الأكذوبة العلمانية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

تروّج الدعاية العلمانية لعملية الفصل التام بين الدين والدولة أو الدين والقانون أو الدين والحكم أو الدين والسياسة أو الدين وأي مجال آخر من مجالات المجتمع [العلم، التعليم، الثقافة، الفن، السلوكيات] وكأن هذا الفصل والإقصاء سوف يحل كل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات [أياً كانت تلك المشكلات] وسوف يحقق النهضة والتقدم والرخاء. وهذا الشعار العلماني الموجز الذي رفع [العلمانية هي الحل] في مواجهة شعار الإسلام هو الحل يضم بين ثناياه أكاذيب عديدة لا يجرؤ العلمانيون على مناقشتها والسماح بفضحها تماماً كما يتهمون هم شعار الإسلام بالتهافت والغموض وانعدام المعنى. ولا يكاد المحلل يجد نهاية لأوجه التخبط في هذا الطرح العلماني. ولعل أبرزها هو الفصل المدعو إليه بين الدين والدولة. فأصل هذا الشعار في أوروبا، حيث مهد العلمانية، هو الفصل بين الكنيسة والدولة داخل الدولة القومية الأوروبية وهي في ذلك الوقت دولة مسيحية ليس فقط بحكم الأغلبية شبه التامة من السكان ولكن كذلك بحكم إيمان جزء كبير من تلك الغالبية بالعقيدة المسيحية وهو ما أخذ يتآكل إلى درجات بعيدة بعد تمكن العلمانية. ومفهوم الكنيسة كذلك في هذه المقولة العلمانية الأشهر يحتاج إلى توكيد عند مناقشة المقولة. فهي أولاً المؤسسة الدينية المسيحية الحقيقية التي لا يوجد لها نظير في الإسلام أو بالأصح في التاريخ والممارسة الإسلامية. وهي في التاريخ الأوروبي والغربي الحديث مؤسسة تعددت ما بين كاثوليكية بروتستانتية ثم عدة كنائس بروتستانتية ثم وفرة من الكنائس البروتستانتية في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية أو أرثوذكسية ذات عدة تنظيمات في شرق أوروبا.

والكنيسة والكهنوت ذات وضع أصيل في الدين والعقيدة المسيحية على تعدد مذاهبها. فلا غنى للمسيحي عنها إن أراد أن يقيم أركان دينه حتى لو كان من البروتستانت الذين يتعاملون مع الكتاب المقدّس تعاملاً مباشراً بدون وساطة تفسير الكاهن والكنيسة ذلك لأن إقامة الأسرار الدينية من تعميد وزواج واعتراف [وهو غير موجود في العديد من الكنائس البروتستانتية] ودفن تتطلب القس، والأهم من ذلك وبصرف النظر عن الأسرار والطقوس ووساطة الكاهن أو تفسيرات للكتب المقدسة والتعاليم الدينية فإن الكنيسة تعتبر بمثابة التجسيد الحي الذي لا بديل عنه للعقيدة والدين والأمة والمجتمع المسيحي أيا كان مذهبه. وهي التجسيد المادي المؤسس لهذا الواقع مدعومة بقاعدة مادية مؤسسية مجتمعية من الأبنية والهيئات والتنظيم الهرمي للكهنوت. وهذه النقطة الأخيرة من مادية ومؤسسية الوجود الكنسي حاسمة في الموضوع بأسره.

فعندما قيل بالفصل بين الكنيسة والدولة كانت هناك ثلاثة عناصر متضمنة في هذه الفكرة. العنصر الأول وهو الأخف كان يعي حقيقة وجود عدة كنائس [كاثوليكية وبروتستانتية] تعمل على الساحة الأوروبية في وقت ظهور الفكرة العلمانية ورأى ضرورة أن لا تتحكم واحدة منها في صياغة القانون والنظم القانونية والتعليمية في داخل الدولة القوية الواحدة لا سيما وأنها كانت مشتبكة في صراعات دموية للحياة أو الموت على كل المستويات. وعند هذا المستوى لم يكن المطلوب هو إبعاد الدين عن الدولة بل إبعاد سيطرة مذهب ديني واحد أو معين على النشاطات الكبرى لتلك الدولة لاسيما في ظل وجود مذاهب مسيحية أخرى. ولم يمنع هذا من وجود الكنيسة مهيمنة على الدولة حيث وجدت وحدة المذهب لاسيما في الدول البروتستانتية [إنجلترا مثلاً أو المملكة المتحدة حيث فرضت وحدة المذهب بالقوة والتطهير الديني وقرار الدولة في ضحى عصر النهضة والحداثة الأوروبية على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر]. والعنصر الثاني، وهو الأشد نسبياً، فلم يكن يعني أيضاً وبالضرورة استبعاد وإقصاء الدين نفسه عن الحياة بل كان يعني فقط قراراً تنظيمياً لصالح مؤسسة الدولة القوية [الملكية أو البرجوازية] في مواجهة مؤسسة مجتمعية قوية أخرى هي الكنيسة [لاسيما الكاثوليكية] الأقوى تنظيماً والأعمق رسوخاً، وفي هذه الحالة كان العداء والدعوة للإقصاء ينطلقان من دافع السلطة القوية أو الدنيوية إلى الانفراد بالحكم بعيداً عن تأثيرات السلطة الكهنوتية الكاثوليكية أكثر من دافع العداء للدين في حد ذاته ومن رؤية تقول بأن التعصب الكنسي وعدم وجود أي شريعة أو قانون ديني مسيحي شامل [برنامج بلغة العصر] يفرض على الكنيسة أن تقبع داخل النطاق الديني الذي حدده الدين نفسه لها ولا تدخل إلى النطاق الزمني أو الدنيوي أو 'العلماني [بمعنى العالم الحالي وليس الأخروي]. ويمكن القول إن هذا العنصر من المقولة العلمانية هو دعوة لتطبيق المسيحية على الحياة وليس إقصاءاً لها لأن المسيحية نفسها تقيم هذا التوزيع للمتخصصات. أما العنصر الثالث لفصل الكنيسة عن الدولة فكان يستهدف بالفعل الدين نفسه ويتحدث عن الكنيسة باعتبارها الممثل الشرعي المعلن والوحيد للدين [المسيحي]، وبالطبع كان هذا التيار متأثراً بتراكم الفكر الناقد والمعادي للمسيحية بعقيدتها وكتابها المقدس وتعاليم كنيستها وممارساتها هي التي احتكرت حتى تمثيل المسيحية والتحدث باسمها كما كان متأثراً بأفكار عصر النهضة وإحياء الفلسفة اليونانية وأفكار عصر التنوير. ومفاهيم الفردية والعقل...الخ البرجوازية الصاعدة.لكن النقطة الحاسمة في هذا الصدد وهي التي تعيدنا إلى تضليل الدعاية العلمانية في العالم العربي هي أن تنحية الدين وإقصاءه عن الدولة أو حتى عن مجالات عديدة في المجتمع لم تؤد بالفعل إلى نهايته وانقراضه وموته وغيابه التام عن الحياة الاجتماعية لأن الكنيسة بحكم وجودها المادي والمؤسسي ظلت هي الكيان المادي الذي يحتويه ويحتضنه ويمهد لعودته عندما تتغير الأمور وتهدأ الموجة العلمانية العالية.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply