كيف تتعامل العلمانية مع الأوقاف الإسلامية ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كانت الأوقاف الإسلامية ومازالت دليلاً على حيوية الإسلام واستعصائه على التغييب والاندثار، فأموال الوقف هي التي تحافظ على استمرار الإسلام: رابطاً ومثَقِّفاً، ودافعاً، ومحرضاً على النهوض والتخلص من أسباب الجهل والضعف والركود.

 

إن المحن والبلايا والتحديات التي واجهها الإسلام كافية لتحييد - إن لم نقل استئصال - أشد المبادىء مراساً، وأعصاها على المقاومة. وقد كانت الأوقاف هي التي تغذي المؤسسات الإسلامية والمعاهد والمدارس التي تسهر على نشر المعرفة الإسلامية، كل ذلك في ظل الظروف الصعبةº من ظلم الحكام، وتسلط المستعمرين، وتواكل وتقاعس الجماهير، وضعف إحساسها بالمسؤولية.

 

وقد ظلت الأوقاف الإسلامية مستقلة عن تدخل الحكام، تدار من قبل هيئات أهلية، أو من علماء وأوصياء، عليهم رقابة أهلية، ويخضعون لنظام الحسبة الشرعية. ومع ما كان يكتنف هذا النظام من عيوب، بسبب الطمع البشري المفهومº إلا إنه كان له الفضل في الإنفاق على العلماء ومدارسهم، إلى أن اعتراه الهرم بكثرة العيوب الطارئة، فلم يشعر المسلمون إلا والقوى الاستعمارية قد طوقتهم، وبدأت تقتطع من بلادهم ما تعيده إلى سيطرة الصليبية أو القومية المعادية للإسلام. ثم غزتـهم في عقر دارهم، وفرضت عليهم ما لا يريدون، وبدأت بتجريدهم من عناصر القوة والحيوية.

 

وقد آذنت سلطة العلماء بالتراجع السريع حين بدأ سلاطين آل عثمان المتأخرون ما سمي بحركة إصلاح الدولة و"تحديثها"، فوضعوا حداً لسلطة المشيخة الإسلامية، وازداد هذا التراجع الذي أصبح مقنناً منذ عصر التنظيمات في عهد عبد المجيد ومن بعده.

 

على أن الحاكم الذي كان له أبعد الآثار في الحد من سلطة العلماء وهيبتهم في أي مجتمع مسلم في العصر الحديث هو محمد علي حاكم مصر. وتكمن أهمية محمد علي في هذا المجال في أن كل من جاؤوا بعده كانوا عيالاً على الطرق التي اتبعها، وكان قدوتـهم الذي ساروا على أثره. صحيح أن محمد علي كان أمياً، ولكنه كان يتمتع بذكاء فطري ويعرف ما يريد، وقد حدد وجهته تحديداً حاسماً، واستعان على تحقيق غاياته في الحكم والتسلط بقناصل الدول الأوروبية يستخدمهم لأغراضه القريبة، ويستخدمونه لأغراضهم البعيدة.

 

وتمثلت طريقة محمد علي بمصادرة أموال الأوقاف جميعها، وتملكها من قبله وقبل أولاده وأحفاده، ومعاقبة من يعترض على أساليبه الخبيثة من العلماء بالقتل أو بالسجن والتشريد، كما فعل مع كثير ممن عضده منهم وناصره ضد المماليك، حيث قلب لهم ظهر المجن، وتركهم إما طعمة للتحسر والندمº وإما أفراداً مجردين من كل قوة وتأثير، ينتظرون ما يجود به عليهم من فتات لا يكاد يقوم بالأوَد. ونستطيع أن نقول: إن محمد علي هو أنجح من نفذ سياسة"تجفيف المنابع"التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام.

 

يقول الشيخ محمد عبده واصفاً ما فعله محمد علي في هذا المجال:"... نعم، أخذ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد يسمى"فائض رزنامة"لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة. وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخلع أو إجلاسهم على الموائد، لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك. وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه."[آثار محمد علي في مصر/مجلة المنار: المجلد 5/ج 5/ص 175].

وقد سار على هذه السنة في العلماء أولاده وأحفاده حكام مصر من بعده دون شذوذ. وعمل هذا العهد الطويل (1905-1952) الذي امتد قريباً من قرن ونصف على صناعة أجيال من طراز معين من العلماء، يمكن أن نصفه بأنه يعتمد اعتماداً كلياً في عيشه على ما تنفحه به هذه الدولة ذات الحكم العسكري المتغوِّل، وينفذ ما تريده الدولة باستكانة وخضوع غريب عن سلوك العلماء العاملين في التاريخ الإسلامي[1]. ولذلك حينما قام جمال عبد الناصر وجماعته بانقلابـهم على الحكم الملكي، وغيروا في مصر ما غيرواº ساروا على سنة محمد علي في العلماء والمؤسسات الإسلامية، وتلقت هذه المؤسسات وهؤلاء العلماء ما جادت به ماكينة عبد الناصر الإعلامية بالإذعان – إن لم نقل بالقبول – ولم يشذ عن هذا الإذعان إلا القليل النادر الذي لا يكاد يحس به.

 

يتكرر هذا المثال في كل بلد مسلم تقريباً: في الشام، والعراق، والمغرب العربي، على اختلاف في الأساليب لا يؤثر في النتيجة، وهي العمل على تجريد العلماء من الهيبة والقوة، وليس جعلهم طبقة فاقدة التأثير فقطº بل ومنبوذة.

 

يجب أن لا نفصل بين دور هؤلاء الحكام تجاه العلماءº وبين الظرف الذي وجدوا فيه، فقد ينـزلق كثير من الدارسين إلى جدل عقيم وهو: هل كان هؤلاء الحكام المبدوؤون بسيء الذكر: محمد علي، من الحنكة والدهاء وخبث الطوية بالقدر الذي يجعلهم ينجحون في مسعاهم هذا في ضرب دور العلماء في المجتمعات الإسلامية، وفي الإجماع الذي لا يشذ عنه أحد؟ وهل كانت ظروف العلماء من السوء بالقدر الذي يستدعي هذا الإجماع من هؤلاء الحكام الساعين إلى إصلاح وتحديث مجتمعاتـهم على تحجيم دورهم؟ أم أن هؤلاء الحكام كانوا مجرد خدم وعملاء ومنفذين لرغبات القوى الاستعمارية؟ وهنا يكثر الكلام في تعداد مزايا هذا الحاكم أو ذاك، وفي إخلاصه وتحرقه على السير برعاياه نحو النهوض، وذلك للرد على من يأتي بالأدلة على عمالة هؤلاء الحكام وخدمتهم للأجانب، فتضيع المسألة الجوهرية التي انطلق منها الجدل، ونتيه في بُنَيَّاتِ الطرق يميناً ويساراً. هذه هي أجواء الجدل الدائر بين فئتين تؤلفان المجتمعات الإسلامية:

 

فئة تدعو لتحديث المجتمع، واللحاق بالأمم القوية، والخروج من حالة الضعف والفوضى التي تعيشها هذه المجتمعات.

 

وفئة أخرى تدعو إلى الخروج من هذا الواقع، لكن ليس بأي ثمن، ولا بأي وسيلة، بل تطلب التريث والنظر حول مواطىء الأقدام، حتى لا ننتقل من واقع سيء إلى واقع أسوأ – كما هو شأننا اليوم. وفي خضم هذه المعركة نرى من يدافع عن أمثال محمد علي، وكمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، وبو رقيبة بدون تحفظ، ومن يخونـهم بدون توقف، وأنـهم ما كانوا ليفعلوا ما فعلوا إلا خدمة للأجانب.

 

ليس من شأني هنا أن أنزلق إلى مسألة التخوين والتوثيق والتزكية المطلقة، أو الإسقاط الكامل من الحسابº بل أريد أن أتتبع أسباب ما آل إليه حال العلماء والمشايخ في المجتمع، فالثابت أن محمد علي ومن بعده – بعد أن تمكنوا وهيمنوا – لم يكونوا يقيمون للعلماء أي اعتبار، ولم يتوانوا في العمل على تـهميشهم وجعلهم أداة لحكمهم الظالم، وكونـهم فعلوا ذلك بمفردهم أو بمساعدة الغرب وقناصله وجواسيسه خارج عن دائرة النقاش والاهتمام الآن. ولماذا فعلوا ذلك، وما نياتـهم من ورائه مسألة أخرى أيضاً. كل الذي يعنينا هنا هو أن هذا الوضع المزري الشاذ الذي نرى علماء المسلمين فيه لم يكن ليكون لولا جهود الحكام وخططهم التي لم تـهدأ ولا تـهدأ في هذا السبيل.

 

هناك ملحوظة جانبية نرى أن الإشارة إليها مهمة، وهي أن هيمنة أنظمة الحكم على أوقاف المسلمين التي كانت تغذي الجهاز الذي يعمل على استمرارية إحساس المسلمين بالإسلام وإبقائه حياً في نفوس أهله كانت من نصيب الأوقاف التي تخص السواد الأعظم من المسلمين، وهم أهل السنة. أما أوقاف غيرهم في المجتمعات الإسلامية فلم تمس. انظر مثلاً أملاك الكنائس، لا يجرؤ أحد على مجرد الحديث عنها فضلاً عن المساس بـها. وأمامنا مثال صارخ وهو لبنان، فقد تحول النصارى فيه - بسبب الدعم الاستعماري الخارجي، وغفلة المسلمين - من طائفة فقيرة كانت تعمل في خدمة إقطاعيي الدروز وأهل السنة، إلى الطائفة الأولى هناك غنى ونفوذاً خلال قرنين أو ثلاثة، حيث أفاق أصحاب هذه الإقطاعات ليروا أن خدمهم الموارنة هؤلاء قد سحبوا البساط من تحت أرجلهم، وأصبح هذا البساط (أي الأرض) وقفاً باسم الكنيسة المارونية!

 

وانظر أيضاً إلى أوقاف الشيعة الإمامية في العراق وإيران، تراها مستقلة لا يستطيع أحد من جانب السلطات أن يتلاعب بـها، كما هو حال أوقاف أهل السنة في كل مكان. إن كل (آية) من آياتـهم! وكل مرجع من مراجعهم يعتبر وزارة أوقاف مستقلة بذاتـها! ولا أحد يجرؤ على التعرض لما يملك، ويديرون مؤسساتـهم ويصطنعون النفوذ والتأثير في العالم، ولا أحد يشتكي أو يشك فيما يفعلون، ولم نسمع أحداً قال: أمموا أو جمدوا أموال الخوئي، والقزويني، والكاشاني، والكرماني، والشيرازي، والسيستاني، والحائري، والحكيم، والصدر، وفضل الله، وغيرهم وغيرهم[2]. حتى أموال حزب الله التي طالبت أمريكا الحكومة اللبنانية بضبطها ومراقبتها، فإننا نعتقد أن هذه المطالبة مجرد ذر للرماد في العيون، وإلا فإن هذا الحزب ومنذ أوائل الثمانينيات يمارس أعماله ونشاطاته علناً وتحت الشمس، بما يعرفه الجاهل والعالم، وينفق النفقات التي تعجز عنها الدول الغنية، وبما لا يخفى على أمريكا وغيرها ممن هم معنيون بمراقبة نشاط المسلمين. لكن الدعاية السوداء والمبالغة وتخويف العالم لا يتجه إلا إلى أموال أهل السنة، سواء على مستوى الجمعيات والهيئات، أو الأفراد.

 

حين سيطرت الأنظمة والحكومات على أوقاف المسلمينº تلاعبت هذه الأنظمة بالأوقاف وصاية وإنفاقاً، فمن جهة الوصاية عينت لذلك وزيراً، وهذا الوزير لا بد أن يكون خاضعاً لما يمليه النظام العلماني اللاديني، وهو مسؤول أمام رئيس الوزراء الذي يبعد أن يكون له دور فاعل في توجيه المجتمع، وإنما هو مجرد منفذ لرغبات الحاكم الفرد المتأله، وحتى لو كان هذا الوزير شخصاً معمماً، أو ذا زي إسلامي، أو منتقى من مؤسسة إسلاميةº فهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً، فهو منفذ لسياسة الدولة العلمانية ولا يكون وزيراً إلا إذا حاز ثقة هذا النظام اللاديني.

 

وأما الإنفاقº فإن أموال الأوقاف كثيراً ما تسخر لخدمة مؤسسات النظام العلماني أيضاً، وما ينفق على الدعوة الإسلامية والخدمات الشرعية قليل جداً إذا قورن بغيره، ولا يوفر حداً أدنى من الحياة الكريمة لمن يعمل في حقل الدعوة والوعظ والإرشاد، أعني الأئمة والخطباء ومدرسي العلوم الشرعية. وهذه الفئة واقعة بين حجري رحى اجتماعية غريبة جداً في المجتمعات الإسلامية، فمن جهة لا تسمح الدول لهذه الطبقة بأن تندرج تحت سلم الوظائف المدنية الذي تعامل به الموظفين في مختلف الوزارات والمؤسسات، فكأنـهم لاجئون من كوكب آخر لا حق لهم مثل غيرهم، وكانوا يعاملون على حسب ما كان معروفاً بقانون العمل، أي ما يعرف (بالمياومة) مثلهم مثل أي شخص يعمل عملاً مؤقتاً، حتى إذا انتهى العمل انقطع الأجر، وجلس العامل بطالاً ينتظر أن تأتيه فرصة من قبل أحد يطلبه لتادية عمل بأجرة يومية تنقطع بانتهاء ذلك العمل وهكذا..وليس له حق في تقاعد أو امتيازات مهما كانت، بل يستمر قائماً بالإمامة أو الخطابة أو الأذان حتى يموت.

 

والذي يوكل إليه تنفيذ هذا النظام الغريب غير العادل على العلماء هو وزارة الأوقاف. فهذه الوزارة تتجلى فيها الازدواجية المقيتة بشكل صارخ. والغريب أن لا يحس به إلا القليل ممن يعنيهم أمره، فالجهاز الوظيفي الذي يسير دوائر الأوقاف جهاز مدني مثل أي وزارة أخرى، ويعامل وظيفياً ومالياً كذلك، إلا ما له علاقة بوظائف المشايخ والعلماء فيكون هناك حساب آخر، وهو التضييق والتقتير. وفي هذا الجو التضييقي التقتيري وعلى هامشه وحوافِّه ينشأ العلماء، ويعيشون، ويتنافسون، ويتحالفون، وتدور خصوماتـهم وحروبـهم، وتستنـزف طاقاتـهم، فتسوء سمعتهم، ويقل تأثيرهم، ويضعف ما ترجوه الأمة منهم.

 

إن واقع العلماء هو نتيجة لا بد منها لما يضطرون إليه في سبيل لقمة العيش، حيث نرى أن الحكومات في بلادنا قد اهتمت بكل فئات المجتمع، ونظمت أعمالها، وكفلت لها حداً أدنى من العيش الكريم، إلا طبقة العلماء، حيث لم تكتف بإهمالها والنظر إلى دورها باستصغار واستهانةº بل إنـها جردتـها من حقها الذي خصص أول ما خصص لها وحدها، لتقوم بمهمتها خير قيام، بعيداً عن ذل الحاجة، وإراقة ماء الوجه، واللجوء إلى النفاق والتملق، والتدخل من أي طامع أو ظالم، فوضعت يدها على مال الأوقاف، وأنفقته في الوجوه التي لم يخصص لها، وعبثت به عبثاً لا يزال ينتظر من يدرسه ويكشف أبعاده وأساليبه.

 

لقد تنوعت أساليب العبث بأموال الوقف حسب نظام الحكم السائد في كل قطر، كنصب غير ذوي الأمانة قيمين وأوصياء عليه، والإنفاق منه على المرافق المحرمة، وتلاعب الدولة بتأجيره أو استثماره من إدارات أخرى، ومنح عقاراته لشراء المحاسيب والأنصار، وإخضاعه للقوانين المستوردة وجعلها حاكمة عليه، كقوانين ما يسمى بالإصلاح الزراعي والتأميم، والتصرف به على غير شرط الواقف...إلخ. والعجيب أن هذا العبث لا يصيب إلا الأوقاف الإسلامية وأوقاف أهل السنة بالذات، كما قدمنا..

 

ـــــــــــــــ

[1] - قد يعترض معترض بذكر أمثلة لعلماء ومواقف في هذه الفترة قد تخالف هذا الذي نصف، ولئن صحت هذه الأمثلة فإنـها تعتبر نادرة وشاذة ولا تخالف هذه القاعدة.

[2] - وها نحن اليوم نرى حلقة في مسلسل هذه المأساة، وهي سيطرة الشيعة على أوقاف أهل السنة في العراق برعاية وحماية المحتل الأمريكي.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply