هل سينتصر الغرب في معركته ضد الإرهاب؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأت الحرب الأمريكية المعلنة ضد الإرهاب في مساء الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م، وبعد مضي أكثر من أربعة أعوام على إعلان هذه الحرب يحق للمفكرين والباحثين أن يحاولوا استقراء مصير الحرب ضد الإرهاب، وتشير الكثير من الشواهد الفكرية والثقافية أن الغرب لن ينجح في الانتصار في هذه المعركة رغم القوة العسكرية الهائلة، والحشد السياسي والإعلامي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، وتقدم هذه الدراسة بعض مبررات استشراف هذا الفشل، وطبيعة ارتباط الفشل في الحرب على الإرهاب بالحياة الغربية أكثر من ارتباطه بميول أو خطط أو عمليات التيارات المسلحة التي أعلنت الحرب على الغرب.

ملاحظة: لا تهتم الدراسة بالأحداث وتفاصيلها، ولا بتعريف مصطلح الإرهابº لأن الاختلاف حول هذه الأمور والتعريفات لا يفيد الموضوع، ولا يؤثر - في نظر الكاتب - على نتيجة المعركة، رغم أن معظم الأمة الإسلامية تستنكر استخدام العنف بأي طريق أو أسلوب تحرمه الشريعة الإسلامية، كما أن الغرب المعني في هذه الدراسة هي تلك الدول التي تظهر العداء للأمة وليست الشعوب بالضرورة أو الدول الغربية الأخرى.

 

مقدمة:

'هل نملك القدرة على هزيمة الإرهاب؟' سؤال يتردد كثيراً في أروقة المراكز الفكرية الأمريكية مؤخراً، تحاول الإدارة الأمريكية ومن خلفها بعض دول أوربا أن تقنع العالم أن الحرب على الإرهاب تمضي في طريق النصر، وأنها قد نجحت في القضاء على التهديد العسكري والأمني الذي أصبح يلقي بظلاله على المجتمعات الغربية، ويغير من طريقة معيشتها أيضاً.

إن الواقع يشير أن الحرب على الإرهاب قد تؤدي إلى هزيمة مؤلمة لأمريكا في تلك المعركة، وقد يكون سبب الهزيمة المباشر مرتبط بالحياة الغربية وما يفعله الغرب، وليس بالضرورة ما تقوم به التيارات المسلحة التي تستهدف الكيانات والدول الغربية، وفي هذا المقال رصد لمجموعة من الأسباب التي تشير بمجموعها إلى صعوبة فوز الغرب في المعركة ضد الإرهاب - بصرف النظر عن التعريف المقبول لهذا الإرهاب -.

إن الكثير من المفكرين في العالم العربي يحاولون - بنوايا حسنة - تصحيح تعريف مصطلح الإرهاب، وإبعاد وصمة الإرهاب عن العالم الإسلامي، ولكن الغرب لا يأبه كثيراً لذلك، وكذلك أيضاً من يحاربونه باسم الإسلام كما يعتقد البعض، أو باستخدام الإسلام كما يرى آخرون، إن تعريف مصطلح الإرهاب - رغم أهميته الأكاديمية - يصبح بلا فائدة تذكر في مواجهة الغرب للقوى المسلحة القادمة من العالم الإسلامي، لأن كلا الطرفين قد اصطلحا بشكل غير مباشر على إلصاق هذه التهمة بالعالم الإسلامي.

إن ما يهمنا في هذا المقام - وقبل التفصيل في الأسباب التي نستشرف منها فشل الغرب في الانتصار في معركته ضد الإرهاب - هو التأكيد أن الأمة الإسلامية ترفض استخدام العنف بأي أسلوب أو طريق ينهى عنه الشرع أو يحرمه، ولا يوجد خلاف حول ذلك بين الأئمة المعتبرين للأمة، أجمع كذلك صناع القرار في العالم الإسلامي من حكومات ورجال دين وشعوب أن من حق الشعوب المضطهدة والمحتلة أن تقاوم الاحتلال بكل الصور الممكنة، ومن بينها المقاومة المسلحة كما نصت الشرائع السماوية، وكذلك مواثيق وقواعد الأمم المتحدة التي تلجأ لها الدول الغربية عند الخلاف مع الدول الأخرى.

 

لماذا.. لن ينتصر الغرب:

إن الغرب يواجه معركة شرسة هو الأضعف فيها ليس بسبب نقص القوة العسكرية، أو أجهزة المخابرات أو الإعلام، وإنما لأن مصالح الغرب مكشوفة لعدوه، وهو غير قادر على حماية هذه المصالح لاستحالة ذلك دون التضحية بالأسس التي قامت عليها حضارة الغرب نفسه.

الغرب في مأزق تاريخي صنعه بنفسه، وقد يتسبب أيضاً في هزيمته في المعركة ضد الإرهاب، وفيما يلي عرضاً لأهم أسباب توقع هذه الهزيمة:

 

عدم التكافؤ العقدي:

يحتاج الانتصار في معركة الغرب ضد الإرهاب إلى أكثر من القوة العسكرية، أو كفاءة أجهزة المخابرات، أو حتى تعاون أجهزة الإعلام، إنه يحتاج إلى القوة العقدية القادرة على التصدي للرسالة العقائدية المخالفة، والتي يحملها الخصم في المعركة.

إن معركة أمريكا وأوربا مع الإرهاب ليست معركة متكافئة من الناحية العقدية، فهناك طرف يدخل هذه المعركة معتقداً أنه مؤيد بالحق، وأن أفعاله مبررة أخلاقياً ودينياً، وأنه سيحصل في مقابل ذلك إما على نصر دنيوي، أو فوز في الحياة القادمة، وبصرف النظر عن صحة هذا الاعتقاد أو عدمه فلا شك أنه موجود لدى طائفة لا يستهان بها من أنصار مشروع الحرب مع الغرب.

وفي الناحية الأخرى نجد أن الغرب فارغ عقدياً في هذه المواجهة، ولا يملك من الأسلحة الإيمانية ما يمكنه من مواجهة الخصم، إن الجندي الأمريكي لا يستطيع أن يجد تفسيراً عقدياً قوياً يبرر له أن يكون طرفاً في الحرب على الإرهاب، لجأت أمريكا وأنصارها من الغرب لذلك من اللحظة الأولى إلى تشويه رسالة ومبررات من يحاربهم بدلاً من مواجهتها برسالة فكرية قوية قادرة على هزيمة الفكر المقابل، لعدم وجود هذه الرسالة حتى الآن.

إن المعارك الطويلة لا يتم الانتصار فيها للأقوى عسكرياً فقط، ولكن الانتصار يصبح في كثير من الأحيان أقرب إلى أصحاب الرؤى الأقوى فكرياً وعقدياً، حتى وإن كانوا أضعف عسكرياً - خصوصاً إن كانت طبيعة المواجهة لا تسمح بالتقاء جيوش، أو بمواجهات عسكرية مباشرة -.

 

طبيعة الخصم تجعل من الصعوبة هزيمته:

إن الحرب التي تتزعمها أمريكا على الإرهاب لا يمكن تحقيق نصر حقيقي فيها، لأنه لا توجد معايير دقيقة لهذا الانتصار، فلا يوجد عدو واضح يمكن القضاء عليه، ولا توجد أرض معركة يمكن للمراقبين أن يشاهدوا الفائز والخاسر على تلك الأرض، إن الغرب يواجه خصماً لا هوية وطنية له، ولا توجد له معاقل يمكن قصفها، ولا دولة يمكن إسقاطها، لذا فإن تحقيق نصر حقيقي هو أمر صعب للغاية لعدم وجود معايير للقطع بحدوثه.

أما الطرف الآخر فهو قادر على أن يوقع بين الحين والآخر ضربات موجعة بالخصم الأمريكي وأنصاره من دول الغرب لسهولة الأهداف ووضوحها - رغم الملاحظات الشرعية التي تحدث عنها أهل العلم في استهداف المدنيين في تلك البلدان -، إن كل هجوم على المصالح الغربية يمكن أن يحتسب انتصاراً لهذا التيار، ويسهل عليه أن يوثق هذا الانتصار - حتى مع معارضة الكثيرين لهذه الهجمات -.

أما أمريكا فليس لها إمكانية الرد بالمثل، لأنها استنزفت هذه الاحتمالات عندما قامت بغزو أفغانستان والعراق، وبالتالي لا توجد اليوم أية معاقل يمكن لأمريكا أن تهاجمها لتحقيق نصر جديد على الإرهاب، أما من الناحية الأخرى فالمصالح الغربية منتشرة في كل أنحاء العالم وليس في الغرب وحده، مما يجعل استهدافها سهلاً على من يرغب في ذلك، بالتالي يصبح من الصعوبة بمكان أن تحقق أمريكا وحلفائها انتصارات باهرة في حرب لا تستطيع حتى أن تجد فيها أهدافاً يمكن أن تحقق من خلالها هذه الانتصارات.

إن مكاسب التيارات المسلحة لا تحسب بعدد المحاولات الفاشلة، وإنما بكل محاولة يكتب لها النجاح، والغرب في وضع دفاعي من المستحيل فيه عقلاً أن تفشل كل محاولات الهجوم عليه من قبل عدو لا يهتم بحياته أو بحياة غيره، إن من الصعب حقاً إيقاف هذا العدو، أو التعامل معه بالطرق المعتادة التي تفترض أن المهاجم حريص على حياته، أو أنه يرغب في تحقيق مكاسب دنيوية يمكن التفاوض حولها.

 

التغيرات الديمغرافية القاتلة:

إن شعوب الغرب تنتحر انتحاراً بطيئاً ولكنه مستمر ومتزايد، فعدد السكان في فرنسا وإيطاليا وألمانيا في تناقص مستمر، وكذلك الحال في معظم دول أوربا الغربية، ولولا الهجرات المستمرة إلى أمريكا الشمالية من قبل المهاجرين من أمريكا اللاتينية وباقي أنحاء العالم لكانت أمريكا ضمن الدول التي يتناقص بها عدد السكان، وتناقص السكان مرجعه عدم الرغبة في الإنجاب، فأوروبا تعاني بالمجمل من الشيخوخة، وتراجع معدلات المواليد، وتعتبر ألمانيا وإيطاليا وأسبانيا من أقلّ الدول الأوربية في معدلات المواليد، فقد تدنَّت النسبة إلى 1.2 طفل لكل امرأة، وتشير التقارير إلى أن معدل عدد الأطفال في الاتحاد الأوربي يبلغ 1.5%، وهو أقل من المعدل المطلوب للاستقرار السكاني والذي يبلغ 2.14 %.

وقد فقدت القارة الأوربية مليوني نسمة من سكانها عام 2001 م وحده تبعاً لتقرير سكاني أخير أصدره المجلس الأوروبي حذر فيه أن عدد سكان القارة يتقلص تدريجياًً خاصة في دول شرق أوربا، وأن الانخفاض السكاني أكثر وضوحاً في 12 دولة معظمها من دول أوروبا الشرقية، حيث قلت نسبة المواليد، وارتفعت نسبة الوفيات أكثر من غيرها من الدول، وقد أعلن أحد خبراء التركيبة السكانية الغربية أن أوروبا قد تفقد أكثر من ثلث سكانها من الأوربيين بحلول عام 2050م.

عندما تنتشر الرغبة في عدم الإنجاب في أي شعب من شعوب الأرض فإنها تدل على عدم الاهتمام بالمستقبل الجماعي لهذا الشعب أو بثقافته أو بقائه، ولذلك يصبح من الصعب على الفرد أن يفكر في أية تضحيات من أجل المستقبل، الفرد الغربي بالعموم يحيا اليوم من أجل نفسه فقط، ولذلك فلا سبيل إلى دعوته للتضحية بحياته في معركة من أجل المستقبل، أو من أجل الآخرين، أو في سبيل الوطن.

ولابد أن يمنى هذا الفرد على المدى الطويل بالهزيمة في مواجهة فرد يحمل تصورات لمستقبل أمة وليس مستقبل فرد، وآمال ترتبط بالآخرين، ورغبة في التضحية بالنفس من أجل الدين - رغم أن البعض يشكك في مصداقية أو صواب تلك التضحيات -، المهم أن من اعتنقها يواجه اليوم شخصاً غربياً لا يحمل رغبة مقابلة في التضحية من أجل هدف أسمى،  لذلك فالمعركة غير متكافئة، وستحسم على المدى الطويل لصالح من يقبلون بالتضحية، ولهذا سيهزم الغرب إن استمرت المعركة مع الإرهاب.

وفي عبارة قاسية تلخص طبيعة هذه المواجهة، يذكر الكاتب الأمريكي مايكل شواير في كتابه 'التعالي الإمبراطوري: لماذا يخسر الغرب معركته مع الإرهاب' ما نصه: 'إنني أدعو القارئ أن يتوقف لحظة عن الحكم، وأن ينظر كيف يتحد من يوافقون ابن لادن ومن يعارضون سياساته المسلحة في محبة ربهم ودينهم، وإخوانهم المسلمينº بطريقة عاطفية وحميمة تبدو غريبة لأمثالي، وأعتقد أنها غريبة كذلك على معظم الأمريكيين والغربيين، إنني لا أقول أن الأمريكيين أو الغربيين لا يحبون إلههم أو عقيدتهم أو إخوانهم، ولكنهم غير قادرين على حمل السلاح من أجل هذه المحبة للإله، ولا يحيون ويحبون دينهم بنفس الطريقة التي يمارسها ابن لادن والكثير من المسلمين'.

 

تكاسل المفكرين الغربيين عن المواجهة:

يميل المفكرون الغربيون إلى تبسيط التعامل مع مسألة تنامي الإرهاب الموجه إلى أمريكا وبعض دول الغرب، فبدلاً من التعمق في فهم طبيعة الصراع وكيفية إدارته، يلجأ الكثير منهم إلى العقلية التبسيطية الغربية التي تسعى إلى تحويل كل الأمور إلى أشكال بسيطة من الحراك الاجتماعي، وبالتالي يمكن القضاء عليها فقط بالحلول العسكرية أو الإعلامية.

لقد فشل المفكرون الغربيون حتى اليوم في مواجهة موضوع الحرب على الإرهاب مواجهة فكرية عميقة، واختيار الحلول الفكرية الصحيحة لمواجهة هذه المعركة، ويتحدث عن هذه الظاهرة المفكر الغربي أ. سبلنجر قائلاً: 'لا يوجد استراتيجي غربي واحد اهتم بطرح رؤية فكرية عقدية مقابلة للتحدي الديني للإسلام، فحتى الفاتيكان الذي يعد الملجأ الأخير للتراث الغربي قد اختار أن يكون ضمن من يسعون إلى المصالحة مع الإسلام'.

ليست المشكلة في هذا الأمر مشكلة تكاسل فقط، ولكن الأخطر هو أن الحلول الصحيحة من الناحية الفكرية لن تكون مقبولة من النواحي السياسية والثقافية العامة، إن طبيعة المواجهة الفكرية مع التيارات المسلحة لابد أن تعود بأصولها إلى الهجوم على الإسلام بوصفه الدين الذي يقدم المبرر الشرعي لهذه التيارات، وبما أن مصالح الدول تقتضي عدم التصريح بمثل هذه المواجهة، كما أن اللياقة الثقافية بين معظم المفكرين الغربيين تمنعهم من الهجوم المباشر على الأديانº فإن الكثير من هؤلاء المفكرين قد وجدوا أنفسهم أسارى للقيود الفكرية التي كبلوا بها الشعوب الغربية طوال العقود الماضية بدعوى أنها من 'السلوك القويم' Politically Correct.

وقع الكتاب الغربيون - في معظمهم - ضحية لهذه العقدة عندما وجدوا من ناحية أن الهجوم على الإسلام هو الطريق الفكري الصحيح لمقاومة الأفكار التي يحملها أصحاب التيارات المسلحة، لكنهم يعرفون من ناحية أخرى أن السياسيين يحذرون من ذلك، وأن الشعوب الغربية تريد أن تتمثل القيم المثالية التي طالما تحدث عنها هؤلاء المفكرون عندما نبذوا بشدة إمكانية الهجوم على الدين أو المعتقدات عندما تقتضي الحاجة ذلك.

 

في الطريق إلى القبور:

تعاني أوروبا من ظاهرة البعد عن الدين، فلم تعد أوروبا مسيحية، ولم تعتنق أي دين آخر، وإنما رفضت الإله - جل وعلا -، وتعالت على جميع الأديان، وأدى ذلك أن الفرد الأوروبي أصبح لا يملك إلا هذه الحياة الدنيا لينعم فيها، أو يهنأ بها دون انتظار أو رجاء أن يكون بعدها أي حياة، لقد تسبب انعدام الإيمان في نوع من الملل من الحياة، وعدم الرغبة في أي تضحية للغير أو من أجل المستقبل، وهذا الشخص الأوروبي هو السياسي الذي يحكم اليوم، وهو الجندي الذي يقاتل أيضاً في المعركة ضد الإرهاب، كيف يتوقع إذن أن ينتصر هذا الجندي في معركة طويلة المدى وليست لها أهدافاً واضحة.

إن أوروبا تبدو أحياناً وكأنها قافلة كبيرة تسير بملل نحو قبورها، وفي المقابل فإن الأجيال المهاجرة القادمة في معظمها من العالم الإسلامي تحمل بين جنباتها الرغبة في المستقبل، وتجمع بين الحرص على الحياة والرغبة في تأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة لهؤلاء المهاجرين، إن هذا التناقض لن يسبب فقط ضعف العزيمة الأوروبية في مواجهة الحرب ضد الإرهاب، ولكنها ستحول أوروبا أيضاً من داخلها إلى نقطة انطلاق للمحاربين ضد أوروبا وأمريكا، وهو ما شهدته الأحداث الأخيرة من تفجيرات بريطانيا، وكذلك من المسلمة البلجيكية التي قامت بتنفيذ عملية استشهادية ضد الجنود الأمريكيين في العراق.

إن هذه الأحداث تؤكد أن تطوراً جديداً قد حدث في المعركة ضد الإرهاب، لم تعد العمليات تخطط وتدار من خارج الكيان الغربي لتوجه له، وإنما أصبح تخطيط بعضها يتم من داخل الغرب لينفذ في مدنه وضد مصالحه، والبعض الآخر يخطط في الغرب لينفذ ضد مصالح العالم الغربي في أجزاء أخرى من العالم، فكيف ينتصر الغرب في معركة انتقلت إدارتها إلى داخل أراضيه، وأصبح بعض من يحملون راياتها هم من أبناء الغرب من المسلمين سواء من أجيال المهاجرين، أو ممن أسلموا وهم داخل الكيان الغربي.

 

استخدام الشعارات الخاطئة:

سعت أمريكا منذ بداية الحرب على الإرهاب إلى محاولة طمس وتشويه طبيعة المعركة، كانت البداية بشعار 'أن من ليس معنا فهو مع الإرهاب'، وكان من مساوئ هذا الشعار أن كل من شعر أنه لا يوافق أمريكا على سياساتها فإنه مضطر إلى أن يتحمس للإرهاب - كما تسميه أمريكا -، ويدافع عنه لأن أمريكا أصرت أن تضع الجميع في سلتين فقط، سلة من يحبون أمريكا، وسلة من يدعمون المواجهة المسلحة معها.

إن هذا الشعار كان شعاراً يتسم بالحماقة السياسية لأنه ساعد في توحيد صفوف من يعارضون أمريكا، وسهل من مهمة التيارات المسلحة التي كانت تبحث عن الغطاء الأخلاقي الذي قدمته أمريكا على طبق من فضة.

ثم كان الشعار الثاني 'أنهم يكرهوننا لأننا نعشق الحرية'، وكان هذا الشعار أسوأ من الذي سبقه ليس فقط لأنه يتسم بالحماقة السياسية، ولكن لأن هذا الشعار الجديد قد جمع الوقاحة مع الحمق، فلم يكن من الممكن تسويق هذا الشعار والدبابات والطائرات الأمريكية تقصف المدن العربية والإسلامية المدينة تلو الأخرى، وتعتقل الإدارة الأمريكية مئات المسلمين بدعوى مساعدة الإرهابيين، وتحتل أمريكا أكثر من دولة إسلامية في خلال أربعة أعوام، ويقتل عشرات الآلاف من المسلمين بدعوى الحرب على الإرهاب، ويطلق لإسرائيل حرية القتل وارتكاب المجازر بصورة يومية في فلسطين تحت شعار محاربة أعداء الحرية أيضاً، سقط أصحاب الشعار في تناقض سهل من مهمة من يواجهونهم.

لقد أكد الكاتب الأمريكي مايكل شواير في كتابه 'التعالي الإمبراطوري: لماذا يخسر الغرب معركته مع الإرهاب' أن الشعارات الأمريكية لهذه الحرب كانت مضللة، وأفقدت الشعب الأمريكي الثقة في جدية الإدارة الأمريكية في مواجهة الأخطار الفكرية المرتبطة بالأحداث التي تعرضت لها أمريكا في سبتمبر 2001م.

 

العجز عن التصريح بحقيقة المعركة:

إن الإدارة الأمريكية وأنصارها في الغرب يعانون من مشكلة حقيقة في التصريح بطبيعة المعركة، وقد يتسبب عدم مواجهة هذه المشكلة في خسارة المعركة ضد الإرهاب، إن المعركة الحقيقية القائمة والدائرة هي معركة حول الإسلام، وليس غير ذلك.

الغرب المعادي للإسلام يعي تماماً أن الخطر الذي يواجهه ليس فقط من التيارات المسلحة، وإنما من الأمة الإسلامية التي تهاجر إلى أراضيه، ويزداد عدد سكانها يوماً عن يوم، وترفض بشدة الاندماج في النموذج الغربي للحياة، بل وتقدم نموذجاً مقابلاً له يكتسب أنصاراً من الغربيين، وينتشر باستمرار رغم كل محاولات إيقافه، إن المعركة هي مع الإسلام، ولكن أمريكا والغرب لا يملكون أن يصرحوا بذلك، ولذلك يصبحون دائماًَ ضعفاء من الناحية الفكرية والعقدية.

أما الطرف المقابل في المعركة فهو لا يجد حرجاً من الإعلان عن مواجهته للغرب، وعلى كراهيته للنموذج الغربي في الحياة، وعن رغبته في القضاء على هذا النموذج، ورغم أن هذه الطريقة في التفكير لا تقرها عموم الأمة الإسلامية، إلا أن أصحاب التيارات المسلحة الموجهة ضد الغرب يعلنونها بكل صراحة ووضوح في مواجهة الخصم الغربي الذي يختفي خلف شعارات حقوق الإنسان، وأصول اللياقة في الحديث، وعدم الرغبة في مواجهة الشعوب المسلمة، إن هذا العجز الغربي من التصريح بحقيقة المعركة سيؤدي بالتأكيد في المستقبل إلى ضعف القدرة على حشد الجهود للمعركة، وبالتالي الاهتزاز والخسارة أمام ضربات الأعداء المتتالية.

لقد أوقع حكماء الغرب وسياسيوه أنفسهم في مشكلة تلقين الشعوب شعارات ومبادئ مثالية لا يملكون الالتزام بها، ثم الوقوع ضحية لتصديق الشعوب لهذه الشعارات، ومحاولتها إلزام القادة بهذه الشعارات في الوقت الذي يحتاج القادة إلى التحلل من المبادئ لإدارة المعركة بكفاءة، وهذا ما نشهده في أروقة الكونجرس الأمريكي هذه الأيام، فهو يرفض إعطاء الإدارة الأمريكية حق الاستمرار في العمل بقانون مكافحة الإرهاب.

 

عجز صناع القرار عن تفهم طبيعة الخصم:

أظهرت الأحداث المتتالية طوال الأعوام الأربع الماضية أن أجهزة الحكم والمخابرات الغربية تتخبط في محاولاتها المتكررة لفهم طبيعة الصراع مع التيارات المسلحة، فقد فشلت هذه الأجهزة حتى الآن في تفتيت البنية التحتية للتيارات المسلحة، أو اعتقال القادة الحقيقيين والميدانيين لهذه التيارات، كما أن هذه الأجهزة فشلت في تحقيق المصداقية لدى المواطن الغربي في قدرتها على حماية البلاد من مخاطر ضربات جديدة موجعة مما سبب إحساساً يتزايد يوماً عن يوم لدى الشعوب الغربية بالهزيمة في مواجهة هذه التيارات المسلحة.

إن سبب هذا الفشل المتكرر في فهم طبيعة الصراع يرجع إلى أن قادة تلك الدول الغربية التي تواجه المعركة ضد الإرهاب يصرون أن المعركة معركة مصالح وليست معركة مشاعر أو مبادئ، وهذا الإصرار على تجاهل المشاعر والمبادئ المتعلقة بالطرف المقابل يوقع الغرب في كارثة سوء الفهم المتكرر للأحداث.

لقد ذكر الكاتب الأمريكي رالف بيتر عبارة تلخص هذا المعنى منذ أكثر من ستة أعوام عندما قال: 'إذا كان هناك خطراً وحيداً لا يقدر الغرب خطورته الحقيقية فإن هذا الخطر هو الكراهية الجماعية له'، إن أمريكا قد نجحت إلى حد بعيد في تكوين جبهة عريضة ممن يكرهون سياساتها في العالم الإسلامي، ومنهم من هو على استعداد لتحويل هذه الكراهية إلى حرب ضد أمريكا ومصالحها، ولكن أمريكا تصر أن تستمر في السياسات التي تولد هذه الكراهية، لذلك لا عجب أن تيار كراهية هذه السياسات يفرز أيضاً المزيد من الجنود الراغبين في مواجهة أمريكا عالمياً، إن السياسات الأمريكية هي أكبر ممول ومغذي للإرهاب في عالم اليوم.

 

تفكك الجبهة المحاربة للإرهاب:

أسفرت أحداث سبتمبر من عام 2001 عن توحد الكثير من دول العالم خلف أمريكا في مواجهة الكارثة التي ألمت بها، ولكن السياسات الأمريكية العدوانية والفردية أدت إلى أن كثير من هذه الدول قد بدأت تعيد النظر في سياساتها الموالية لأمريكا، ساهم في ذلك الوعود التي صدرت من التيارات المسلحة بعدم تهديد مصالح الدول التي تخرج من التحالف مع أمريكا، لذلك بدأت بعض الدول الغربية في سحب قواتها من العراق وأفغانستان، وفي الابتعاد السياسي عن دعم المواقف الأمريكية العدوانية في محاولة لتأمين نفسها وشعوبها من مواجهة خطر المشاركة في مواجهة الإرهاب.

يعبر عن هذا التوجه الجديد الكاتب الأمريكي جون إيكنبري قائلاً: 'تقوم بعض الدول اليوم بإجراء تعديلات طفيفة، وتكوين بدائل أخرى ومختلفة للتحالف مع الولايات المتحدة، وقد لا تبدو هذه الخطوات الصغيرة هامة اليوم، ولكن الأرضية سوف تهتز وتتغير، سوف يتفتت ويختفي نظام ما بعد الحرب الذي تزعمته الولايات المتحدة'.

لقد صدر مؤخراً كتاب نرويجي بعنوان 'الخوف من أمريكا: تاريخ أوروبا'، ويرى كاتباه أن معاداة ومقاومة أمريكا هو القاسم المشترك في الفكر الأوروبي المعاصر، إن أمريكا هي الآخر الذي يتحدد من خلاله وبمواجهته كل ما هو أوروبي، بل أنهما يذهبان إلى القول 'أنه من المستحيل أن تقنع نرويجياً بأن يقول أن الأمريكيين أذكياء، إن كراهيتنا للأمريكيين تتفوق كثيراً على بغضنا للمسلمين والأفارقة'، ويدلل الكاتبان على حقيقة هذه المشاعر بملاحظة ذكية مفادها أنه في أي مدينة من مدن أوروبا لا يخجل الناس من الاستهزاء بالأمريكيين علناً، وحتى في الدوائر الاجتماعية المحترمة، بينما لا يمكن أن يهزأ أحد علناً بالباكستانيين أو الأفارقة رغم وجود مشاعر بغض لهم، ولكنها لم تصل من الشيوع والقبول العام إلى الدرجة التي وصلتها مشاعر كراهية الأمريكان.

إن الجبهة الغربية التي تعلن الحرب على الإرهاب تتفكك رغم أنها ظاهرياً لا تزال تستخدم نفس العبارات، بل وتسن نفس القوانين التي تحارب الإرهاب في أشكاله وصوره المعاصرة، ولكن هذه المعركة قد بدأت تتحول إلى مواجهة بين دول بعينها وبين التيارات المسلحة.

إن قدرة أمريكا أن تعلن الانتصار في هذه الحرب قد تقلصت كثيراً بسبب تفكك الجبهة داخلياً رغم اهتمام كل دولة من دول مواجهة التيارات المسلحة بمقاومة خطرها، ولكن الجميع قد اتفق ضمناً أيضاً أن السياسات الأمريكية في هذا الشأن ليست حكيمة أو مفيدة، أو يحسن الالتزام بها أو حتى الاقتداء بها، وهذا الموقف الجديد يحمل في طياته علامات الانكسار والهزيمة للمشروع الأمريكي في محاربة الإرهاب.

 

هل من مصلحة الأمة أن تنهزم أمريكا؟

إن المعركة القائمة بين أمريكا وحلفائها من بعض الدول الغربية وبين التيارات المسلحة هي معركة يحاول كل طرف من أطرافها استدعاء الإسلام للتأكيد على صحة مواقفه وسلامتها، والأمة الإسلامية بمجملها لم تستشر في هذه الحرب من أي من أطرافها، ولكنها وقعت أسيرة لهذه المعركة دون أن تملك المشاركة فيها إلا بصور محدودة وغير مؤثرة، إن المبادئ الإسلامية الداعية إلى الحوار والتفاهم والتسامح بين الحضارات وبين الشعوب لن تجد لها مكاناً على أرض الواقع إلا عندما يتوقف الإستبداد الأمريكي والصلف الغربي المغرور في تعامله مع الأمة.

قد يختلف بعض المفكرين الإسلاميين مع أطروحات التيار المسلح واستخدامه للإسلام لتبرير كل مواقفه وأعماله، إلا أن الحقيقة أن هذا التيار هو القوة الوحيدة المؤهلة في عالم اليوم لهز الجبروت الأمريكي، ومنعه من السيطرة على العالم الإسلامي، وقد يوجد من بين أبناء العالم الإسلامي من لا يوافق التيارات المسلحة على بعض أفعالها أو كل مواقفها، وقد يوجد من يتعاطف معها، ولكن الجميع - في ظني - يدرك أن هذه التيارات قد أرهقت الإدارة الأمريكية الحالية، وسببت لها أزمة مصداقية كبيرة وعالمية.

إننا لا ندعو إلى العنف وسيلة للحوار مع الآخر، ولكن العنف - الذي لا يقره معظمنا - قد أصبح هو الطريق الوحيد المتاح لردع أمريكا الظالمة وإعادتها إلى رشدها، ويبدو أنه بدون الهزيمة لن تقبل أمريكا أن تجلس على مائدة الحوار مع شعوب العالم، إن عالم الغد لن يكون عالم سلام وأمان مع وجود إدارة أمريكية تخطط لأفكار 'الفوضى الخلاقة' في عالمنا العربي والإسلامي، لن تفرز هذه الفوضى الخلاقة إلا المزيد من 'العنف الخلاق' من الطرف المقابل، رغم معارضة معظم الشعوب وحكامها لذلك.

إن الفوضى الخلاقة لن تسمح لأصحاب الرأي بممارسة دورهم، ولكنها بالتأكيد ستسمح لحملة السلاح بالتعبير عن مواقفهم باستخدام القوة التي سترهق أمريكا وحلفائها أكثر فأكثرº إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه تكلفة الاستمرار في هذه الحرب غير مجدية للطرف الأمريكي، ولحظتها ستعلن الهزيمة المؤلمة التي ظهرت بوادرها منذ الآن.

قد يفرح البعض لهزيمة أمريكا، وقد يحزن آخرون، ولكن العالم سيصبح أكثر تراحماً وهدوءاً عندما يحدث ذلك، ويمكن لحظتها أن تقيم مواقف التيارات المسلحة سلباً أو إيجاباً، وقرباً من الإسلام أو بعداً عنه، أما الآن فإن المعركة ماضية دون أن تستشار فيها الأمة الإسلامية، ولكنها ستعاني من ويلاتها إلى حين.

لا يجب أن تساهم الأمة برموزها الفكرية أو الشعبية في إعطاء أي شرعية أو مبرر لأعمال عنف تخالف دين الله، أو تحرمها الشريعة الإسلامية، ومن الحماقة - في المقابل أيضاً - أن تنتصر الأمة لأعدائها أو تواليهم وهم يكيدون لها ويريدون استخدام إسلامها فقط لحماية أنفسهم وشعوبهم.

إن الحرب الأمريكية على الإرهاب حدث عارض في تاريخ البشرية، ولكنه ساهم في حرق مراحل ظهور مخزون العداء لهذه الأمة لدى بعض صناع القرار والسياسيين في الدول الغربية، وسينتهي هذا الحدث العارض بخروج الأمة الإسلامية بمجموعها منتصرة منه، وأقوى مما سبق، وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى وتعدد، وعسى أن تكره الأمة شيئاً ويجعل الله - تعالى- فيه خيراً كثيراً لها، والله - تعالى- حقاً غالب على أمره.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply