ماذا تعني لك المدينة ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأمن الفكري(1):  

الاضطراب الفكري، والتباين بين الأقوال والأعمال، وتبدل القناعات وتغيير المواقف وعدم الثبات على مبدأ أو أصل يحتكم إليه من أعظم أسباب القلق النفسي والتردد والتلون الفكري.

 

وقد وصف الله - تعالى - المشركين بأنهم مضطربين في أفكارهم لا يثبتون على حالة واحدة بل التباين والاختلاف هو السمة الغالبة عليهم، فلا تجمعهم عقيدة واحدة يؤمنون بها، ولا تؤلف بينهم وحدة فكرية يجتمعون عليهاº ولهذا آمنوا بالباطل وكفروا بالحق، وسلكوا طريق الشقاء وتنكبوا طريق السعادة، وتمسكوا بالغواية وابتعدوا عن سبيل الهداية. قال - تعالى -: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}، أهل الباطل ليس لهم مواقف ثابتة ومحددة فيما حولهم من الأحداث، بل إن مواقفهم تتلون وتتعد حسب الطقس السياسي والإعلامي، سرعان ما يغيروا مواقفهم كلما لاح لهم في الأفق مصلحة.

أما أهل المدينة فمع المنهج الثابت الواضح، والتشريع العادل، والعقيدة الصحيحة الشامخة التي رباهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر بأن يكفل لهم الأمن على عقائدهم وأفكارهم، وتوعد أشد الوعيد من أراد صرف أهل المدينة عن الحق أو تغيبهم عن دينهم، أو إشغالهم عن عبادة ربهم، أو أدخل الشكوك على عقائدهم، أو جلب أدوات الفساد والانحراف إليهم.

بل توعد ساكن المدينة بأشد أنواع الوعيد إذا تجرأ على إيواء مثل هؤلاء أو التستر عليهم، أو تمكينهم من عملهم الفاسد، فضلا عن تأييدهم ونصرتهم والدفاع عنهم.

روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: «المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَينَ عَيرٍ, إِلَى ثَورٍ,، فَمَن أَحدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَو آوَى مُحدِثًا فَعَلَيهِ لَعنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ، لاَ يَقبَلُ اللَّهُ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرفًا وَلاَ عَدلاً».

قال القاضي عياض: «من أحدث في المدينة حدثا» معناه: من أتى فيها إثما، وقال ابن الأثير: الحدث الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة. وقال الملا علي القاري الحنفي: أي أظهر في المدينة منكرا وبدعة، وهي ما خالف الكتاب والسنة.

قال عياض: «أو آوى محدثا» أي آوى من أتاه وضمه إليه وحماه. وقال ابن الأثير: المحدث بالكسر: من نصر جانيا، أو آواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبالفتح: الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضا به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها، ولم ينكر عليه فقد آواه.

فالمحدث هو الجاني على الناس بظلمهم وإيذائهم في أبدانهم أو أعراضهم، أو الجناية على دينهم وعقائدهم.

قال ابن حجر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» اختلف في تفسيرهما، فعند الجمهور الصرف الفريضة، والعدل النافلة.

فهذا الحديث فيه حماية للأمن الفكري لأهل المدينة، فيأمنون على دينهم وعقائدهم متى التزموا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدم الإحداث فيها أو نصرة وتأييد المبتدع والمحدث فيها.

 

والملاحظ أن كثيراً من الأمراض العضوية والنفسية ناتجة من الاضطراب الفكري وكثرة الوساوس والشكوك.

وأي إنسان مسه طائف من الشيطان ببدعة أو شبهة أو شهوة، ضعف إيمانه ورق دينه، وتردت أحواله، وتبددت طاقاته وقدراته.

 

الأمن الفكري (2):

ومن حماية المدينة الفكرية والعقدية أن الله - جل وعلا - حماها من فتنة الفتان وهو الدجال الذي لا يترك مدينة ولا قرية في الدنيا إلا دخلها وفتن من فتن من أهلها، إلا مكة والمدينة.

ففي البخاري عَن أَبِي بَكرَةَ - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَدخُلُ المَدِينَةَ رُعبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَلَهَا يَومَئِذٍ, سَبعَةُ أَبوَابٍ, عَلَى كُلِّ بَابٍ, مَلَكَانِ».

وروى البخاري أيضا قال أَنَسُ بنُ مَالِكٍ, - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيسَ مِن بَلَدٍ, إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، لَيسَ لَهُ مِن نِقَابِهَا نَقبٌ إِلاَّ عَلَيهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرجُفُ المَدِينَةُ بِأَهلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ,، فَيُخرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ, وَمُنَافِقٍ,».

ولما تحقق هذا الأمن نبغ في المدينة علماء كبار فاقوا غيرهم في الأمصار أمثال: سيعد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وربيعة الرأي، والإمام مالك وغيرهم كثير جدا، بل نبغت أسر كاملة في العلم والعمل مثل: آل المنكدر محمد وعمر، وآل عقبة: إبراهيم وموسى ومحمد كلهم فقهاء محدثون، وآل عبد الله بن أبي فروة: إسحاق وعبد الحكيم وعبد الأعلى ويونس وصالح بن عبد الله، وأبو الحسن، وإبراهيم، وعبد الغفار , وأصبحت المدينة كعبة العلوم في القرون الثلاثة المفضلة، يؤمها الناس من كل حدب وصوب، ينهلون من علومها، ويستفتون علماءها.

ولهذا لم يكن في المدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة في القرون الثلاثة المفضلة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين كما خرج من سائر الأمصار الإسلامية، وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

حتى أصبح عمل أهل المدينة معتبرا عند كثير من الفقهاء والعلماء، فيقولون في المسائل مثلا: وعلى هذا عمل أهل المدينة، لالتزامهم بالهدي النبوي وبعدهم عن البدع والشبهات.

وعاش أهل المدينة في الصدر الأول على المحجة البيضاء والعقيدة الصحيحة التي جاء بها رسول الله              - صلى الله عليه وسلم - وقررها صحابته الكرام، فلا مكان بينهم لمبتدع ولا منحرف ولا زائع، وكان أهل المدينة للبدع الاعتقادية والانحراف السلوكي بالمرصاد، وإن وصلت فتبقى هذه البدع والانحرافات متذبذبة لا مستقر لها ولا مأمن مع وجود العلماء العاملين وأهل المدينة الواعين، يحذرون منها ويطردون أصحابها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply