هِمم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جلستُ في مكاني المعتاد أُقلب طرفي يمنةً ويسرة أتأمل وجوه الغادين والرائحين، والجالسين الواقفين.. فهذه منهمكة في قراءة كتاب لم أتبين اسمه، والأخرى قد انشغلت بالاستماع إلى حديث رفيقتها.. وتلك أراها تبحث عن شي ما لعله حقيبتها.. وتلك.. وتلك.. عند ذلك ساورني شعور غريب، تمنيت لو أستطيع أن أعرف ماذا يدور في خلد كل واحدة منهن؟ أو بمعنى أصح.. ما الذي تفكر فيه وتصبوا إليه في هذه الحياة؟ وما هو الأمر الذي تجعله في أعلى سلم الاهتمامات؟ قطع ذلك كله صوت رفيقتي التي بادرتني بالسلام وجلست إلى جانبي، إلا أنها لم تكن منشرحة الصدر كعادتها.. مما أثار فضولي ودفعني للسؤال:

 

ـ ما بك؟ž مالي أراك مغمومة مهمومة؟!

 

ـ لقد تلقيت بالأمس خبراً أقض مضجعي وأسال ادمعي..

 

ـ خيراً إن شاء الله! أرجو أن لا يكون أحداً من أهلك قد أصيب بمكروه.

 

رمقتني بنظرة حزينة.. وتابعت حديثها قائلة: أسرة بكاملها أغلق دارها.. خلت جنبات البيت من أهله.. بقيت لهم فيه الذكريات.. مجرد ذكريات تثير أشجان كل من يمر ببابهم أو يسمع بقصتهم..

 

ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.. من المؤكد أنه حادث مروري، قاتل الله السرعة والتهور.. جبر الله مصيبتك وعظم أجرك..

 

ـ ليته كذلك لكان الأمر هيّن.. ولكنه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان..

 

ـ ماذا تريدين أن تقوليº أتقصدين أنهم قتلوا.. لماذا لم يقام الحد على قاتلهم؟! أين أهلهم؟ أين أقاربهم؟ أين من يهمه أمرهم؟ هذا أمر لا يسكت عنه! من المؤكد أن الجاني مجهول الهوية!!

 

ـ لا بل يعرفونه تمام المعرفة.

 

ـ أيترك المجرم هكذا طليق اليدين يعيث في الأرض فساداً؟! هذا ظلم..

 

ـ هذا ما حصل بالفعل، بل ويحصل كل يوم على مرأى من العالم ومسمع.. أعرفتِ من أقصد؟! إنها أسرة مسلمة في فلسطين، شُرد أفرادها.. وقتّلوا بوحشية.. ولها مثيلات.. ومثيلات.. وما خبر مقتل الطفل الفلسطيني عنا ببعيد، إن من المؤلم حقا ما نراه يُرتكب في حق إخواننا المسلمين ابتداء بالشيشان ومرورا بكشمير وانتهاء بالعراق وقبل ذلك وبعده فلسطين.. إن العالم الإسلامي مثخن بالجراح.. كلما التئم جرح انبجس جرح آخر.. دماء تنزف.. أرواح تزهق.. أعراض تنتهك.. طفولة تغتال.. ألم تنظري إلى صورهم؟! إنها والله تكاد تنطق بحالهم.. ألم تتأملي نظرات الخوف في أعينهم؟! أشعر أنها تناديني.. ألمس فيها العتاب والرجاء.. تمنيت أن أختصر هذه الحدود الجغرافية كي أحتضنهم وأكفكف دمعاتهم.. ولكن هيهات.. إن في النفس جرح عميق وألم دفين.. فهل بعد ذلك كله تعتقدين أن يغمض لي جفن أو أن يجد النوم إلى عينيّ سبيلاً.. بل كيف أهنأ بطعام أو شراب.. وأنا أعلم أن لي إخواناً يرتمون في العراء.. يفترشون الأرض ويلتحفون السماء..

 

عند ذلك سالت من عينيها دمعات لامست شغاف قلبي، فقلت لها محاولة تهدئتها وتخفيف حزنها: هدئي من روعك فما باليد حيلة.

 

ـ الأمر بالنسبة لي ليس كما تظنين.. فلو عذرتني أنتِ من سيعذرني منهم؟ بل ما هو عذري إذا وقفت بين يدي ربي وسألني: ماذا قدمت لنصرتهم؟

 

ـ أقصد ما لذي ستفعلينه فنحن مجرد أفراد.. لن نستطيع وحدنا تغيير مجرى الأحداث؟..

 

ـ ما هذا التخاذل وهذه الانهزامية.. بل نستطيع.. إن هناك سلاحاً عظيماً أنجى الله به أقواماً وأهلك آخرين..

 

ـ حقاً.. أترانا نملكه؟! أين يوجد؟! هل يكلفنا الكثير؟!

 

ـ يملكه كل إنسان ولكن الكثير منّا مضيعٌ له غافلٌ عنه.. سهام الليل يا أخية، فالله الله في الدعاءº فمن أُلهم الدعاء أُلهم الإجابة.. والدعاء إذا اقترن بالإخلاص، والإلحاح، والتضرع، أجيب بإذن الله.. ألم تعلمي أن الله حيي كريم يستحي أن يردّ عبده صفر اليدين؟ فهلا جعلنا لإخواننا نصيباً من هذا الدعاء! ثم قررتُ أن أقتطع من مصروفي الخاص مبلغاً معيناً أواسيهم به.. بل هو حق لهم عندي ودين في رقبتي.. ثم عقدتُ العزم على أن أكون سفيرة لهم في كل مكان.. أُذكّر الناس بمآسيهم.. أروي أخبارهم.. أحث الناس على مساعدتهم ومد يد العون لهم، أدافع عن حقوقهم حتى ولو بمجرد الكلام خصوصاً عند أولئك اللاهين العابثين الذين لا همّ لهم سوى ما يأكلون.. وماذا يشربون.. وكيف يلبسون.. وأين يسافرون..

 

بعد هذا الحوار الذي أثار في النفس شجوناً وألهب في القلب حماساً.. حمدت الله - تعالى - أن أقرّ عيني وأسعدني برؤية فتاة ليست ككل الفتيات.. لها عقل ليس كبقية العقول.. ولها همة ليست كبقية الهمم.. لم تشغلها اهتمامات بنات جنسها.. لم يسلب لبها بريق الموضة.. لم يخالط شغاف قلبها سوى حب الله ورسوله.. فارتقى بها إيمانها إلى أعلى المراتب.. وأجلّ المنازل.. إنه الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply