لن يجد المحللون السياسيون كثير عنت فيما لو حاولوا القيام بمقارنة بين حال أفغانستان اليوم وحالها بالأمس قبل قرون، إذ ما يجري اليوم يؤكد بالملموس أن التاريخ في بلد الجبال والأفيون يستعد ليعيد نفسه، وكلما تداعت القضية الأفغانية إلى ذهني كلما تداعى معها تاريخ المقاومة الريفية في المغرب في العشرينات من القرن الماضي ضد الاحتلال الفرنسي والإسباني، فهناك جانب كبير من التشابه بين المنطقتين، إذ يعرف الريف في المغرب أيضاً بكونه المنطقة التي تشهد أوسع انتشار لزراعات القنب الهندي، وتعرف كذلك بتضاريسها الجبلية الوعرة تماماً مثل أفغانستان، ولهذه العوامل الطبيعية - إضافة إلى جلد أبناء الريف - لم يجد الريفيون بزعامة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي صعوبات في قهر الجيشين.
إن التاريخ الحديث لأفغانستان يقدم بعض الدروس الكبرى التي لا ينبغي استبعادها في قراءة ملامح اللحظة الراهنة، ففيها غرقت كبرى الإمبراطوريات الحديثة، وكان احتلال أفغانستان تمهيداً لسيناريو الزوال بالنسبة لتلك الإمبراطوريات، قد يكون هذا الأمر مستغرباً بالنسبة لبلاد نائية تقع على هامش الحركة السياسية العالمية التي كانت تتمركز باستمرار - فيما يتعلق بالقوى الغربية - في المنطقة العربية والشرق الأوسط، ولكن حقائق الجغرافيا كثيراً ما تخدع المحللين، وتلعب دوراً في ترسيم حقائق التاريخ، في البداية حاولت بريطانيا العظمى - الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بتسمية تلك الفترة - غزو البلاد بدعوى دمجها في "الحضارة" كما كانت تروج وسائل الإعلام البريطانية وقتها، لكن المقاومة الداخلية كانت تقف لها بالمرصاد، وانتهت الإمبراطورية هناك بين الجبال، وانزاحت عن واجهة المسرح الدولي لتترك مكانها للولايات المتحدة الأمريكية بعيد الحرب العالمية الثانية، وفي نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي حاولت الإمبراطورية السوفييتية دخول أفغانستان بدعوى نشر الشيوعية، ونصبت رئيساً عميلاً لموسكو هو بابراك كمال، ولقي السوفييت هناك مصير البريطانيين قبلهم بين الجبال، وفي المرتين معاً كان التفوق العسكري يميل دائماً لصالح الغازي الأجنبي، ولكن التلاقح بين إرادة المقاومة والسلاح التقليدي وبين التضاريس الأليفة كان الأقوى، والمرة الثالثة كانت مع الاحتلال الأمريكي عام 2001 بدعوى محاربة الإرهاب، وها هي أخيراً تقرر الانزواء إلى الخلف بعد تكبدها خسائر جسيمة لم تكن متوقعة، وبعد تنصيب حامد كرزاي - الذي يرى فيه الكثيرون عناصر من شخصية بابراك كمال - لتحل محلها قوات حلف الناتو.
التحدي أمام الحلف:
يوم الجمعة الماضية أقر سفراء حلف شمال الأطلسي "الناتو" نقل مهام القيادة العسكرية في أفغانستان من قوات الائتلاف بزعامة الولايات المتحدة إلى قيادة الحلف في الجنوب، وبموجب القرار سيصبح لحلف شمال الأطلسي وجود على ثلاثة أرباع الأراضي الأفغانية مع انتشار نحو 18 ألفاً من جنوده تابعين لست وعشرين دولة من الدول الأعضاء في الحلف تحت قيادة الجنرال البريطاني ديفيد ريتشاردز الذي أعلن قبل يومين أنه يحتاج مهملة ثلاثة إلى ستة أشهر لمعرفة ما إذا كان التكتيك الجديد الذي ينوي الحلف اتباعه في أفغانستان قادراً على تحقيق النتائج المنشودة.
لكن أكثر المراقبين تفاؤلاً للوضع الأفغاني لا يرون في الأفق نجاحاً محتملاً للحلف في تحقيق نفس الأهداف التي أخفقت فيها الولايات المتحدة من قبل، ففي الفترات الأخيرة كثف مقاتلو حركة طالبان من هجماتهم التي استهدفت قوات الاحتلال، ناسفين بذلك التأكيدات الأمريكية التي كانت تقول: بأن الحركة انتهت أو أنها بدأت تختفي، لكن تلك الهجمات كذبت تلك الشائعات، وأوضحت أن الحركة التي تعرف جيداً مزاج وطبيعة أفغانستان والأفغانيين، والتوازنات القبلية ودورها في مقاتلة المحتلين، كانت فقط تستعد لإعادة الكرة بشكل أكثر قوة وحماس وتأثيراً.
قوات الحلف ستأخذ مواقعها في ست ولايات جنوبية من البلاد، والتي تشهد هي الأخرى تحركات عسكرية مكثفة لقوات طالبان، ما يعني أن هذا أول تحد لتلك القوات التي كانت من قبل متمركزة في الوسط، وتحديداً في العاصمة كابول التي تشهد أمناً نسبياً في الوقت الراهن، وقد استبقت قوات طالبان انتشار قوات الحلف، واجتماع قندهار بتحركات عسكرية ومواجهات مع عناصر القوات الأمريكية في الشرق، حيث سيبقى للأمريكيين دور أمني هناك مؤقتاً قبل نشر حلف الناتو قواته به.
وإذا كانت قوات التحالف الدولي تحت مظلة الأمريكيين قد فشلت طيلة السنوات الماضية منذ العام 2001 في تثبيت الأمن ونشر الديمقراطية - كما تزعم واشنطن -، ونشر سلطة الدولة خارج كابول حيث هي متمركزة، والقضاء على ما تسميه بميليشيا الإرهابيين، فليس من المؤكد أن تنجح قوات حلف الناتو في تلك المهمات اليوم أمام صلابة المقاومة وانفتاح أكثر من جبهة في مواجهة الاحتلال، خاصة وأن الظروف المعيشية للسكان وفقدان الأمن بات يهدد سلطة كرزاي نفسه الذي بدأ الناس يرون فيه عبئاً ثقيلاً على الأفغان أكثر مما هو "رسول سلام" مبعوث من واشنطن، وسوف تعمل حالات الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي والحالة الأمنية لفائدة المقاومة في مستقبل الأيام، ليبقى السؤال المطروح للمرحلة المقبلة هو: هل تتحول أفغانستان إلى مقبرة للتحالف الدولي، وهذه المرة تحت راية الناتو؟
ومن المؤكد أن فشل الحلف في إتمام المهام التي جاء من أجلها سوف يعيدنا إلى الاستنتاج الذي بدأنا به هذا المقال القصير، فإذا كان انتشار قوات الحلف هو أول تحد أمني نوعي له في المنطقة فإنه يعد في ذات الوقت التحدي الثالث للأفغان بعد التحدي البريطاني، ثم التحدي السوفييتي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد