واقع الأقلية المسلمة في بريطانيا


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تتكون المملكة المتحدة البريطانية من إنجلترا وويلز واسكوتلندا وشمال ايرلندا، وتبلغ مساحتها الإجمالية 280ر94 ميلا مربعاً، ويصعب تقدير عدد المسلمين في هذه البلاد لاعتبارات وعوامل عدة أهمها عدم وجود احصائيات دقيقة تقسم الناس حسب انتماءاتهم الدينية. وعلى الرغم من الإحصاء السكاني الأخير ورغم العمل بهذا التقسيم فإنه لم يعد تقديراً دقيقاً لعدم التزام المسلمين بتسجيل أسمائهم والمشاركة فيه. وحسب التقديرات فإن تعداد الجالية المسلمة في هذه البلاد يقدر بمليوني نسمة من جملة عدد سكان بريطانيا البالغ نحو 60 مليون نسمة تقريباً.

وعلى الرغم من ضخامة عدد المسلمين في بريطانيا فإنهم يعيشون في تكتلات طائفية وانقسامات جهوية، تفضل الانتماء إلى تلك الخلفيات بدلا من الانضواء موحدة تحت لواء الإسلام، الأمر الذي سبب عائقاً كبيراً دون توحدهم ومن ثم مدعاة للسلطات المحلية بعدم العناية بحاجاتهم ومطالبهم، ولذلك فالغالبية من جملة الجاليات المسلمة يعيشون مهملين في فقر ومستوى متدن من التعليم مقارنة بالجاليات والإثنيات العرقية الأخرى خاصة إذا قارناهم بالجاليات الأخرى كالجالية اليهودية مثلا التي لا يتجاوز عددها المليون شخص، ومع ذلك يتمتعون بالنفوذ الكبير.

لقد توافد المسلمون إلى هذه البلاد واستقروا بها منذ أمد بعيد بأهداف وأسباب مختلفة، منهم من قصدها بقصد الدراسة ومنهم من قصدها بقصد العمل والعيش الكريم ومنهم من هاجر إليها هاربا من بلاده يقصد الحماية والاستقرار في أجواء الحرية المتوفرة بها. ونمت أعدادهم وازدادت بمرور السنوات وتوزعوا في كل مقاطعات ومدن بريطانيا، ومع ذلك لم تكن المظاهر الإسلامية ملموسة قبل 15 عاما. أما الآن - فبحمد الله - كثرت المساجد وارتفعت المنارات في بعضها وأصبحت تكتظ بالمسلمين بعد الصحوة التي انتشرت لاسيما وسط الشباب.

تتميز بريطانيا عن كثير من دول أوروبا بتوفر مساحة كبيرة من الحرية الدينية، ويتمتع المسلمون بهذه الميزة ويمارسون حياتهم وعباداتهم بصورة طبيعية ولا يتعرضون لأية مضايقات إلا في النادر. فالنساء يتجولن في الأسواق والشوارع والجامعات والمدارس بحجابهن وتجد المسلمين في المواصلات العامة وفي كل مكان بأزيائهم ومظاهرهم الإسلامية. وأصبح المسلمون واعين بحقوقهم ومطالبهم التي لا تتوانى السلطات في تلبيتها لكسبهم وأصواتهم على الأقل في الانتخابات لأنهم أصبح لهم وزنهم. وتوجد الآن في المستشفيات ترتيبات خاصة لتوفير طبيبات للمسلمات في غرف الولادة. وكذلك تتوفر للدعاة فرصة الحضور ببعض المستشفيات لتوعية المرضى المسلمين وتوزيع القرآن الكريم وبعض الكتب والمنشورات الدعوية عليهم وعلى من يرغب من غير المسلمين. وشدت هذه المظاهر والممارسات الإسلامية أنظار المجتمع البريطاني وأثرت فيهم تأثيراً بالغاً فأصبح بعضهم يقبل على الإسلام ويعتنقه بعد قناعة تامة ولله الحمد. وسواء كانت هذه الظاهرة مقبولة لدى المجتمع البريطاني أم غير مقبولة، فإنها صارت حقيقة واقعة. غير أن هناك استثناءات من شرذمة قليلة متطرفة من اليهود والمسيحيين وأعضاء الحزب القومي البريطاني المتشدد تبدي غضبها وتعبر عن اعتراضها عبر وسائل الإعلام المختلفة أو عن طريق الرسائل البريدية والاليكترونية وخاصة تجاه بعض القضايا التي تقع في العالم الإسلامي وتتعارض مع آرائها ومصالحها.

تشكو الحكومات البريطانية دائماً من عدم اندماج الجاليات المسلمة في المجتمع البريطاني، وتحاول بقدر الإمكان وبشتى السبل تحقيق ما هو أكثر من مجرد الاندماج، الانصهار في هذا المجتمع، والجاليات المسلمة تتحفظ وتأبى ذلك، والجاليات المسلمة لا تندمج مع بعضها البعض وفي حالة نفور دائم فكيف توافق الاندماج مع غيرها التي تختلف معها في العقيدة وفي كل شيء. ولكن لوحظ أن الجيل الثاني من المسلمين الذين ولدوا وترعرعوا هنا يختلفون كثيراً عن الآباء، فهم متحدون فيما بينهم واستطاعوا أن يزيلوا حواجز الأصول العرقية ويتجهوا نحو الأخوة الإسلامية والترابط الإسلامي، وتمكنوا بفضل هذا التعاون تحقيق إنجازات عدة تتمثل في إنشاء العديد من المراكز والمدارس الإسلامية وبناء المزيد من المساجد وتحويل كثير من الكنائس إلى مساجد بعد شراء مبانيها، فأصبح المسلمون واعين بحقوقهم يطالبون بها ويجتهدون لتحقيقها، ويحاولون بذل الجهود ليكونوا جالية ذات وزن في المجتمع البريطاني من خلال مشاركتهم في كل مناحي ومناشط الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإدراكاً لهذا الدور وهذه الأهمية أصبحت الحكومات المختلفة تهتم بهم وتعطيهم كبير اعتبار على الأقل للتنافس على كسب أصواتهم في الانتخابات.

تشير بعض وسائل الإعلام على سبيل المثال إلى أن عدد المسلمين يفوق عدد النصرانيين في هذه البلاد. وربما يكون هذا القول صحيحاً إلى حد ما لاعتبارات عدة، منها، إذا أرادوا بهذا القول عدد النصرانيين الملتزمين أي الذين يذهبون إلى الكنائس فعددهم بالفعل قليل ولا يزال في انخفاض، في حين أن عدد رواد المساجد في ازدياد مستمر. إلى جانب أن نسبة المواليد عالية وسط المسلمين وفي ارتفاع مضطرد في حين أن هذه النسبة منخفضة وفي تناقص مضطرد وسط المسيحيين. أضف إلى ذلك الزيادة الملحوظة في عدد المعتنقين للإسلام والمقبلين عليه، الأمر الذي أقلق قادة الكنيسة والقوى المعادية للإسلام والمسلمين.

ورغم أن هذه الدولة لا تعترف رسمياً بالدين الإسلامي إلا أن المسلمين مسموح لهم بممارسة شعائرهم الدينية كافة مادامت لا تمس سيادة القانون. فعلى سبيل المثال غير مسموح للمسلمين بالذبح داخل بيوتهم في مناسباتهم الاجتماعية والدينية كعيد الأضحى مثلا، ولكن مصرح لهم بالذبح حسب الشريعة الإسلامية في أماكن مخصصة لذلك، وهناك كثير من محلات بيع اللحم الحلال في مختلف المناطق والمدن البريطانية، كما أن الدولة لا تهتم بالأحوال الشخصية للمسلمين في شؤون الزواج والطلاق والإرث، لكن ليس هناك ما يمنع المسلمين من أن يعدوا ميثاق الإرث (الوصية) حسب الشريعة الإسلامية قبل الموت. كما أنهم يتصرفون في مسائل الزواج والطلاق حسب الشريعة الإسلامية. أما إذا تعقدت الأمور بين زوجين مثلا وتم رفع دعوى إلى المحكمة فالسيادة هنا لقانون الدولة حيث الحق في الغالب إلى جانب المرأة.

ربما كان لعدم اندماج المسلمين في المجتمع البريطاني وانصهارهم فيه ميزات وايجابيات، أهمها الحفاظ على هويتهم وشخصيتهم الإسلامية وعدم الذوبان في هذه المجتمعات. وكما قلت استطاع أفراد الجيل الجديد أن يزيل إلى حد كبير الفواصل العرقية وأن يتعايشوا مع المجتمع البريطاني ويتفاعلوا معه ومع فعالياته وأحداثه ومناسباته، ونجحوا في تكوين منظمات إسلامية تجمعهم، وأخيراً أفلحوا في إنشاء منظمة إسلامية كبيرة على مستوى البلاد تجمع هذه المنظمات تحت مظلتها وهي المجلس الإسلامي البريطاني (MCB) ليتمكنوا من خلالها الحصول على حقوقهم وتحقيق مطالب الجالية وكذلك دعم ومناصرة القضايا الإسلامية كافة بكل الوسائل والسبل المتاحة.

هناك عوائق وكثير من المشكلات التي تواجه الجالية الإسلامية في هذه البلاد وتأتي في مقدمة القائمة الآتي:

التشتت وعدم وحدة الصف: إن السمة الغالبة عليهم هي الفرقة وغياب الصوت الواحد في كثير من القضايا حتى في المناسبات الدينية منها مثل الاختلاف في صوم رمضان وعيد الفطر وما شابه ذلك.

ومن أخطر العوائق التي تواجههم كذلك التمييز العنصري والديني اللذان يتسببان كذلك في إيجاد مشكلات معقدة وخطيرة، أهمها قلة التعليم والفقر نظراً لارتفاع معدل العطالة بين أبناء المسلمين والعمل بأجور متدنية، وأدت هذه المشكلات المستعصية إلى ظهور ظروف معاناة بالغة التعقيد ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. ففي مجال التعليم تعد الجالية المسلمة في أسفل السلم لعدة اعتبارات منها جهل الكبار والجيل الأول وعدم اهتمامهم بتعليم أبنائهم والعناية بهم ولعدم دعم الحكومات البريطانية للمدارس الإسلامية حيث لم تستفد من الدعم الحكومي إلا ثلاث مدارس فقط، وهذا يرجع لسياسة التمييز التي ذكرناها آنفاً، خاصة إذا ما قارناهم بالمهاجرين الآخرين من نفس البلدان كالسيخ والهندوس الذين فاقوا المسلمين بكثير وعلموا أبناءهم. وتسبب مشكلة التعليم في مشكلات أخرى أهمها الفقر والعطالة وغياب العنصر المسلم من الوظائف القيادية والمناصب الكبيرة في الدولة. ويعيش كثير من المسلمين في أفقر أحياء البلد. وتسبب كل هذه الظروف والمشكلات المذكورة في ارتفاع مستوى الجريمة حيث بلغ عدد السجناء المسلمين في السجون البريطانية أكثر من ستة آلاف شخص.

كما يواجه المسلمون كذلك مشكلات كثيرة في مجالات الأسرة والزواج والطلاق والميراث نظراً لعدم وجود قانون للأحوال الشخصية. ويعانون كذلك من عدم وجود مقابر منفصلة خاصة بهم، بل يخصص لهم جانب في المقابر العامة. لذلك يقوم المسلمون بشراء أرض لجعلها مقابر لموتاهم وبعضهم يفضلون إرسال موتاهم إلى بلادهم.

من المعوقات التي تواجه المسلمين والدعوة الإسلامية في هذه البلاد انتشار فرقة الأحمدية القاديانية وقوة دعوتها التي يظنها كثير من المسلمين وغير المسلمين أنها تمثل الإسلام الصحيح ويقعون في حبائلهم. وتتمثل قوة هذه الفرقة الضالة في هذه البلاد من خلال مساجدهم الكبيرة ذات الامكانات الهائلة التي تجذب إليها الناس، ومن خلال قناتهم الفضائية التي يبثون من خلالها برامجهم على الهواء بعدة لغات عالمية من محطة إرسال تسمى التلفزيون المسلم الأحمدي (Muslim Television Ahmadiyya (MTA)) على مدى ثلاث ساعات يومياً عبر أربعة أقمار صناعية، توجه بصفة خاصة إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة ودول البلقان. وهذه البرامج تسبب أضرارا بالغة لتعاليم الإسلام الحقيقية والدعوة الإسلامية.

إن نظرة المجتمعات الغربية عموماً والقوى المعادية على وجه الخصوص، تجاه الإسلام والمسلمين هي القلق والخوف من هذا الدين الذي بدأ يشكل خطراً زاحفاً على أوروبا والغرب عامة مما يسمى Islamophobia ولا يزال هذا الشعور القلق والعدواني ينمو يوما بعد يوم ولاسيما بعد أحداث سبتمبر الأخيرة. ورغم أن السلطات الحكومية والرسمية في هذه البلاد لا تظهر هذا الشعور، بل على العكس تظهر وتصرح بتفهمها لحقيقة الإسلام ودور المسلمين الفاعل في هذه البلاد وحقوقهم. ولكن هناك من ينمي روح العداء هذه ويتهم الإسلام والمسلمين بالإرهاب وينادي بطرد وإبعاد الأجانب من هذه البلاد وخاصة المسلمين منهم كالحزب القومي البريطاني الذي يؤجج روح هذا العداء ويستعدى السلطات وفئات المجتمع على المسلمين ويحاول إثارة الكراهية ضدهم بكافة الوسائل والأساليب. وتعمل وسائل الإعلام المملوكة والمهيمن عليها من القوى المعادية للإسلام والمسلمين على تعزيز هذا العداء وهذه الكراهية.

وتستخدم وسائل الإعلام بعض الأنماط التقليدية والمفاهيم المغلوطة المنتشرة عن الإسلام والمسلمين هنا في الغرب لترسيخها في أذهان الناس مستغلة الظروف العالمية الحالية قبل وأحداث سبتمبر ومركزة على ممارسات بعض الجماعات الإسلامية المتشددة، وتوجد هنا بعض المنظمات التي تعكس وتؤكد روح التشدد وتوجه الشباب المسلم نحوه كحزب التحرير والمهاجرون الذين يدعو أعضاؤهما إلى تطبيق الخلافة في هذه البلاد.

ورغم كل تلك المضايقات وأنواع التمييز التي يشعر بها المسلمون في هذه البلاد إلا أنهم قد حققوا كثيرا من مطالبهم، مثل الحق في أن يسحب أولياء الأمور أبناءهم الطلاب عند التجمع الصباحي في المدارس الذي تؤدي فيه طقوس وصلوات نصرانية، وكذلك من حصص الرقص والغناء وتعليم الجنس والسباحة، والسماح للطالبات في كل المراحل الدراسية من الروضة وحتى الجامعة بارتداء الحجاب واللباس الإسلامي، والسماح للطلاب والموظفين بأوقات لأداء الصلوات. كما تم توفير الطعام الحلال في المدارس والمعاهد والكليات والمستشفيات والسجون في كل المدن البريطانية وتخصيص أماكن لأداء الصلوات في كثير منها.

هذا ملخص سريع عن واقع الأقلية المسلمة في بريطانيا وبعض المشكلات التي يعانون منها وخاصة بعد الحملة الأخيرة ضد الإسلام والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والظروف العالمية الآنية والمحاولات القوية والمستميتة لإحداث المزيد من التشويه لصورة الإسلام والمسلمين ودمغهم بالإرهاب وسفك الدماء لتخويف المجتمعات الغربية وتنفيرها من مجرد التعامل والاقتراب منهم.

وفي اعتقادنا أن هذه الصورة التي تروجها وتعمل على ترسيخها وسائل الإعلام الغربية ولاسيما المملوكة والمستغلة من قبل الدوائر الصهيونية العالمية، لن تتحسن إلا عندما يصل الصوت الإسلامي المعتدل إلى هذه المجتمعات عبر الوسائل الإعلامية المنتشرة فيها بواسطة مفكرين ودعاة مسلمين ذوي كفاءات عالية ومتمكنين من علوم الشريعة الإسلامية بمختلف المذاهب الفقهية ولهم إلمام ومعرفة بالأديان الأخرى ليبينوا سماحة الإسلام وعظمته وليدحضوا دعاوى العنف والتطرف والإرهاب التي تحاول القوى المعادية نشرها وترويجها.

والله ولي التوفيق وهو نعم المولى ونعم النصير.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply