التتار في شبه جزيرة القرم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 يرجع تاريخ تواجد التتار في شبه جزيرة القرم إلى أيام العصر الذهبي لدولة المغول التتار واحتلالهم للجزيرة في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي وما تبع ذلك من ظهور كيان مستقل في مطلع العقد الرابع من القرن الخامس عشر لما اصطلح عليه فيما بعد بـ " تتار شبه جزيرة القرم " لمحة تاريخية:  دخل الإسلام شبه جزيرة القرم في أواخر القرن الثالث عشر، وعم انتشاره أرجاءها مع مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وتتار القرم كلهم مسلمون سنة ويتكلمون لغة محلية شديدة التأثر باللغة التركية، وينحدر البعض منهم من أصول تركية جاءت عن طريق القبائل التركية التي استوطنت الجزيرة في عهود مبكرة قبل غزو المغول لها.

وحكمت الجزيرة منذ نشوء الدولة المستقلة فيها سلالة (Girey) (ربما تكون خيري والله أعلم) وازدهرت حضارة دولة التتار هذه واتسعت رقعتها حتى شملت المناطق المتاخمة للسهول المحاذية للبحر الأسود، وبعد وصول الفتوحات العثمانية إلى تخوم المستعمرات الرومانية على ضفاف البحر الأسود بثلاثة أعوام وبالتحديد عام 1478م قبل مسلموا التتار بسيادة الخلافة العثمانية عليهم إلا أن الجزيرة بقيت تتمتع باستقلالية صنع قراراتها المحلية حتى حين.

وفي القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين كان لمسلمي القرم شأن آخر فقد قويت دولتهم وعظم شأنهم وأصبحت لهم القدرة على حشد الآلاف من الفرسان وعدد ضخم من المقاتلين فشكلوا بذلك قوة أقليمية ضاربة يحسب لها حسابها.

لقد أقلق وضع المسلمين الجديد هذا بال جيرانهم لاسيما القياصرة منهم وبدأوا يعدون لهم الكمائن والفخاخ للإيقاع بهم وإجهاض نهضتهم هذه التي أقضت مضاجعهم فلم يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرار وهم يرون هذه الدولة المسلمة الفتية التي باتت تشكل شوكة في أعناقهم وعامل استنهاض مكين لبقية الشعوب الإسلامية المبتلاة بهيمنتهم وهمجيتهم.

وهكذا بدأت أعمال التحرش والاستفزاز تظهر في الأفق شيئًا فشيئًا بين المسلمين وبين إمارة موسكو المتنامية القوة ثم ما لبثت أن تحولت هذه الاستفزازات إلى مواجهة عسكرية شاملة وظهر المسلمون على أعدائهم في بادئ الأمر ونجحوا في الإغارة على موسكو ذاتها عدة مرات ووصلوا إلى أسوارها وحاصروها في عام 1571 م بل وفرضوا الجزية على أمرائها ثم امتدت غاراتهم المستمرة والمنتظمة لتشمل فيما بعد بقاع أخرى إلى الشمال من موسكو، ووصلوا حتى حدود بولندا غربًا.

إلا أن الكفة ومع مطلع النصف الثاني من القرن السابع عشر أخذت ترجح لصالح القياصرة الذين حققوا بعض الانتصارات التي أعادت إليهم شيئًا من الثقة بالنفس فكانت حافزًا لهم للثأر لهزائمهم المتكررة.

وعلى الرغم من هزيمتهم النكراء على يد مسلمي القرم وحلفائهم العثمانيين في عام 1711م إلا أنهم عادوا وغزوا الجزيرة بعد سلسلة طويلة من الحروب دارت بينهم وبين الدولة العثمانية في الفترة ما بين 1735-1739م و1768-1774م والتي اضطر العثمانيون في نهايتها إلى التخلي عن سيادتهم على السواحل الشمالية للبحر الأسود وأعقب ذلك انفصال دولة القرم عن السيادة العثمانية وإعلانها دولة مستقلة.

 وفي حقيقة الأمر فإن القياصرة لم يمنحوا الجزيرة استقلالها البتة بل على العكس من ذلك فقد جعلوا منها ولاية جديدة تدور في فلكهم ونصبوا عليها حكامًا ينفذون لهم رغباتهم التي يملونها عليهم كما يفعلون اليوم في أفغانستان، ولم تكن هذه المرحلة من تاريخ الجزيرة تمثل غاية أطماع القياصرة فيها، بل كانت جسرًا يوصلهم إلى هدفهم الأسمى وهو ابتلاع الجزيرة وضمها بشكل نهائي.

وجاء مطلب ملكة القياصرة (كاترين) في 1783م بضم الجزيرة مجسدًا لمخاوف المسلمين وتوقعاتهم القديمة والتي نشأت منذ تخلي العثمانيين عن الجزيرة، مما حدا بالآلاف منهم إلى ترك مدنهم وقراهم واللجوء إلى حمى الدولة العثمانية.

 وبالفعل فقد حقق القياصرة حلمهم بعد فترة قصيرة واحتلوا الجزيرة وباشروا على الفور في تنفيذ سياساتهم في طمس هوية وتاريخ المنطقة، فشرعوا بإلغاء الأسماء المحلية للمدن والقرى واستبدلوها فيما بعد بأخرى يونانية.

وكترسيخ لهذا المبدأ ومنذ مطلع عام 1784م أخذوا بمصادرة جميع الأراضي ذات الأهمية الاستراتيجية والزراعية من أصحابها الشرعيين وقاموا بتوزيعها فيما بعد على كبار المسؤولين ومن ثم على المستوطنين الجدد الذين استقدموا بأعداد كبيرة من مناطق مختلفة في عام 1790 م، ومن جهة أخرى فلقد كانت أحداث عام 1829م وما تضمنته من اعتراف الدولة العثمانية بسيادة القياصرة على جزيرة القرم بمثابة قاصمة الظهر التي حرمت مسلمي الجزيرة من آخر أمل لهم في استعادة استقلالهم الأمر الذي دفعهم للقيام بهجرات جماعية ضخمة في تلك الفترة تلتها هجرات أخرى أضخم في الفترة ما بين 1860-1870م و1891-1902م ترك فيها مئات من العوائل مدنهم وقراهم في موطنهم الأم واتجهوا إلى حياض الدولة العثمانية.

 ولم يكن المسلمون الذين آثروا البقاء في موطنهم بأوفر حظًا من إخوانهم الذين هاجروا بدينهم، فقد وقعوا ضحية جريمة نكراء نفذها القياصرة الصليبيون في الفترة ما بين 1860-1863م أرغموا فيها على هجر مدنهم وقراهم والرحيل إلى أواسط آسيا وبالتحديد إلى ما يعرف اليوم بجمهورية كازاخستان.

ولا أدل على خبث مرامي ذلك المخطط الإجرامي الذي نفذ في حقهم مما ذكرته إحصائيات عام 1897م من أن عدد المسلمين الذين تبقوا هناك بات لا يشكل سوى نسبة ضئيلة لا تتجاوز ثلث مجموع سكان الجزيرة، وأن غالبيتهم من الفلاحين والأميين، في حين بلغت نسبة المستوطنين الجدد من الروس والأوكرانيين 45 %.

وفي عشية قيام الثورة الشيوعية كانت نسبة 40% من الفلاحين المسلمين مازالت لا تملك أرضًا تزرعها وتقتات منها، هذا بالإضافة إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية.

ما بعد الثورة الشيوعية:  في أعقاب الثورة الشيوعية (17/10/1917) سادت الحرب الأهلية وحالة الفوضى أرجاء روسيا مما تسبب في غياب السلطة المركزية وانكسار الطوق الحديدي الذي كان مفروضًا من قبل القياصرة على شعوب المنطقة التي كانت ترزح تحت نير حكمهم، ورافق تنامي قوة الشيوعيين واستقرار الأمور لصالحهم زيادة المخاوف لدى مسلمي القرم حيال مستقبلهم الذي بات يكتنفه الغموض أكثر من أي وقت مضى بعد سلسلة المجازر الجماعية وحمامات الدم التي ارتكبتها أيادي البلاشفة الحمراء في حق شعوبهم من أجل الوصول إلى دفة الحكم، فكيف بهم وهم المسلمون حملة تهمة الإسلام الخالدة وكفى بها من تهمة.

 وسط هذه المخاوف وحالة الفوضى التي عمت البلاد نجح أهالي القرم في إنشاء حكومة مستقلة لهم في منتصف شهر تشرين الثاني من العام ذاته، إلا أن الوضع الجديد هذا لم يلق استحسانًا لدى الشيوعيين فأرسلوا إليهم إنذارًا شديد اللهجة طالبوا فيه أفراد الجيش بتسليم أنفسهم وإلقاء أسلحتهم خلال فترة أربع وعشرين ساعة من صدور الإنذار.

وما هي إلا ساعات قليلة حتى اكتسحت القوات الشيوعية البرية والبحرية شبه الجزيرة واحتلتها بأكملها وحلت حكومتها المستقلة في 25 / 1 1918م أي بعد ثلاثة أشهر فقط من قيامها، وتعتبر هذه الفترة الوجيزة هي الفترة الوحيدة التي نال خلالها أهالي القرم استقلالهم منذ أن اكتسحت جيوش القياصرة بلادهم في عام 1783م كما سبق.

 وشرع المسلمون بالهرب من الجزيرة، واعتصمت أعداد كبيرة منهم في الجبال خشية المذابح التي عرف الشيوعيون بها.

وبالفعل ففي شهري شباط وآذار من العام نفسه نفذ الشيوعيون مجازر رهيبة في عدد من مدن المسلمين راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، وتكاتف المسلمون بقوة في وجه هذا المد الهمجي الأحمر.

وذكر شهود عيان في شهر أيار من نفس العام أنهم عثروا في مدينة (سمفر بولو) كبرى مدن الجزيرة على قبور جماعية يحوي الواحد منها مالا يقل عن 1500 شخص.

 وفي أعقاب ذلك (6/3/1918م)، وكمحاولة لتهدئة الأوضاع، بادر البلاشفة بالإعلان عن تشكيل ما أسموه بحكومة محلية وحاولوا، ولكن بدون أي جدوى إسناد بعض المناصب الحكومية لشخصيات مسلمة مرموقة، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً على ذلك فبعد مرور عامين فقط على تشكيل تلك الحكومة بدأ الشيوعيون بسحب المناصب الحكومية المهمة من أيدي الأهالي وأسندوها إلى رفاقهم، وهذا ولاشك هو أبسط معاني الحرية لديهم، وما أحداث جمهورية كازخستان المسلمة عنا ببعيدة.

 إلا أن لينين أدرك بعد فترة قصيرة من توليه دفة الحكم أهمية منح الأقليات العرقية شيئًا من المكاسب في هذه المرحلة الفتية من عمر الثورة إذا ما هو قرر الإبقاء على إمبراطورية أجداده، فقرر إعطاء نوع من الحكم الذاتي لبعض المناطق الحساسة كتلك التي يشكل فيها المسلمون نسبة عالية وأطلق بعض الحريات وسمح بتدريس اللغات المحلية كما أنه أفسح بعض المجال أمام الأقليات للمشاركة في صنع القرارات المحلية في الوقت الذي احتفظت فيه الحكومة المركزية في موسكو لنفسها بالهيمنة المطلقة على الوزارات والمؤسسات الرئيسية وتعيين الوزراء وكبار مسؤولي الأقاليم، الأمر الذي لم يلق قبولاً لدى زعماء المسلمين مما دفعهم إلى المطالبة بمنحهم استقلالية حقة تكفل لهم صنع قرارهم السياسي المستقل، إلا أنهم ومع ذلك لم يجنوا من وراء مطالبهم تلك سوى الوعود البراقة التي بقيت حبراً على ورق.

 ولا شك أن لينين لم يكن ليلجأ إلى مثل هذا النوع من التعامل إلا لكسب تلك الأقليات إلى جانبه حينًا من الدهر أو على الأقل ضمان حيادهم، وهذا فن في التعامل مع الشعوب ذكي ما زال عليه كثير من طغاة اليوم، إلا أنه ومع كل أسف لم يزل هناك كثير من الطيبين من الذين لا يستقون من التاريخ عبرًا ومن الماضي دروسًا ممن تنطلي عليهم هذه الأحابيل فتراهم يحسنون الظن بكل وجه جديد يطل عليهم بل وتجدهم وفي طليعة المؤيدين له والمبررين لبعض نواقصه فيكونون بذلك أداته الأولى التي يثبت بها نفسه حتى إذا ما تحقق له ذلك كانوا هم أول ضحاياه.

 ومن جهة أخرى كان للسياسات التي نفذها البلاشفة منذ اليوم الأول لاستيلائهم على السلطة بالغ الأثر على سير الحياة في الجزيرة فعلى سبيل المثال أدت سياسة مصادرة الأراضي الزراعية وتهجير الفلاحين وهيمنة الدولة على مساحات شاسعة من المزارع وصلت إلى 50% من مجموع الأراضي إلى هبوط مستوى الإنتاج الزراعي بشكل رهيب لم يسبق أن عرفت الجزيرة له مثيلاً مما أدى إلى حدوث مجاعة مروعة أودت بحياة عشرات الألوف من السكان، فقد وصل معدل الوفيات في بعض المدن إلى 50% في حين انخفض عدد سكان الجزيرة بمعدل 21% وقد استغل البلاشفة أحداث المجاعة أبشع استغلال كوسيلة لتركيع شعب الجزيرة لهم، وقد ظهر ذلك في أوضح صورة عند منعهم لوصول إمدادات الحبوب التي بعثت بها تركيا إلى المتضررين حيث تم تحويلها إلى مناطق أخرى، وسادت الفوضى أنحاء الجزيرة وكثرت حوادث السرقة وباتت أكثر من أن تحصى لاسيما من قبل جنود الجيش الأحمر الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا كما يشاؤون.

وأدى غياب العقاقير الطبية وتردي الأحوال الصحية إلى تفشي الأمراض التي فتكت بالإنسان كما فتكت بالحيوان.

 ونشرت جريدة (أزفستيا) الروسية الصادرة في 15/7/1922 تقريرًا للرفيق كالينين جاء فيه أن عدد متضرري المجاعة في شهر شباط بلغ (302.000) مات منهم (14.413) وفي شهر آذار ارتفع عددهم ليصل إلى (379.000) مات منهم (19. 902) وفي شهر نيسان (377.000) مات منهم (12.754) كما ذكر التقرير أن أكل لحوم البشر لم يكن أمرًا غير مألوف.

 وبعد مرور ما يقرب من أربعة أعوام على هلاك لينين ومجيء ستالين إلى السلطة (كانون ثاني1928) دخلت الجزيرة طورًا جديدًا من أطوار حياتها السياسية الحافلة بالمآسي، ففي تلك السنة أقدم ستالين على حملات تطهير وإبادة جماعية شعواء ردت إلى الأذهان المذابح التي اقترفها المغول اّبان غزوهم لعاصمة الخلافة العباسية بغداد، ولم تقتصر تلك الحملات على شبه جزيرة القرم فقط بل امتدت لتشمل سائر الجمهوريات المسلمة الرازحة تحت نير حكمه البغيض.

ونفذت أحكام الإعدام بأعداد كبيرة من رجال الدين وأغلقت المساجد والمدارس الدينية وحوّل كثير منها إلى نواد رياضية واصطبلات، كما شرعوا بهدم المساجد فلم يبق من (1558) مسجدًا إلا قليل يعد على الأصابع، وكمحاولة يائسة منهم لفصل المسلمين عن دينهم وتاريخهم العريق قاموا باستبدال الحروف العربية باللاتينية وتزامنت هذه الحملة الخبيثة مع حملة أتاتورك المشابهة في تركيا.

 كما أرغم ما بين 30 - 40 ألف من فلاحي القرم على ترك مزارعهم والرحيل إلى مناطق الأورال وسيبيريا الأمر الذي أدى فيما بعد إلى وقوع مجاعة أخرى في عام 1931 كنتيجة لنقص المحاصيل الزراعية راح ضحيتها أعداد ضخمة من السكان في الوقت الذي كانت تقوم فيه الحكومة الشيوعية بجمع وتصدير ما تنتجه الجزيرة من محاصيل من أجل الحصول على العملة الأجنبية وذلك لدفع عجلة الثورة الصناعية في البلاد على حد زعمهم.

عملية التهجير ورحلة الهلاك:  في أواخر العقد الثالث من هذا القرن ازدادت حدة التوترات بين روسيا الشيوعية وألمانيا الهتلرية التي باتت جيوشها المكتسحة على أبواب روسيا، وظهر شبح الحرب في الأفق وبدأت الشكوك والمخاوف تساور ستالين حيال ولاء بعض الأقليات العرقية القابعة تحت حكمه لاسيما تلك التي تتمركز في الأقاليم الغربية مما يعرف اليوم بالاتحاد السوفييتي كشبه جزيرة القرم وشمال القوقاز والتي تمثل بحكم موقعها الاستراتيجي الخط الدفاعي الأول في وجه الجيوش الألمانية المتقدمة.

 ومنذ ذلك الحين وستالين يهم بالتخلص من سكان هذه الأقاليم الحساسة وذلك بنفيهم إلى الأقاليم الداخلية من روسيا وأواسط آسيا.

إلا أن التقدم السريع الذي حققه الألمان على جبهات القتال باتجاه روسيا حال دون تنفيذ ذلك المخطط.

ومع اكتساح الألمان لشبه جزيرة القرم في أواخر السنة الثانية للحرب (تشرين الثاني 1941) انخرط عدة مئات من الآلاف من أهالي الجزيرة - بما فيهم الروس - في صفوف الجيوش الغازية وقاتلت جنبًا إلى جنب ضد الجيش الأحمر، وكان من بين أولئك عدة آلاف من المسلمين التتار.

وما من أدنى شك أن كراهية المسلمين المقيتة للشيوعيين وأملهم في تطهير جزيرتهم منهم كان الحافز الوحيد وراء تواطئهم مع الألمان.

 ومن جهة أخرى فقد قاتلت أعداد كبيرة من مسلمي الجزيرة في صفوف الجيش الأحمر ذودًا - في ظنهم - عن حياض الوطن، وأملاً في أن يلقى ذلك تقديرًا وإجلالاً من الرفاق الحمر.

وتحدثت الصحف الروسية في حينها عن البطولات النادرة التي سطرها المسلمون التتار ضد الجيوش النازية، كما حاز عدد منهم على أوسمة البطولة التي لا تمنح في العادة إلا في الحالات النادرة.

 

 ومع بداية الهجوم الروسي المعاكس في 8 / 4 /1944 وبداية تراجع الألمان ومن ثم إخلائهم لمعظم أرجاء الجزيرة شرع الشيوعيون وعلى الفور بتنفيذ عقوبات الإعدام بحق كل من اشتبه به التعاون مع الألمان، وتحدثت التقارير في حينها عن المجازر الجماعية التي أقيمت في الطرقات والتي راح ضحيتها ألوف من المسلمين، ولم يشفع لبعضهم قتالهم في صفوف الجيش الأحمر.

كما شنت الشرطة السوفيتية السرية غارات ليلية مكثفة ومتكررة على منازل المسلمين التتار أجبرتهم فيها وتحت وطأة السلاح على ترك منازلهم ومدنهم استعدادًا لمغادرة المنطقة بأسرها.

 وعومل المسلمون معاملة وضيعة لا تليق ببني الإنسان.

فقد كشفت وثيقة سرية - كشفت فيما بعد- محتوى لرسالة كتبت في عام 1968 من قبل أحد الروس ممن كانت تربطه صداقة ببعض مسلمي الجزيرة جاء فيها: إن بعض العوائل كانت قد أعطيت مهلة خمس عشر دقيقة لأخذ أمتعتها والاستعداد للرحلة الطويلة!! في حين لم يعط آخرون سوى خمس دقائق لمجرد التجمع قبل السفر كما أنهم منعوا من اصطحاب أي من ممتلكاتهم حتى ظن كثير منهم أنهم أخذوا ليقتلوا! !..

 ولنكمل قراءة ما جاء في هذه الرسالة من أمور تشيب لها الولدان، تمضي الرسالة فتقول:  كلا إنهم لم يؤخذوا ليقتلوا، لقد كانت رحلة الموت البطيء في عربات المواشي المكتظة بالناس والشبيهة بخزانات نقل الغاز، استغرقت الرحلة التي أخذت طريقها عبر سهول كازاخستان ذات المناخ الصيفي المحرق من ثلاثة إلى أربعة أسابيع، لم يستثن أحد من رحلة العذاب هذه حتى المرضى والعجزة، أما البقية الباقية من الذين كانوا في جبهات القتال فإنهم عادوا بعد انتهاء الحرب ليجدوا عمليات التهجير بانتظارهم وليلحقوا بأزواجهم وأطفالهم الذين (شحنوا) قبلهم.

 لقد حصد الموت العجزة والضعاف، حتى الفتية لم تحتمل أجسامهم ذلك العناء لقد حصدهم الجوع والاختناق والنتانة، ومع طول أمد الرحلة أخذت الجثث بالتفسخ وسط تلك العربات المختنقة بالزحام، ولم يسمح للمهاجرين بدفن موتاهم أثناء الوقفات القصيرة التي كان يتوقفها القطار للتزود بالماء والطعام، بل كان عليهم تركها بجانب السكة ".

 يا لها من مبادئ سامية نبيلة تلك التي أتتنا بها الشيوعية، ويا لها من دعاوٍ,ٍ, وشعارات صادقة تلك التي يعد بها المناضلون الشيوعيون شعوبهم وأتباعهم، إن نتانة خلقهم الذي جبلوا عليه لتفوح والله من بين أسطر هذه الرسالة المقتضبة التي لم تكشف لنا سوى عن نقطة صغيرة وسط محيط متلاطم الأمواج.

 لقد تمخضت عملية التهجير تلك عن شحن ما يربو على (250) ألف من مسلمي القرم إلى مناطق الأورال، سيبريا، كازاخستان، وبقية جمهوريات أواسط آسيا التي تبعد آلاف الأميال عن مواطن سكناهم .

 وفي كازخستان لم تكتف السلطات الشيوعية المحلية بما لقيه المسلمون من عناء وضنك في رحلتهم تلك بل زادت على ذلك بأن ألّبت السكان المحليين ضدهم حيث استقبلوهم بشتى صنوف الإهانات التي تراوحت بين نعتهم بنعوت تمس كرامتهم، ورشقهم في بعض الأحيان بالحجارة، وتفشت في صفوف المهجرين الأمراض المختلفة كالملاريا والمغص الكلوي كنتيجة لتلوث مياه البرك التي كانت تمثل مصدر المياه الوحيد لهم، وبسبب رداءة الأغذية وشحتها، ولم يطرأ أي تحسن على ظروفهم الصحية إلا بعد دخول عام 1945 م حينما تمكنوا من حصد محاصيلهم التي زرعوها بأنفسهم.

كما عانى المسلمون هناك كثيرًا من صرامة القيود التي فرضت على تنقلاتهم في مناطق سكناهم الجديدة فلم يعد أحدهم قادرًا على تجاوز حدود مدينته أو قريته.

وسنت لمخالفي هذه القوانين عقوبات صارمة وصلت في بعض الأحيان إلى السجن مدة 25 سنة مع الأشغال الشاقة في معسكرات العمل وأدت حالة الفقر المدقع التي عايشها المسلمون التتار إلى حرمان أبنائهم من حق الدراسة في المعاهد العليا.

وضعهم الحالي:  استمرت الظروف القاسية التي ألمت بالمسلمين من أهالي القرم منذ اليوم الذي شردوا فيه من ديارهم، حقبة من الزمن امتدت إلى ما بعد هلاك ستالين في عام 1953م، إلا أن هلاك هذا الأخير فتح الباب أمام خليفته خروشوف للتحدث عن جرائمه.

ففي حديثه المشهور - الذي لم ينشر في حينه - أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي عقد في شهر شباط من عام 1956 م تطرق خروشوف إلى جرائم تهجير الشعوب التي أعدها ونفذها سلفه ستالين، وكان مما ذكره في حديثه أن تهمة تواطؤ التتار مع الألمان كانت تهمة خاطئة! ! ومع أنه هناك من يقول بأن خروشوف أعاد للتتار كثيرًا من حقوقهم التي سلبهم إياها سلفه كرفع القيود التي كانت مفروضة مثلاً على تنقلاتهم بناء على قرار نشر في28/4/1956م إلا أن هذا القرار وغيره من القرارات الأخرى لم يرد لمسلمي القرم حقهم الشرعي في استرداد أملاكهم التي أخذت منهم عنوة كما أنه لم يعد لهم حقهم المشروع في العودة والاستيطان في موطنهم الأم على الرغم من تبرئتهم من تهمة " خيانة الوطن " في أيلول 1967م، في الوقت الذي نالت فيه الأقليات الأخرى موافقة السلطة بالرجوع إلى مواطنها الأصلية منذ عام 1957 م والتي كانت قد هجرت منها تحت نفس الذريعة.

 ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ومسلمو القرم ما فتئوا يسعون للحصول على موافقة السلطات للعودة إلى جزيرتهم، فتارة عن طريق تقديم طلباتهم للمحافل السياسية للحزب، وتارة أخرى بالمظاهرات والمسيرات التي نادرًا ما تحدث في العاصمة موسكو كما حصل منذ فترة قصيرة من الآن عندما تجمع ما يقرب من 300 منهم في ما يسمى بالميدان الأحمر واعتصموا لمدة 27 ساعة مطالبين بتنفيذ رغباتهم قبل أن تفرقهم قوات الشرطة.

كما قامت الشرطة قبل أيام قلائل بتفريق حشد آخر منهم أربى على 5000 احتشدوا في مدينة إلى الجنوب قليلاً من مدينة طشقند عاصمة جمهورية أوزبكستان وكرروا مطالبهم.

 ولم يطرأ أي تغير ملموس على مواقف السلطة الشيوعية تجاه تلك المطالب، فعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية قابلت تلك السلطات مطالب المسلمين بأساليب مختلفة فتارة باتهامهم بإثارة النزعات العرقية، وأخرى برفع شعارات معادية للدولة السوفيتية، وثالثة بطرد رموزهم من وظائفهم أو معاهدهم الدراسية وكثيرًا ما أصدرت في حقهم أحكامًا بالسجن في معسكرات العمل لمدة تتراوح ما بين 5 - 7 أعوام.

 كما اتخذت السلطات الشيوعية إجراءات صارمة لضمان عدم عودة المسلمين إلى جزيرتهم في الفترة التي أعقبت صدور قرار بتبرئتهم فعمدت إلى طردهم من الجزيرة حال اكتشاف أمرهم ثم قامت بتحذير المستوطنين الجدد من مغبة بيع أو تأجير بيوتهم لهم وهددتهم بعقوبات صارمة واعتبرت كل عقود البيع أو التأجير تلك لاغية كما فرضت غرامات مالية على أطرافها.

 وكنتيجة لهذه الإجراءات فإنه لم يتبق من مجموع 6000 شخص من المسلمين ممن وصلوا إلى الجزيرة في نهاية عام 1967م سوى ثلاثة رجال وعائلتين! أما أولئك الذين نجحوا في الحصول على فرص عمل هناك فإن عمليات الفصل والطرد كانت بانتظارهم حال التعرف على أصولهم العرقية، كما قامت الشرطة السرية بغارات دورية على الأماكن التي يشتبه فيها وجود مواطنين مسلمين.

 وفي النصف الأول من عام 1972م وسعت السلطات نطاق هذه الإجراءات لتشمل المناطق المحيطة بالجزيرة وذلك لمنع تمركز العوائل المنفية حولها، وصحيح أن عدة مئات من عوائل المسلمين أتت إلى الجزيرة من خلال مشاريع عمل إلا أن هؤلاء اقتصروا على كونهم عوائل فلاحية أمية اشترطت مسبقًا بقاؤهم وبشكل دائم في المزارع والحقول التي أتوا من أجل العمل فيها وعلى هيئة تجمعات لا تزيد في حال على عائلتين وفي حالات خاصة على خمس عوائل هذا بالإضافة إلى حرمان أولادهم من حق الدراسة في المعاهد المتقدمة.

 ولم تكن مشكلة ارتفاع عدد السكان في الجزيرة أو وفرة الأيدي العاملة وندرة فرص العمل هي الباعث على فرض تلك القيود الصارمة، بل العكس هو الصحيح فإن الحكومة الروسية ما فتئت تحضر العمال الروس والأوكرانيين للذهاب إلى الجزيرة والعمل فيها في محاولة منها لسد الثغرة الناجمة عن قلة اليد العاملة.

 وفي شهر نيسان من عام 1970م كانت هناك خطة لنقل ما يقرب من نصف مليون من المستوطنين من غير التتار إلى القرم في محاولة للتغلب على تلك المشكلة في الوقت الذي كانت تعاني فيه جمهوريات آسيا الوسطى حيث قطن التتار-من زيادة كبيرة في عدد العمال والتي أدت مؤخرًا إلى بدء ظهور حالة البطالة.

وباختصار شديد، لقد حرم مسلمو القرم من أبسط حقوق الإنسان التي يتبجح بها الرفاق الشيوعيون عند الحديث عن حريات الشعوب، لقد سلبوا حتى من تلك الحريات البسيطة التي يتمتع بها غيرهم من الأقليات في الاتحاد السوفييتي الذي كان الأولى أن يسمى الاحتلال السوفييتي فهو في حقيقته احتلال وقهر وهو أبعد ما يكون عن أدنى مبادئ الاتحاد وإن هو إلا دولة كبيرة (روسيا) جثمت على صدور دول صغيرة غُلبت على أمرها على حين غفلة منها [*].

 وبعد:  فمعاملة الروس البلاشفة للمسلمين التتار، والتي عرضناها في الصفحات السابقةº ليست إلا نموذجًا مما دأب عليه هؤلاء الشيوعيون، ومن قبلهم آباؤهم وأجدادهم الروس القياصرة الصليبيون للشعوب المسلمة التي وقعت تحت سيطرتهم.

 والدارس لمعاملة هؤلاء للشعوب المسلمة في أواسط آسيا يستنتج أنهم لا يقلون عداوة للمسلمين عن أضرابهم من الصليبيين الأوربيين، وكذلك فإن هؤلاء الشيوعيين الذين ورثوا ظلم وطغيان القياصرة لا يختلفون عن هؤلاء إلا بتفننهم في حرب الإسلام والمسلمين، وابتكاراتهم الدموية، وتقدمهم في مجال الدعاية من أجل القضاء على كل ما يمت بصلة إلى الفهم الصحيح لهذا الدين من قبل معتنقيه وأهله.

 إنهم يكررون كثيًرا كلمات من مثل: (الحرية، السلام، التقدم، العدالة الاجتماعية، تكافؤ الفرص، الشعوب المحبة للسلام، الديموقراطية، محاربة الاستعمار...

إلخ) وهم أول من ينتهك هذه المصطلحات، بل إن هذه المصطلحات نفسها ينبغي ألا تفهم - عندما يتلفظون بها وتدنسها أفواههم - إلا بعكس ما ترمي إليه حتى يستقيم فهمها مع المقاصد التي تقوم عليها دعايتهم وهى الكذب، وتزوير الحقائق، وظلم الشعوب وانتهاك حرماتها.

 إن الشيوعيين - من أجل الوصول إلى أهدافهم - يستحلون كل محرم، ويرتكبون كل نقيصة، ولا يتورعون عن ارتكاب كل مخزية، وهم - كنظرائهم الأوربيين - أبناء موروث ثقافي واحد تقريبًا، من مبادئهم المقدسة أن الغاية تبرر الوسيلة، والذي يشك في أن الروس والأوربيين جميعًا أبناء ثقافة واحدة تستقي مثلها من مبادئ اليونان والرومان الوثنيين، بالإضافة إلى المسيحية المحرفةº ما عليه إلا أن يقارن حرص الدول الأوربية على قتل مقومات الشخصية الإسلامية حيثما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كالحرص على نشر الثقافة الأوربية وقيمها، وكراهية اللغة العربية، ومحاولة قتل حب المسلمين بل العرب لها، ومحاربة المصطلحات القرآنية والإسلامية ما أمكنهم ذلكº نقول: يقارن ذلك بحرص دول أوربا الشرقية الشيوعية التي تضم بين شعوبها أعدادًا كبيرة من المسلمين، بفتنة هؤلاء المسلمين عن دينهم، واستخدام كافة الأساليب لطمس هويتهم، وقطع روابطهم الإسلامية بدأ من تحطيم بنيتهم، وتهديم مساجدهم ومعاهدهم، وملاحقة من يرفض الانصياع منهم - ولو سرًا - إلى ما تمليه رغبات هذه الأنظمة، بل وصل الأمر إلى تدخلهم بأخص خصائصهم وهى أسماؤهم التي لا يسمحون لهم بأن يشم منها أنهم مسلمون، وبلغاريا مثل معروف لهذا الذي نقول.

 وإذا كان من عبرة لنا من عرضنا لهذا الطرف من الظلم للمسلمين، ومن الحرب الضروس التي يشنها عليهم أعداؤهم، فهذه العبرة أن الظلم والكيد لم يستطع اقتلاع هذه العقيدة من صدور أصحابها، ومع أنه كانت له آثاره الهدامة في حياة هذه الشعوب الإسلاميةº إلا أن ذلك ينبغي أن يدفع المسلمين في كل مكان إلى الوعي والعمل على فضح أساليب الشيوعية وأساليب جميع الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.

 إن المبادئ - الشرقية والغربية - والتي عاشت ولازالت تعيش من عدائها للإسلام، قد ثبت فشلها، وقدمت حوادث التاريخ وعبره تراجعها سواء على الأرض، أو في نفوس أصحابها، وهذه بشارة لنا - نحن المسلمين - وحافز لنا، فهل نكون على مستوى المسؤولية؟.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply