيهات أنت غداً فيمن غداً غادِ
إننا أمام سفر لا خيار فيه ولا ندري متى: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ لَعَلِّي أَعمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرزَخٌ إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ ) المؤمنون:99-100
ثم ننبه ختاماً بأن من لم يستطع السفر فليس السفر بضرورة، والإجازة الناجحة لا تتطلب بالضرورة سفراً، وعلى الأب أن يعمل لأبنائه برامجَ مناسبةً من زيارةِ المنتزهاتِ، وإقامةِ المسابقاتِ النافعة وإلحاقهم بالمراكزِ الصيفيةِ وليكثر من مصاحبة أبنائه والتأثير الإيجابي عليهم، ولا يتكلف ما لا يطيق لأجل السفر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد