متغيرات إستراتيجية متلاحقة في حزام الأزمات


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

من شاطئ المتوسط إلي المرتفعات الهندو - باكستانية، ومن بحر قزوين إلي خليج عدن، ثمة عالم يتغير بين لحظة وأخري. حالة سيولة إستراتيجية تؤدي إلي انقلابات سريعة ومتلاحقة في علاقات القوي، بالرغم من ثوابت الجغرافية السياسية التي تحكم دول المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ولأن مقولة هلال الأزمات قد شاعت منذ زمن لوصف أوضاع دول وشعوب المنطقة، فإن الفرضية السائدة أن ليس ثمة من جديد في حالة الاضطراب الحالية. الحقيقة إن ما نشهده هو اضطراب من نوع آخر.

إذ ليس هذا مجرد مخطط عسكري انقلابي أو حراك وغضب شعبي، يسعى إلى إطاحة نظام حكم ما، من الصنف الذي عرفته باكستان وإيران وتركيا وعدد لا يحصى من الدول العربية من قبلº ولا تدافعاً ساخناً على الحدود كذلك، الذي وسم علاقات باكستان بالهند أو إيران بالعراقº ولا هو احتلالاً أجنبياً، بكل وطأة الاحتلال الأجنبي، كذلك الذي عاشته أفغانستان ويعيشه العراق. الذي تشهده شعوب ودول هذه المنطقة ذات المواريث الثقافية الكبرى، هو أشبه بزلزال كبير، يكاد يعصف بأسس اجتماعها وتوازنات قواها وقواعد الاستقرار التي ترتكز إليها.

في أفغانستان مثلاً، وبالرغم من الوعود التي حملتها الحرب الأمريكية في خريف 2001، التي استهدفت إسقاط حكومة طالبان وإخراج أفغانستان نهائياً من مسلسل العنف والإرهاب والحروب الداخلية، فإن النتائج كانت أبعد ما تكون.

انهار نظام طالبان وأقيم نظام حكم جديد موالٍ, للولايات المتحدةº ولكن القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو ما تزال تقاتل في كل أنحاء أفغانستان، وقد أصبحت مجموعات طالبان المسلحة بعد أكثر من ست سنوات على الاحتلال أكثر فعالية وقدرة على التحكم بمناطق واسعة من البلاد، يجاور بعضها العاصمة كابل. ويترك الاحتلال الأجنبي أثراً مدمراً علي علاقات القوميات الأفغانية بعضها بالآخر.

ولكن ما لا يقل خطراً، أن الاحتلال الأجنبي والصراع الدموي علي مستقبل أفغانستان، ولَد تطورين غير مسبوقين في بنية الجوار الأفغاني وشعوبه. الأول، انتقال الحرب، أو الحروب، الأفغانية إلى باكستان، بعد أن أصبح نظام الجنرال مشرف في إسلام آباد حليفاً أساسياً في الحرب الأمريكية على الإرهاب.

لم يراع مشرف حساسيات شعبه، ولم يأخذ في الاعتبار التداخل القبلي الوثيق بين الشعبين الباكستاني والأفغاني، وحوَل مناطق القبائل في بلوشستان والمقاطعة الشمالية ـ الغربية إلي ساحة عمليات عسكرية، عائداً بها إلي عهد الاحتلال البريطاني. وسرعان ما انفجرت حرب باكستانية موازية للحرب في أفغانستان، قوضت استقرار البلاد وتوشك علي تقويض قواعد الحكم في باكستان.

يمس التطور الثاني جوهر العلاقة بين باكستان وأفغانستان كدولتين. فمنذ مطلع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في نهاية السبعينات وبداية التدخل الباكستاني ـ الأمريكي ضد الاحتلال، بنت إسلام آباد سياستها على قيام تحالف باكستاني ـ أفغاني استراتيجي، يساهم في توازن العلاقة القلقة مع الهند. أصبحت باكستان بالتالي اللاعب الرئيس في الشأن الأفغاني، طوال سنوات الاحتلال السوفيتي وبعد نهاية الاحتلال.

وبالرغم مما شاب العلاقات بين إسلام آباد وكابل من اضطراب خلال حكم طالبان، فليس ثمة خلاف على أن باكستان ظلت البوابة الرئيسية لكل من حاول الاتصال بحكومة طالبان أو التفاوض معها حول هذا الشأن أو ذاك. بانهيار طالبان، ووقوع أفغانستان تحت السيطرة الأمريكية، انتهت العلاقة التحالفية وحل محلها الشك والعداء والاتهامات.

عجز نظام كرزاي عن تأسيس شرعية له في كابل تحول إلى اتهامات لمؤسسات الدولة الباكستانية العسكرية والاستخباراتية بمد يد العون لطالبان، وعلاقات كرزاي المتزايدة مع الهند، واستخفافه بالدور الباكستاني يجعل منه خصماً لدوداً لإسلام آباد، بغض النظر عن مصير أفغانستان. هذا التدهور في العلاقات الباكستانية ـ الأفغانية مرشح للاستمرار، طالما استمر الاحتلال الأجنبي لأفغانستان، ولن يتأثر كثيراً بوجود مشـرف في موقــع الرئاسة أو خسـارة هذا الموقع.

ولم تقتصر عواقب احتلال أفغانستان علي الجوار الباكستاني، بل امتدت أيضاً إلي إيران، حيث تنشط حركة معارضة مسلحة بلوشية، مستقلة أو مدفوعة بدعم استخباراتي أجنبي، وحيث تتهم إيران بزعزعة استقرار أفغانستان. ولكن إيران ككل تكاد تدخل مرحلة من فقدان التوازن.

فالتهديد الأمريكي بالحرب علي إيران هو تهديد بالغ الجدية، سواء نفذته قوات أمريكية أم قوات إسرائيلية. ولا ينفع هنا الاحتجاج بأن البرنامج النووي الإيراني هو برنامج سلمي، أو أنه حتى في أسوأ الأحوال لا يشكل تهديداً ملموساً للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

وفي حال بدأت الحرب على إيران، فثمة إجماع على أن هذه الحرب لن تستهدف مواقع البرنامج النووي وحسب، بل ستستهدف تقويض سلطة الدولة الإيرانية المركزية، ليس فقط بمحاولة إضعاف مؤسسات الدولة العسكرية والاستخباراتية، ولكن أيضاً بتشجيع حركات المعارضة المسلحة، من بلوشستان إلى خوزستان إلي كردستان، إضافة إلي مجاهدي خلق، التي ما تزال معسكراتها قائمة في العراق تحت حماية أمريكية.

وفي حال نجح مخطط إضعاف الدولة الإيرانية، فلن تقل عواقب الحرب علي الجوار الإيراني منها علي إيران نفسها. المشكلة الكردية هي مشكلة متفاقمة أصلاً، وهي إحدى أبرز ما يهدد وحدة العراق وبقاءهº وفي ضوء الهجمات المتزايدة لحزب العمال الكردستاني داخل تركيا وتخطيط الحكومة والجيش التركي للتعامل مع قواعد حزب العمال في الجانب العراقي من الحدود، فإن تصعيداً كردياً جديداً في إيران سيجعل المسألة الكردية واحدة من أكبر عوامل انفجار العنف في المثلث الإيراني ـ التركي ـ العراقي.

وتمر تركيا بمرحلة مخاض غير مسبوقة في تاريخها. فبالرغم من محاولات حكومة حزب العدالة والتنمية الحثيثة للحفاظ علي العلاقات التركية الجمهورية التقليدية بالغرب، أوروبياً وأمريكياً، وحتى إسرائيلياً، فإن تطورات موضوعية تدفع تركيا نحو الشرق، أرادت حكومتها وطبقتها الحاكمة أم لم ترد.

المفاوضات التركية مع الاتحاد الأوروبي تسير ببطء غير مسبوق في تاريخ الاتحاد، وقد أظهر عدد من الدول الأوروبية الرئيسية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، عزماً قاطعاً على رفض التحاق تركيا بالاتحاد. المخاطر المحيطة بوحدة العراق، والمآلات المحتملة للحرب علي إيران، تجعل من الجوار العربي ـ الإسلامي لتركيا أكثر أهمية وأثراً. والجيش التركي يوجد الآن ضمن القوات الدولية المنتشرة في أفغانستان وجنوب لبنان.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فتحتل الحسابات الاقتصادية والتجارية وزناً لا يمكن تجاهله. فإن كانت الحكومة التركية تأمل في تحويل النمو الاقتصادي السنوي الكبير خلال السنوات الخمس الماضية إلى حالة دائمة، وأن تجعل من تركيا قوة اقتصادية كبرى بين الشرق والغرب، فإن مجال النشاط الاقتصادي الأهم هو الجوار العربي والإسلامي، حيث تعمل بالفعل الآن عشرات الشركات التركية الكبيرة، وتتقاطع أنابيب نقل الغاز والنفط، وتفتح الأسواق المحلية المجاورة أبوابها للمنتجات التركية.

التحسن الملحوظ في العلاقات التركية ـ السورية لا يعود للسياسة وحسب، بل ولحسابات السوق أيضاًº والعلاقات التركية بشمال العراق لا تحكمها نشاطات حزب العمال الكردستاني ومخاطر انقسام العراق وحسب، بل والنشاط الهائل للشركات التركية في شمال العراق. تركيا، باختصار، تزداد التصاقاً بجوارها العربي ـ الإسلامي عما كانت في أية حقبة أخري منذ الانهيار العثماني. وسيكون لهذا التحول في الاتجاه التركي آثاره الملموسة على تركيا وعلي جوارها كله.

ويشكل العراق واحداً من أبرز دوائر الانقلاب الاستراتيجي المستمر في المشرق العربي ـ الإسلامي. فكما أسقط الاحتلال الأمريكي نظام الحكم العراقي، أسقط أيضاً عدداً لا حصر له من ثوابت الاستقرار وعلاقات القوي، ليس بالضرورة عن سابق تصميم وتصور في كل الحالات. أثار غزو العراق واحتلاله المسألة الطائفية في المشرق العربي - الإسلامي كما لم تثر من قبلº وفي حين تكتسي الأزمة اللبنانية طابعاً طائفياً صارخاً، باتت كل دول المنطقة تراجع حسابات سكانها الطائفية.

وللمرة الأولي منذ ولادة العراق الحديث، يتحول هاجس النفوذ الإيراني في العراق إلي واحد من أهم محددات السياسة الداخلية وتوجهات القوي العراقية وتحالفاتها. اتساع النفوذ الإيراني في العراق هو، بالطبع، نتاج طبيعي للسياسات الأمريكية الخرقاء، ولكنه قد يصبح في النهاية أحد أهم دوافع الحرب الأمريكية علي إيران. إضافة إلي هذين المتغيرين الاستراتيجيين الكبيرين، فإن غزو العراق واحتلاله قد يدفعان العراق باتجاه الانقسام الرسمي أو الفعليº وفي حال وصل العراق إلي هذا الاستحقاق فإن العواقب علي جوار العراق ستكون بالغة العنف والتدمير، سواء علي الصعيد الطائفي، أو الإثني، أو علي صعيد العلاقات بين دول المنطقة.

ولكن واحدة من أخطر نتائج الوضع العراقي (والأفغاني، بالطبع)، أنه يكاد يعيد المنطقة، وللمرة الأولى منذ عقود، إلى عهد السيطرة الأجنبية المباشرة، وأن الدولة العراقية الجديدة ودول الجوار وطبقاته الحاكمة تكاد تتعامل مع هذا الانقلاب في السياق التاريخي الحديث للمشرق باعتباره حدثاً عادياً، بعد نضال طويل من أجل الاستقلال، وعقود من الصراع العربي ـ الإسرائيلي علي فلسطين.

إن استمر احتلال العراق وأفغانستان بدون معارضة جادة من دول المشرق، وعمل عراقي وأفغاني جامع من أجل تحقيق الاستقلال، فإن السيطرة الأجنبية المباشرة لن تقف عند حدود أفغانستان والعراق.

السبب الرئيس خلف الانقلاب المتسارع في مقدرات دول المشرق وشعوبه، كان الاجتياح الأمريكي العاصف، الذي انطلق قبل ستة أعوام باسم مكافحة الإرهاب، وتطورت أهدافه سريعاً نحو إحلال الديمقراطية، مواجهة الدول المارقة، التعامل مع مخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتأمين الحاجات الأمريكية الإستراتيجية للنفط. بعض من المتغيرات الهائلة التي تعيشها المنطقة هي نتاج مباشر للإعصار الأمريكي، بمعني أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأهداف الانتشار الأمريكي العسكري والسياسي. وبعضها الآخر نتاج غير مباشر وغير مخطط له لهذا الانتشار. ولا تقتصر المخاطر والمخاوف التي تثيرها هذه المتغيرات علي خصوم الولايات المتحدة، بل تطال أيضاً، وفي شكل أكثر إلحاحاً في كثير من الأحيان، أصدقاء وحلفاء واشنطن.

وربما يظن أن قدراً كبيراً من المخاطر المصاحبة للانقلابات الإستراتيجية المتلاحقة، سيزول بمجرد نهاية ولاية الرئيس بوش الابن وإدارته. ولكن التاريخ القريب للسياسة الأمريكية الخارجية والدفاعية، تشير إلى أن الإدارات المتعاقبة في واشنطن، قلما تتعهد بتغييرات جوهرية في توجهات الإدارة السابقة، بل تلجأ عادة إلى معالجة سلبيات هذه التوجهات علي المصالح الأمريكية وتعظيم إيجابياتها.

لقد أدت الزيادات الكبيرة خلال العامين الماضيين في أسعار النفط إلى تراكم سريع في الفائض النقدي لدي الدول المصدرة، التي يقع عدد منها في المشرق العربيº وتتحرك القضية الفلسطينية، مركز السياسة العربية لعقود، من تعقيد إلى تعقيد، يرتبط في جوانب منه ارتباطاً مباشراً بتطورات الأمور في العراق، وإيران، وكردستان. ولذا، فإن حالة الاضطراب والقلق والسيولة الإستراتيجية في المشرق العربي ـ الإسلامي مرشحة للتفاقم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply