متساندة على الحلفاء الأوروبيين غدت الولايات المتحدة عازمة على لملمة معظم حقائبها في أفغانستان, وتسليم قياد الاحتلال أو جزء كبير منه لمن يفهمون الخريطة الأفغانية، وطرقها الوعرة أفضل منها, فحلف الناتو بقيادة البريطانيين بلد الاحتلال السابق لأفغانستان هم من سيتولون الجزء الأكبر من مهمات دول الاحتلال المتحالفة.
أفغانستان عادت هكذا للمربع الأول, حيث 40 ألف جندي احتلال سيتولون السيطرة على مرافقها الحيوية، ويحلون على القواعد العسكرية المنبثة في ربوع بلاد جبال الهندكوش، هو نفس الرقم تقريباً الذي بدأت به الحرب العدوانية على الشعب الأفغاني قبل خمسة أعوام.
والدلالة جلية, خطوات جنود الولايات المتحدة سارت في محلها, والغرب انتبه أخيراً إلى أنه بعد لم يتجاوز خط البداية، ربما هو تقدم خطوات في اتجاه فرض كلمته في كابول، لكنه تقهقر خطوات أيضاً للخلف ببدئه الكرة من جديد بظروف أشد قسوة من سابقاتها, فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تلك التي بدأت الحرب مزهوة بنصر خاطف سرعان ما تحدثت بعده صفحات الإعلام وموجاته عن "فلول طالبان", ورددت أوهام الدولة العظمى، وتصريحات كبار مسؤوليها "سنسحقهم", "سنجلبهم إلى العدالة"، والحاصل أن من تم أسرهم من قبل مقاتلي طالبان والقاعدة والشباب العربي هناك بوجه عام لم تجد الولايات المتحدة الأمريكية عدالة لديها لتقدمهم إليها, فحشرتهم في معسكرات الاعتقال النازية في قاعدة باجرام بأفغانستان، وقاعدة جوانتانامو بكوبا, ثم هرب منهم قلة مؤثرة في باجرام, وغادرت جوانتانامو ثلل من العرب إلى بلدانهم فأفرج عن البعض، وأعيد اعتقال الآخرين، ولما تأتهم "العدالة" بعد، وللمناسبة فإن بعض هذه "العدالة" العربية تنتقد السلطات الأمريكية أحكامها مثلما وجهت إدارتها انتقاداتها لها هذا الأسبوع.
هذه "الفلول الطالبانية" التي كان الإعلام الغربي يتحدث عنها - مثلما ظل يتحدث عن فلول صدام وأزلام البعث في العراق - لا يخجل الآن وهو يتحدث في تقاريره الزائفة عن مقتل العشرات منهم كل يوم، خمس سنوات من تعقب هذه "الفلول" لم تحل دون الاستمرار في تكرار الأكاذيب, ولو أحسن الإعلام الغربي لسعى لضغط هذه الأرقام كثيراً لكيما يخلف شعوراً بأن "فلولاً" تهاجم القوات الغربية, وتُقتل منها أعداد كبيرة كل يوم بعد مرور سنوات على تراجعها هي لافتة عنوان مقاومة دينية / قبلية معينها لا ينضب.
ولمحة على أهم نشاطات هذه "الفلول" خلال الأيام الماضية يشي إلى معانٍ, مهمة نعرض لها لاحقاً:
[1] 21 مايو 2006: 16 جندياً أفغانياً وآخر فرنسي يلقون حتفهم، ويجرح العشرات في اشتباكات استمرت لنحو ثماني ساعات مع مقاتلي حركة طالبان في ولاية هلمند جنوبي أفغانستان, وقبلُ أعلنت قوات التحالف أن أربعة جنود قتلوا أحدهم تابع لها، وجرح 26 آخرون، في مواجهات مع مقاتلين بولاية قندهار, وفي غضون ذلك بالعاصمة الأفغانية قتل شخصان على الأقل وأصيب ستة آخرون بجروح في انفجار سيارة مفخخة, فيما يُعتقد أن ثائراً كان يقودها. [والإحصاءات وفقاً لبيانات رسمية صادرة عن قوات الاحتلال والسلطات الأمنية الأفغانية الموالية لها].
[2] 20 مايو 2006: قالت حركة طالبان أنها قتلت نحو 60 جندياً، واحتجزت عشرة آخرين بكمين نصبته لقافلتهم بولاية هلمند جنوبي البلاد, فيما أعلنت قوات الاحتلال أن جنديين فرنسيين وثالث أميركي قد قتلا فيما أصيب ستة آخرون باشتباكات في مناطق مختلفة بأفغانستان.
[3] 19,18 مايو 2006: اندلعت أعنف المعارك منذ إطاحة طالبان في أكتوبر 2001 بين مقاتليها وقوات أجنبية والجيش الأفغاني العميل, قتل فيها نحو 100 شخص من مختلف الأطراف طبقاً لمصادر حكومية أفغانية.
أما الجانب الطالباني فقد أعلن على لسان المتحدث باسم الحركة محمد حنيف أن مقاتلي طالبان شنوا ثلاث هجمات صباح اليوم في ولاية أورزجان شمالي قندهار على قافلة أفغانية فقتلوا قرابة 100 جندي، ودمروا 12 مركبة عسكرية، وأضاف أن خمسة من مقاتلي الحركة قضوا في العملية.
وفي ولاية هلمند نصب مقاتلو طالبان كميناً لقافلة للجيش الأفغاني، ودارت معركة عنيفة قتل فيها أربعة جنود حكوميين وجرح 12 آخرون بحسب متحدث عسكري باسم قوات التحالف، وقال مصدر أفغاني: إن خمسين جندياً آخرين حوصروا بالموقع، ولم يعرف مصيرهم بعد، حيث أفلتت من الهجوم ست من بين 20 آلية.
[4] 5 مايو 2006: أعلن الجيش الأميركي مقتل عشرة جنود كانوا على متن المروحية العسكرية الأميركية من طراز شينوك التي تحطمت أثناء قيامها بمهام عسكرية في منطقة قريبة من أسعد آباد عاصمة ولاية كونار شرق أفغانستان, حيث سقطت في منطقة وعرة.
وقال محمد حنيف المتحدث باسم حركة طالبان أن الحركة أعلنت مسؤوليتها عن إسقاط المروحية الأميركية، وقالت الحركة: إنها أسقطت الطائرة بصاروخ جديد حصلت عليه قبل ثلاثة أشهر دون أن تعطي تفاصيل عنه، وأكدت الحركة كذلك أن كتائبها هاجمت مركز مديرية محمد آغا, وبعد معركة شديدة تم تحرير مركز المديرية, وقتل في المعركة 8 جنود من الشرطة الأفغانية، وأحرق مركز ومبنى المديرية وفقاً لمعطيات زودت بها الحركة وسائل الإعلام.
وإلى ذلك والمعطيات ما زالت للحركة, فجّرت عناصر تابعة لحركة طالبان سيارة لقوات إيساف في مديرية موسيي بولاية لوجر بواسطة لغم تحكم فيه عن بُعد, ما أسفر عن مقتل 4 جنود من تلك القوات، وتدمير سيارتها كاملة, كما أدى انفجار لغم وضعه طالبانيون بالقرب من سيارة تابعة لقوات الشرطة الأفغانية في منطقة بوم هديرة بمديرية نرخ بولاية ميدان شهر, وتم تفجير اللغم بآلة التحكم عن بُعد, ما أسفر عن تدمير السيارة، وقتل جميع من فيها, كما أحرقت عناصر الحركة 3 سيارات تابعة للجيش الأفغاني، وقتلت 8 من الجنود الأفغان الموالين للاحتلال.
ومنها يستشف معانٍ,, تتلخص فيما يلي:
1- الحركة صعدت نشاطها بأعلى مما كان متوقعاً في هذا الوقت من العام حيث يأتي الصيف الأفغاني مصاحباً النشاطات العسكرية, وقد تحدثت الحركة عن صاروخ جديد متطور جداً حصلت عليه، ومكنها من اصطياد الطائرة الأمريكية, وقال الناطق باسم الحركة لمجلة الأهرام العربي(13 مايو الحالي): إن الحركة حصلت على الصاروخ منذ 3 أشهر فقط, نافياً أن يكون هو صاروخ ستينجر الأمريكي المعروف، رافضاً الكشف عن ماهيته، وهذا يعني أن جهة تريد للأمريكيين مزيداً من التورط في أفغانستان هي من زودت الحركة به قد تكون الصين أو باكستان, أو ربما كان من ثمرات التعاون بين تنظيم القاعدة بفرعيه في أفغانستان والعراق.
2- بدا من تكتيك تفجير الألغام عن طريق أجهزة التحكم عن بعد, ووجود 300 طالباني في طابور يستعدون لتفجير ذواتهم في قوات الاحتلال - مثلما كشفت مصادر طالبانية لوسائل الإعلام -, والشروع في هذا النهج بالفعل بعدما نفذت الحركة 40 عملية تفجير شخصي في أعدائها خلال هذا العامº أن الحركة ماضية في التعاون الفاعل مع حركات المقاومة العراقية, ليس في الجانب العسكري فحسب بل كذلك أيديولوجياً, حيث لم تكن طالبان تحبذ سابقاً استخدام التفجير الشخصي من قبل، وهذا من دون شك ينعكس تقنياً واستراتيجياً على المقاومة الأفغانية, إذ من المفهوم أن تكون المقاومة العراقية بما استقام لها من قوة الفاعلية البارزة مع أعتى قوة عسكرية في العالم تواجه 4 أضعاف تعدادها في أفغانستان, وتناجزها القتال بأحدث الأساليب العسكرية التكتيكية في العالم، والتي هي محل دراسات استراتيجية عديدة, - مفهوم - أن ينعكس بأسها على الجانب الأفغاني الذي شهد بدوره تطوراً تقنياً وتكتيكياً ملموساً.
3- دخول حلف الناتو بهذه القوة يؤكد الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تعاني جهداً عسكرياً يفوق طاقتها في كل من العراق وأفغانستان, وفي عالم السياسية لا أحد يمنح الهدايا, وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي قد تلقى بالتأكيد ثمن تحمله عبء فاتورة الحرب في أفغانستان من الولايات المتحدة.
4- باكستان التي ضجرت من تفضيل الولايات المتحدة الأمريكية للهند عليها كحليف إقليمي, وشعرت بقدر من الضيق لانعكاس الضيم الأفغاني الرسمي والممثل إلى جوار الرئيس الأفغاني حامد قرضاي بأمراء الحرب السابقين، وهم من غير الأغلبية الباشتونية على تلك الأغلبية، وبالتالي - كما تقدم - انعكاسها على المناطق الباكستانية المتاخمة لأفغانستان والتي تضم أغلبية باشتونية بدورها، وأصبحت محل اضطرابات كادت معها تفقد الدولة سلطتها نهائياً فيها, برغم 80 ألف جندي باكستاني منتشرين على الحدود (من دون تعويض أمريكي مناسب), دعاها إلى التفكير في تقليب أوراق اللعبة من جديد رغبة في تقوية وضعها المحلي والإقليمي من جديد بعدما خفضت رأسها أمام العاصفة الأمريكية في أعقاب أحداث سبتمبر.
5- في لحظات الهزائم والشدة المعترية الحلفاء ضد أفغانستان يحدث قدر من تبادل الاتهامات يفضي إلى الاعتقاد بأن الحلفاء في حالة توتر فائق, عززته تصريحات من جميع الجهات لتقاذف كرة اللهب الطالبانية, فقد قال وزير الخارجية الأفغاني رانجين دادفار سبانتا: "إن قادة طالبان يعيشون في باكستان, ويديرون ما وصفها بالعمليات الإرهابية ضد بلاده انطلاقاً منها"، فرد وزير الداخلية الباكستاني أفتاب خان شيرباو نافياً مزاعم كابل بوجود قادة الحركة على أراضي بلاده: "إن تلك الاتهامات لا تساعد في تقوية العلاقات بين البلدين".
وقال هنري كرومبتون منسق جهود مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية: "إن الكثير من قادة القاعدة وطالبان موجودون في باكستان، وإنه ولو أن الولايات المتحدة لا تعرف أين يختبئ أسامة بن لادن فإن المرجح أنه موجود على الجانب الباكستاني من الحدود, وقال كرومبتون في إفادة صحفية بالعاصمة الأفغانية كابول: "هل فعلت باكستان ما يكفي أعتقد أن الإجابة (لا)، ليست القاعدة وحدها ولكن قادة طالبان موجودون بشكل أساسي في باكستان، والباكستانيون يعرفون ذلك".
وقال الكولونيل كريس فيرنون قائد القوات البريطانية في جنوب أفغانستان في مقابلة مع صحيفة الجادريان: "إن حركة طالبان تدير حملتها من مدينة كويتا في غرب باكستان قرب الحدود مع أفغانستان"، وأوضح الكولونيل: إن "مخططي طالبان هم في كويتا في باكستان، إنها المقر العام الرئيس"، وأضاف: "إنهم يستخدمونها لإدارة مجموعة من الشبكات في أفغانستان"، وأوضحت الصحيفة البريطانية أن الجيش الباكستاني نفى بقوة أقوال الضابط البريطاني، ونقلت عن الناطق باسم الجيش الجنرال شوكت سلطان قوله: "هذا الكلام سخيف" موضحاً "لو كانت قيادة طالبان في كويتا سيكون من الجنون عدم توقيف أعضائها، يجب أن يقدموا لنا معلومات استخباراتية مناسبة حتى نتمكن من التحرك!! هذه المشاحنة الكلامية إلام تدل؟! سوى اضطراباً وتوتراً وصداعاً طالبانياً ألم برؤوس المحتلين وأعوانهم.
6- يعاني المحتلون الآن وضعاً أسوأ كثيراً من ذاك الذي عاناه رفقاؤهم السوفييت من قبل, المشكلة هنا أن المقاومة متحالفة بقوة, وموحدة إلى حد بعيد, ومعظم فصائلها كانت في نظام واحد لم تختلف فيه من قبل أو تتقاتل ويحدث بينها ثارات مثلما هو الحال مع أمراء الحرب الأفغان السابقين, وفي مدة زمنية محدودة صدرت التصريحات متضامنة ومتعاضدة من زعماء طالبان والقاعدة والحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، الملا عمر أصدر بيانات وكذا تسعى وسائل الإعلام الغربية والعربية للحديث مع د. محمد حنيف الناطق الرسمي باسم طالبان لأخذ تفاصيل منه عبر هواتف الثريا لآخر تفاصيل المعارك, وفي القاعدة ظهر ابن لادن والظواهري ومحمد القحطاني السعودي الهارب من معتقل قاعدة باجرام الجوية الأفغانية الذي دعا المقاتلين العرب الذين قاتلوا السوفييت إلى العودة لـ"المشاركة بالنصر القادم" على حد قوله ووفقاً لمراسل الجزيرة أحمد موفق زيدان, حكمتيار كذلك أدلى بحديث وكذا القائد الطالباني المعروف وأحد أبرز القادة الميدانيين - بعد مسعود - إبان الاحتلال السوفيتي السابق مولوي جلال حقاني, والقائد العسكري للحزب الإسلامي جناح يونس خالص (سابقاً).
الثوار الجدد عادوا - على لسان حنيف - ليبشروا القيادة البريطانية الجديدة لقوات الناتو بمصير يشبه مصير أجدادهم من البريطانيين أيام الغزو البريطاني لأفغانستان في القرن قبل الماضي, ويتوعدونهم ببحور من الدماء, حين كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس, كانت هزيمتها في أفغانستان قاهرة, واليوم يصعب أن تعود ظافرة، لاسيما والنسر الجريح الأمريكي يوشك أن يعجز عن إتمام تحليقه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد