العلمانية تصرع الكاثوليكية في أوروبا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هل يعيد التاريخ نفسه ولكن في الاتجاه المضاد؟

لعله، فالويلات التي عانتها العلمانية على يد الكنيسة الكاثوليكية في مطلع العصور الوسطى يبدو أنها تجرعها للكنيسة الآن بما في ذلك محاكم التفتيش نفسها، فقد اشتكى الكرسي الرسولي ممثل الكاثوليكية العالمية مما وصفه بـ'العلمانية المتشددة'، والتي قال: إنها صارت تطرد الكنيسة من الحياة العامة في أوروبا، وقد وصل الكرادلة إلى حد الشكوى مما وصفوه بأنه محاكم تفتيش جديدة تشهدها القارة الأوروبية، ولكن ضد الكاثوليكية هذه المرة.

ويشير رجال الدين المسيحيون إلى سياسات من قبيل الحظر الفرنسي على الرموز الدينية البارزة في المدارس، ورفض الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى الله في الدستور الأوروبي المقترح، فضلاً عن مقترحات أسبانيا بتشريع الزواج المثلي، ويقول الكاردينال مارتينو الذي يرأس المجلس البابوي للعدل والسلام لبرنامج بهيئة الإذاعة الخارجية للبي بي سي: ' شهدت الكنيسة خلال ألفي عام من تاريخها توجهات من هذا القبيل صعوداً وهبوطاً، والآن صار هناك توجه لإقصاء الكاثوليك الذين يتم الدفع بهم فيما يشبه الجيتو'.

 

مسألة بوتيليوني:

وفي إنجلترا وويلز أصدرت الكنيسة الكاثوليكية منشوراً قبل الانتخابات الأوروبية قالت فيه: "إنه يجب على الناخبين أن يهتدوا بالتعليم الديني حينما يصوتون"، وقال الكاردينال مارتينو: 'هناك أمور متفق عليها من جانب السياسيين والمؤمنين، ويجب أن يكون للكنيسة صوت'.

وينظر البعض في الفاتيكان إلى حالة روكو بوتيليوني - وهو صديق مقرب للبابا السابق - على أنها من أبرز الحالات على تغلب الفكر العلماني فوق الاعتبارات المسيحية، فقد سمت إيطاليا بوتيليوني ليتولى منصب مفوض الاتحاد الأوروبي للعدل وللشؤون الداخلية، غير أن نواب الاتحاد الأوروبي رفضوا ترشيحه بعد أن وصف الجنسية المثلية بأنها 'خطيئة'، وقال بوتيليوني لبرنامج' أساينمنت بالبي بي سي' إنه شعر أنه تم إقصاؤه 'بسبب معتقداتي الدينية'، وقال: 'في ظل نظام حكم ليبرالي يتم تقييم الخط السياسي والفكر السياسي لمرشح ما، ولكن لا يتم فرض محكمة تفتيش أو شرطة تفرض على المرشح ما يخالف ضميره'، 'هذا هو ما فُعل ضدي في ساحة البرلمان الأوروبي'.

ووصف بوتيليوني موقف نواب البرلمان الأوروبي بأنه 'انتهاك للفصل الليبرالي التقليدي بين العام والخاص'، وليست هذه المرة الأولى التي يعرب فيها الفاتيكان عن قلقه إزاء تأثير العلمانية في أوروبا، ففي عام 1870 وبعد فقدان الدول البابوية صار لدى الفاتيكان - الذي انحسر سياسياً في المدينة الدولة الصغيرة - توجه متشكك إزاء الحكام العلمانيين، وقال البابا بيوس الخامس: إن 'الله ُطرد من الحياة العامة بالفصل بين الكنيسة والدولة'.

ولكن فرانكو بافونشيللو خبير العلوم السياسية بجامعة جون كابوت بروما يبدي اندهاشاً من مخاوف الفاتيكان بأن أوروبا العلمانية والكنيسة الكاثوليكية صارا على نهج تصادمي، إذ يقول: 'إذا كان من قاسم مشترك في أوروبا فهو الدين الواحد، فهذه قارة اصطبغت منذ وقت طويل بمسيحيتها'، غير أن بافونشيللو يعتقد أن بعض الأوروبيين ربما 'عادوا إلى قيم مسيحية أكثر تشدداً' بسبب تأثير الإسلام.

وقد حث البابا الأساقفة الأسبان على الدفاع عن القيم التقليدية، معارضين الإصلاحات التي يسعى الحزب الاشتراكي الحاكم لإدخالها، وهي التي تشمل تشريع الزواج المثلي الذي تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأسبان يؤيدونه، فضلاً عن تدريس فكرة الدين بشكل عام في المدارس دون التركيز على المسيحية وحدها.

 

'التكيف دون اندثار':

ولكن الفاتيكان يقول: إن هذا البرنامج يهدف إلى 'تعزيز احتقار الدين أو الجهل به'، غير أن وزير العدل الأسباني خوان فرناندو لوبيز أجويلار يصر على 'إننا نقوم بوظيفتنا فحسب، فنحن محاسبون أمام المواطنين، وليس أمام الكنيسة الكاثوليكية'، ويضيف 'هذا مجتمع علماني، نحن مستعدون لاحترام كافة الحريات الدينية في أسبانيا، ولكننا مستعدون أيضاً لتعزيز مبادرتنا التشريعية، والقيام بواجباتنا'، ويقول أجويلار إن الكنيسة الكاثوليكية 'جاهرت وبقوة' بتصريحاتها بأن استخدام الواقي الذكري، وممارسة الجنس قبل الزواج 'خطيئة'، ويضيف 'وبالنظر إلى اعتبارات من هذا القبيل من الصعب جداً إتاحة الفرصة لحل وسط'.

ولكن الآب فيفاس سوتو من مجموعة منتدى الأسرة الأسبانية يقول: إن مقترحات الحكومة 'لا تؤثر في الكنيسة فحسب بل تؤثر في المجتمع بأكمله'، ويضيف 'حينما يتم تناسي كرامة الحياة البشرية، ويتم تشجيع الإجهاض، حينما يتم الحط من قدر الزواج وما يحمله من ثراءº فإن مكوناً أساسياً من المجتمع يتم تقويضه'.

وفي وسائل الإعلام الأسبانية جاءت ردود الأفعال على تصريحات الفاتيكان مختلطة، فقد اتهمت صحيفة إلبايس اليومية البابا بإثارة 'توترات سخيفة' غير أن الموندو حثت الجانبين على 'الهدوء'.

وتقول الكاتبة كاياتانا ألفوريز ديتوليدو، وهي من الكتاب البارزين بالموندو 'إن فحوى الرسالة [الحكومية] هي أن الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة عتيقة، ورجعية تماماً، وترتبط بحقبة فرانكو، وبالحقبة المظلمة لمحاكم التفتيش في تاريخ أسبانيا'، وتضيف 'غير أن هذا بالطبع ليس صحيحاً تماماً، فأمام الفاتيكان معضلة عويصة يتعين حلها وهي: كيفية مواكبة الحداثة، وفي الوقت ذاته عدم فقدان مبدأ أخلاقي أساسي، إذ عليه التكيف دون اندثار'.

انتقدت الكنيسة الكاثوليكية خطط الحكومة الأسبانية للموافقة على زواج المثليين، وقارنت ذلك بإطلاق فيروس في المجتمع، وتقول الحكومة إنها تتوقع أن يكون بوسع المثليين الزواج بشكل رسمي في العام القادم، ويؤكد مشروع القانون التراجع الكبير في نفوذ وسلطة الكنيسة في أوروبا الغربية، والوضع كذلك بالأخص في أسبانيا التي كانت حتى وقت قريب واحدة من أكثر الدول الأوروبية إخلاصاً لمبادئ الكنيسة الكاثوليكية.

 

'عملة مزيفة':

وأثار مشروع القانون الذي يتيح زواج المثليين المتوقع أن توافق عليه الحكومة الاسبانية هذا الأسبوع ردود فعل حادة من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، ووصف متحدث باسم الكنيسة زواج المثليين بأنه مثل العملة المزيفة.

وقال خوان انطونيو مارتينيز كامينو إن القانون 'سيفرض فيروساً على المجتمع، وشيئاً زائفاً ستكون له عواقب سلبية على الحياة الاجتماعية'، وكان رئيس الوزراء الاشتراكي خوسيه لويس رودريجيز ثاباتيرو قد تولى منصبه في إبريل نيسان الماضي، وعقد العزم على إلغاء ما وصفه بالمميزات التي تحظى بها الكنيسة، وخلق دولة علمانية عن طريق تخفيف القوانين الخاصة بالطلاق والإجهاض، وأثارت هذه التغييرات غضب الكنيسة التي تراجع تأثيرها على الأسبان بدرجة كبيرة منذ وفاة الجنرال الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو عام 1975، وكان نظام فرانكو تربطه علاقات قوية بالكنيسة، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو نصف الأسبان لا يحضرون القداس والصلوات في الكنائس مطلقاً الآن.

والخلاصة أنه يمكن القول أن هذا الذي يحدث للكنيسة الكاثوليكية على يد العلمانية ليفسر إلى حد كبير حالة الترقب والحذر التي يليها الغربيون تجاه الإسلام، حيث يقر منظروهم أنه الدين الوحيد المستعصي على التراجع أمام العلمانية، بل ويتقدم بقوة كل يوم داخل الغرب نفسه برغم كل المؤثرات المضادة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply