إنهم يلعبون ببطاقة الوقت الضائع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ركبوا جدار الحكم، لا لإقامة العدل، فالعدل ليس له وجودٌ في قواميسهم، إذن لماذا؟ وإلى أين..؟..إنّهم يبتغون (تسلّق طموحنا) كما قال الشاعر يوماً، ليسيروا بنا (الشعب والوطن وطموح بناء المستقبل) إلى حيث يدفنون الجميع في الحياة، فلا سياسة ولا اجتماع ولا اقتصاد ولا صدق ولا أخلاق، بل هو احتكارٌ لكلِّ شيء وإقصاء كلِّ الناس إلا من يشاركهم ولو تملٌّقاً في الغاية والوسيلة التي هي سرقة كل شيء وأوّلها الحقيقة التي غابت في عهدهم من الوجود، ولبس كل شيء لبوس الكذب وأغطية الدجل ودثار قلب الأحداث.

هذا هو واقع الحال في سورية، منذ أكثر من أربعين عاماً، أي منذ أن اعتلت فئة مغامرة ظهر الدبابة، التي دفع الشعب ثمنها للدفاع عن حدوده، ثم انقضّت فيها على كلِّ أملٍ, من خلال ممارسة (مافويّة) لا رائحة من مسؤولية الحكم فيها.

روى لنا شاهدُ عيانٍ, قصة واحدة من مئات القصص التي غابت فيها الحقيقة، وحضر فيها الاختلاق والتأليف والخيال، من قبل السلطة في سورية.

قال لي شاهد العيان: ذات يومٍ, من أيام عام (1980) جرّد غازي كنعان في حمص وكان المسئول الأمني للدولة فيها - قوّةً مدججة وهاجم أحد مساجد المدينة الوادعة، ولمّا لم يجد إلا خمسةً من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 12 14 عاماً يتدارسون القرآن، أمر التجريدة العسكرية التي ترافقه أن تُجهز عليهم، وبعد أن حصل ذلك بدمٍ, باردٍ, جداً، استدعى التصوير وصفَّ زبانيته السلاح والقنابل إلى جانب جثامين الأطفال، وتكلّم الإعلامي واصفاً المشهد بأنّه عملية قضاءٍ, على إرهابيين من المجرمين والقتلة المتطرفين!.

حضرتني هذه القصة التي سمعتها من شاهد عيان منذ أكثر من عشرين عاماً، وكنت قد سمعت العشرات من أمثالها، حضرتني اليوم هي وغيرها، بعد أن أذاع التلفزيون السوري حادثة مشابهة في محافظة إدلب، ادّعى فيها الجلادون القضاء على وحدةٍ, تكفيريةٍ, مؤلفةٍ, من ثمانية أشخاص، تركوا خلفهم الكثير من السلاح، وكان التلفزيون نفسه قد أعلن عن اكتشافه مجموعةً أخرى ومخزناً لتصنيع القنابل والمتفجرات، وعرض صوراً لأسلحةٍ, وقنابل ومتفجرات ومواد كيميائية، وبيّن أنَّ هذه الأسلحة دخلت إلى سورية من لبنان، جلبتها فئةٌ تكفيرية إسلامية، فإلى أيِّ مدى يستطيع المشاهد والمراقب أن يصدّق مثل هذه الرواية... بعد أن اعتاد على خطة النظام السوري الإعلامية القائمة على مقولة الستالينية والنازية: "اكذب واكذب حتى يصدّقك الناس" فهل بعد كلِّ تلك السنوات التي اعتاد الناس فيها على مثل هذا المنهج الإعلامي للنظام يمكن أن توجد مصداقية لأيِّ حديثٍ, يتحدّثه أو حادثةٍ, يرويها إعلامه... ؟ خصوصاً أنَّ الرواية التي سردها تلفزيون دمشق تتلبَّسها الشبهات التالية:

1 أنَّها تُذاع في غمرة تورّط النظام مع المنظمة الدولية ولجنة تحقيقها التي يرأسها ميليس، ممّا أربكها وجعلها تتصرف تحت ضغط اللحظة بدون تروٍ, ولا نظر للمآلات.

2 أنَّها تأتي أيضاً في غمرة الشبهات التي تدور حول الزمرة الحاكمة بشأن المقابر الجماعية التي اكتشفت حول مقرّ غازي كنعان ورستم غزالة في عنجر اللبنانية.

3 وأن السلطة تُعلن اليوم عن هذه الحادثة في خِضَمِّ انشغال الشعب السوري بمصير بلده والحوار الدائر حول كيفية تصرّف الزمرة الحاكمة تجاه ما يُوَجَّه إليها من تهم، إذ تريد أن تضع الوطن كُلَّه في مَهَبِّ الريح لكي تُنجي بعض ضُباطها وفئاتها النافذة المشتبه بها.

4 ثم إنّ هذا الإعلان يأتي في ظلِّ اتهام النظام السوري للبنان بأنَّه أصبح ممراً للإضرار بسورية بعد خروج قوات النظام ومخابراته من هناك... ؟ وهي تهمة ظاهرٌ فيها الافتعال والكيد.

5 ولا يمكن أن يبتعد هذا الإعلان عن محاولة استخدام النظام لمجموعات من الذين استضافهم ورحب بهم في وقتٍ, ما ليكونوا ورقةً تُوَظَّفُ في المجال المناسب، وجاءت اللحظة التي توهم أنها مناسبة وكان هذا الإخراج الرديء للحادثة.

إذن، فإنَّ التوقيت والشبهات وركاكة الإخراج وتهالك السيناريو الذي حُبكت به تلك القصص، إلى جانب وجود الحقائق على الأرض الدامغة لتصرفات النظام من قبل، وثبوت الكذب المستمر على النظام في أحداث مشابهة، فقد سبق أن قال الصحفي اللبناني (سليم اللوزي) في الثمانينات: إنَّ النظام يكذب حتى في النشرة الجوية، فكان جزاؤه أن قتله النظام وألقى بجُثته في الخلاء!

ومع كلِّ ممارسات القتل والتعذيب وفي ظلال القصة التي رويتها، وفي ظلِّ قتل 1000 إنسان بدمٍ, بارد في سجن تدمر عام 1980، وقتل المواطنين في حلب يوم عيد الفطر حيث جُمِعَ ما يقارب مئة من المعايدين، وصُفٌّوا على حائط إحدى البنايات، ثمَّ أطلقت السلطات عليهم النار، لمُجرَّدِ أنَّ مناوشةً جرت في حيّهم، هذا فضلاً عن قتل الناس في السوق في جسر الشغور بدمٍ, بارد، هذا إضافةً إلى الحدث الجلل الذي قتلت فيه السلطة 40000 إنسان في مدينة حماة خلال شهر فبراير 1982م.

إنّه في ظل ذلك الإجرام الذي ارتكبه النظام من خلال سيناريوهات متهالكة... لا نملك إلا أن نقول: إنَّ هذه الأحداث التي يفتعلها النظام ويعزوها إلى الإسلاميين مشكوكٌ في صحتها... وهو يبتغي من ورائها ما يلي:

أ يريد أن يقول: إنّه ما زال قوياً، وبيده جميع أوراق الوضع الداخلي السوري، رغم ذهاب لبنان، ورغم الضغوط، ورغم ميليس ولجنته، وهو لا يعلم يبدو أن الأمريكان لديهم أجندة تجاه المنطقة خطيرة، يريدون السير فيها بلجنة ميليس أو بدونها.. ويبدو أن النظام يسير في طريق أعمى.. حيث يقدم لهم الخطيئة تلو الأخرى، ليسهل مضيهم في تنفيذ الأجندة الخاصة بهم.. وكأنه يخبط خبط عشواء..

ب هي رسالةٌ للجميع يفهمهم منها أنَّ النظام مستهدف، وأنّه على خط محاربة الإرهاب، ولذا فقد أبرز تلفازه الرسالة الزرقاوية في صدر الصور التي عرضها، لكي يّقال: إنّ هؤلاء الذين قتلهم هم من تابعي الزرقاوي، وأنَّ أمنه يقظ ويقف مع كلِّ المحاربين للإرهاب خصوصاً الذي يجري في العراق.

ج وهي رسالة إلى لبنان بصورة خاصة تقول: إنَّ النظام لن يخلي يده من الورقة اللبنانية، لذلك فإنَّ تقرير إعلامه تضمّن الإشارة الواضحة الصريحة إلى أنَّ الأسلحة التي ضُبطت جاءت من لبنان، وبالتالي فإن حكومة السنيورة لم تَفِ بوعدها: (عدم جعل لبنان ممرّاً لأذيّة سورية).

د وهي قنبلة دخانية تحاول عبثاً التغطية على أخبار المقابر الجماعية في لبنان التي أشار الجميع إلى ضلوع أجهزة النظام باقترافها أيام كان رئيس فرقة الاستطلاع والسيطرة والأمن للجيش السوري في لبنان مندوباً سامياً فوق العادة حنت له الهامات، وأتت طوع بنانه كلٌّ الفعاليات.

ه وهي أخيراً وليس آخراً رسالةٌ إلى الداخل السوري تقول: إنَّ النظام لن يتخلى عن منهجه القمعي الإجرامي، وهو يتجه بالقمع بصورةٍ, أخصّ إلى الجهات الإسلامية السورية، وإلى كلِّ من تسوِّل له نفسه التفكير بتغيير النظام بأيّة وسيلة، ولو كانت وسيلةً سلمية، تلك التي توافقت عليها كلٌّ فصائل الشعب السوري وطلائع حراكه، من خلال إعلان دمشق.

وبناءً على ما تقدّم فإنّه يمكنني القول وبدون تردد: إنّ النظام الحاكم في دمشق، لا يدري أنه يلعب اليوم في الوقت الضائع، وإنَّ سياسات حافّة الهاوية التي ساعدت ظروفٌ دولية وإقليمية على نجاحها أيام حكم الأسد الأب، لم تَعُد ذات فائدة، هذه الأيام، وكما يقول المثل المصري إنَّ هذه الزمرة (نايمة على ودانها) وكأنّها تعيش في عصرٍ, ماضوي، لم تستيقظ من أحلامه الوردية بعد، لترى أن كلًّ شيء قد تغير، وأنَّ الشعب السوري قد بدأ بالتدريج يأخذ حلَّ قضيته بيده وعزمه وتوحدّه على قواسم مشتركة، من أهمها التغيير الكامل بالطرق السلمية، ومن دون الاعتماد على أيِّ قويً خارجية، بل الانطلاق بعد الاعتماد على الله من القوى الذاتية، وتفتّح براعم وعي سياسي وطني توافقي أجمل رؤيته إعلان دمشق بالدعوة إلى مؤتمر وطني شامل لا يستثني أحداً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply