كي نتجنب طريق الندامة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما تمنينا أن يكون انسحاب سوريا من لبنان استجابة لضغوط أمريكية وأوروبية، لأن مختلف الشواهد تدل على أن الانصياع لرغبات الدول الكبرى هو الخطوة الأولي على طريق الندامة، وأن الذين يبدأون بالانحناء ينتهي بهم الحال إلى الانبطاح، إن لم يكن الانتحار.

 

ليس دفاعا عن الوجود السوري

ليس عندي أي دفاع عن الوجود السوري في لبنان، ولا أجد تبريرا يسوغ الممارسات السورية هناك، التي أقر الرئيس بشار الأسد بأنها وقعت في أخطاء أساءت إلى لبنان وسوريا معا، وهي الأخطاء التي استخدمت ضد دمشق في نهاية المطاف، إذ بها جرى ابتزازها ولي ذراعها، الأمر الذي عرضها لما تمنينا ألا نتعرض له. فتجرأ عليها الجميع، واستقوى عليها كل من هب ودب.

 

أجد الإجابة صعبة عن السؤال: هل كان يمكن للسوريين أن يخرجوا بغير هذه الطريقة؟ والصعوبة ليست في عدم العثور على الإجابة، ولكنها تكمن في أن الإجابة موجودة، ولكنها بعيدة المنال ومتعذرة التنفيذ، ذلك أنني أزعم أن النظام العربي لو توفر له حد أدني من العافية والصدقية في تمثيل الأمة العربية وإدارة خلافاتها، لما وقعت أمور كثيرة: من غزو العراق للكويت إلى غزو الأمريكيين للعراق، إلى الدعوة إلى تأديب وتهذيب وإصلاح الأمة العربية بأسرها، من خلال ما يسمي بالشرق الأوسط الكبير، إلى طرد سوريا من لبنان.. إلخ.

بسبب انهيار النظام العربي فإن وفود المعارضة اللبنانية لم تخاطب أحدا من العرب حين استحكمت الأزمة، ولكنها توجهت إلى موسكو وبروكسل وفرنسا وألمانيا، لم تجد تلك الوفود كبيرا في العائلة العربية تحتكم إليه، ولم تجد إطارا مؤسسيا عربيا تلجأ إليه.

وهي ذاتها الخلفية التي شجعت قوي الهيمنة على الاستفراد بسوريا، وراحت تملي عليها شروطها وتتفنن في إذلالها.

أيدني الدكتور أحمد يوسف أستاذ العلوم السياسية ومدير معهد الدراسات العربية فيما ذهبت إليه، واسترسل مذكرا بأن النظام العربي هو من وضع أساس حل المشكلة اللبنانية من خلال اتفاق الطائف، الذي أصبح مرجعية وافق عليها الجميع. وقال: إن اتفاق الطائف كان عنوانا لعافية النظام العربي، في حين أن قرار1559 الذي مررته الولايات المتحدة بالتواطؤ مع فرنسا في مجلس الأمن، أصبح أحد عناوين مرحلة انهيار ذلك النظامº إذ في الطائف كانت الأمة حاضرة، وفي قرار1559 كان السيناريو الأمريكي هو المفروض على الأمة.

لئن كان الانسحاب من لبنان هدفا رحب به البعض ودعت إليه المعارضة اللبنانية، إلا أن ذلك لا يشبع رغبة واضعي السيناريوº إذ الانسحاب هو بداية الانصياع الذي يراد له أن يشمل أشياء أخري بعضها نص عليها قرار مجلس الأمن(نزع سلاح حزب الله) وبعضها وارد في الأجندة ضمنا، والبعض الآخر لا يزال في علم الغيب. فهي مطالبة الآن بالمساهمة في تثبيت الهيمنة الأمريكية على العراق، وتأييد التسوية السياسية الجائرة للقضية الفلسطينية، وإغلاق مقار المقاومة الفلسطينية(حماس والجهاد أساسا) وطرد قادتها من دمشق، وقطع علاقاتها مع حزب الله في لبنان، وفك الارتباط مع إيران. وإذ قطعت دمشق شوطا في الاستجابة لبعض تلك الطلبات، إلا أن هناك أمورا أخري مدرجة على القائمة، تتعلق بالأوضاع الداخلية السورية، كان منها على سبيل المثال إلغاء التدريب العسكري في المدارس، وتغيير الزي العسكري للطلاب.

إن السؤال الكبير الذي يلح على المرء حين يتابع تلك المؤشرات هو: ما الذي يبقي من سوريا إن هي استمرت في الامتثال، واستجابت لما يطلب منها؟ !

 

استباحة العالم العربي!

لا مجال للمقارنة بين الضغوط الهائلة التي مارستها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ــ بما في ذلك بعض الدول العربية ــ على دمشق للامتثال لما يطلب منها، وبين موقف تلك الدول من انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في عام67. وهي مقارنة تكرس شعور الواحد منا بالمهانة والخزي، من حيث أنها تبين المدى الذي بلغته عملية استباحة العالم العربي والازدراء به، كما أنها تبين في الوقت ذاته أن القرار الدولي إذا كان يطالب أي طرف عربي بشيء، فإن القرار يكتسب حصانة وقدسية. أما إذا كان القرار خاصا بإسرائيل، ويطالبها بأي شيء فإنه يغدو مجرد ورقة لا قيمة لها، وتستطيع إسرائيل أن تتجاهلها، وأن تدوس عليها دون أن يكلفها ذلك شيئا. وذلك موقفها التقليدي إزاء مختلف مؤسسات الشرعية الدولية، بدءا من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام1947، إلى قرار محكمة العدل الدولية في عام2004 ببطلان إقامة الجدار وكل ما أقيم فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في ظل انهيار النظام العربي، وانعطاف الرئيس الفلسطيني (الراحل) ياسر عرفات صوب طريق التسوية والانصياع، طلب من الرجل أن يعلن على الملأ أن المقاومة إرهاب(فيما رددت الأوساط الدبلوماسية أن الخارجية الأمريكية أصرت على تضمين خطابه عبارات محددة وردت نصا)، فوقف أبو عمار في عام1988 وردد ما طلب منه أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف. وأعلن نبذ الكفاح المسلح باعتباره إرهابا، وهو الذي كان قد تمسك أمام المجلس الوطني الفلسطيني في عام63 ــ حين كان للنظام العربي حضوره ــ بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين!.

وقتذاك بدا أبو عمار وقد لبي ما أراده الأمريكيون، (ومن ورائهم الإسرائيليون بطبيعة الحال)، إلا أن أحد الصحفيين الأمريكيين تساءل في تعليق له على المشهد، لماذا لا يحلق الرجل لحيته ويغير هيأته، حتى يبدو مظهره أكثر قبولا لدي العالم المتحضر؟ (!) ــ وهو التعليق الذي حين قرأه الأستاذ أحمد بهاء الدين - رحمه الله -، سمعته يقول بصوت تملؤه الحسرة، إنهم لن يتركوا أبو عمار إلا إذا نزعوا عنه ملابسه قطعة قطعة، وتركوه عاريا في نهاية المطاف!.

 

هنا فهان الهوان علينا!

ما يحدث في السودان يقدم نموذجا آخر، فاضحا وفجا، للنتائج والآثار التي ترتبت على السير على درب الانصياع. إذ لأسباب يطول شرحها فإن حكومة الخرطوم لم تقو على أن تقول لا، في مواجهة الضغوط التي مورست عليها، خصوصا من الولايات المتحدة في صدد التوصل إلى اتفاق لإنهاء ملف الانفصاليين في الجنوب، الذين يقودهم جون قرنق.

وهو الرجل الذي ساندته كل القوي التي لا تكن ودا أو تتمني خيرا للعرب والمسلمين، ولا للسودان بوصفه جزءا من تلك الدائرة ــ ماذا كانت النتيجة؟

في كل مكان ذهب إليه، وفي كل مناسبة تحدث فيها، مابرح جون قرنق يتحدث عن ميلاد سودان جديد منزوع العروبة والإسلام، بل إنه في خطبة الاحتفال بتوقيع اتفاق السلام في نيروبي لم ينس أن يهاجم التسلط العربي الإسلامي طوال مسيرة الحكم الوطني. وقد تحفظت حركته على مشاركة الدول العربية والإسلامية في قوات حفظ السلام بحجة أن بعضها ــ الأردن مثلاــ كانت تعالج معوقي الحرب من الجنود الشماليين، بينما لم تعترض على مشاركة الأوغنديين والكينيين، رغم أن البلدين كانا يعالجان جنود قرنق ويحتضنان حركته طول الوقت.

بل إن قرنق يصر على تغيير اسم العملة السودانية(الدينار) واستبدالها بالجنيه، بدعوي أن كلمة دينار عربية وإسلامية، ومن ثم فهي مسكونة بإشارة لاتناسب السودان الجديد، رغم أن ذلك يكلف خزينة الدولة حوالي80 مليون دولار، وهو مبلغ لا يستهان به في بلد أرهقته الحرب وشاع فيه الفقر. أكثر من ذلك فإن أحد أركان حركة قرنق احتج على شعار الخرطوم عاصمة للثقافة العربية للعام الحالي(2005)، وهو التقليد الذي اتبع بصورة دورية مع دول الجامعة العربية منذ سنوات، إلا أنه بسبب ذلك الاعتراض جري تغيير الشعار بسرعة، ورفعت اللافتات ووزعت ملصقات جديدة في العاصمة، تحدثت عن الخرطوم عاصمة للثقافة، فقط!

وإذ يحدث ذلك من جراء حالة عدم الممانعة من جانب حكومة الخرطوم، واستجابة للضغوط التي يمارسها جون قرنق المستقوي بالدعم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن مجلس الأمن يتجه من الناحية العملية إلى فرض الوصاية على السودان، بحيث تمثل المجلس لجنة تجعل أي تحرك للطائرات السودانية في دارفور ــ مثلا ــ مشروطا بموافقة تلك اللجنة. ليس ذلك فحسب، وإنما بلغت الملهاة ذروتها فيما نشر عن أن معهد ألمانيا يتولي هذه الأيام إعداد مسودة الدستور الانتقالي للسودان(!!).

في وصف المشهد ذكر الكاتب السوداني الطيب مصطفي في مقالة نشرتها له يوم28/2 ثلاث صحف بالخرطوم: لقد هنا فسهل الهوان علينا. فبعد أن وعدنا من قبل أمريكا بالمن والسلوى ، إن نحن وقعنا على الاتفاق مع قرنق بكل ما فيه من تنازلات.. ها هي أمريكا تضيق الخناق علينا أكثر، وتعدل قانون سلام السودان لتجعله أكثر قسوة، وتسخر صنيعتها الأمم المتحدة لتجعل منا أضحوكة بين العالمين، ويصبح مندوب كوفي أنان مفوضا ساميا يحكم السودان، ويصدر التعليمات الوقحة بأصبعه السبابة، دون أن يجد رجلا واحدا يزجره أو يقول له: كفى.. إن الحكومة مطلوب منها أكثر من غيرها الحفاظ على كرامة الإنسان السوداني، التي مرغت في التراب، ولا يمكن ولا يجوز لها أن تمضي في مسيرة التنازلات إلى مالا نهاية.

 

نماذج جديرة بالاهتمام

في المنطقة من حولنا نموذجان للممانعة جديران بالاهتمام هما:

إيران التي تقاوم بصلابة وعناد الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لوقف تخصيب اليورانيوم، الذي من خلاله تستكمل مشروعها الذي تواصل بناءه منذ ربع قرن لاستخدام الطاقة النووية في خدمة مشروعاتها التنموية والصناعية.

(يقول الايرانيون: إن من شأن ذلك إطلاق وإنعاش500 صناعة في بلادهم). وما برحت تلك الضغوط تزداد شراسة، حتى بلغت حد التهديد بإحالة الملف إلى مجلس الأمن، الذي صار ألعوبة بيد واشنطن، لتقرير العقوبات التي يمكن أن توقع على إيران إذا ما أصرت على المضي في مخططاتها. وهو ما يلوح به الآن رغم قبول إيران إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مفاعلاتها وأنشطتها، ورغم أن روسيا تقدم المساعدة إلى طهران في بناء مشروعها النووي، اطمئنانا إلى أهدافه السلمية. وهو ما يحدث بمنتهى الجرأة والبجاحة، في ظل إغفال تام وتجاهل متعمد للمشروع النووي الإسرائيلي، الذي يمثل تهديدا حقيقيا لكل دول منطقة الشرق الأوسط.

أما النموذج الثاني فهو تركيا التي رفضت السماح للقوات الأمريكية بعبور أراضيها في غزو العراق(عام2003)، رغم ما بين البلدين من تحالف وثيق طيلة خمسين عاما، معتبرة أن ذلك التحالف لا يبرر استخدام الأراضي التركية فيما يهدد مصالح البلد مع جيرانه ويؤثر على أمنه القومي. وهو ما تجلى أيضا في رفض أنقرة قبل أسبوعين لمبلغ مليار دولار كانت قد قررتها الإدارة الأمريكية لتعويض تركيا عن خسائرها بسبب احتلال العراق. وكان السبب الرئيس للرفض أن التعويض قدم بصيغة اعتبرتها القيادة التركية ماسة بسيادتها واستقلال قرارها. وحسبما فهمت من المسئولين في أنقرة فإن التعويض كان يدعو حكومة أنقرة إلى التعاون في استقرار الأمور في العراق. وهو أمر وجدت القيادة التركية أنه أمر ينبغي أن يترك لتقديرها.

 

إرادة مستقلة وظهير خارجي

إن الممانعة المرجوة تعتمد على أمرين يكمل أحدهما الآخر، أولهما: توافر الإرادة المستقلة، وثانيهما الظهير الذي يستند إليه النظام الذي يتعرض للضغوط. ولا ظهير أقوى من جماهير تلتف حول النظام ويكتسب منها شرعيته، يعززه ويقوي من عوده محيط أو حليف له بأسه، يشكل قطبا مقابلا، ولو بصورة نسبية. وهو ما توافر لأمتنا يوما ما، حين توافر لهم النظام العربي الذي كان بمقدوره أن يقف على قدميه على الأقل ـ والحليف السوفيتي الذي وازن الكفة في مواجهة القطب الأمريكي.

من أسف أننا في هذه الأيام نواجه مأزقا على المستويين، سواء فيما يخص الإرادة المستقلة أو الظهير الداخلي والخارجي. وفي غيبة هاتين الدعامتين فلن يبقي أمامنا سوي الهرولة على طريق الندامة، مع أن طريق السلامة مفتوح على مصراعيه على الأقل لمن عزم وحاول أن يستقوي بشعبه

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply