حارب الغرب في نهاية القرون الوسطى قدسية الإنجيل ليصبح كتاباً ذا قيمة تاريخية نسبية، أو مجرد كتاب ديني لدى البعض، وهذا هو الهدف من إهانة القرآن اليوم، وتسريب الخبر من سجونهم إلى المسلمين ليستوعبوا الدرس، بعد فشل الكمالية في فرض التدين باللغة التركية اللاتينية، وتضعيف مركز البابا كان حسب خطة مدروسة، ففي البداية مزاحمة مركزه, ثم توجيه نقد ديني إليه، ثم إخراج الإنجيل من بين يديه بالمذهب البروتستانتي.
وللقضية أبعاد لا بد من فهمها بدقة فنحن، والغرب مقبلون على صراع الوجود الذي فرضوه، لذا كان لزاماً أولاً فهم الغرب الفكري كما هو في الواقع لا كما هو في سبق أفكارنا، ثم التعرف الواعي على كيفية احتوائهم لكل فكر وافد إليهم، ثم التخندق السليم تجاههم.
* استيعاب الصراع من خلال فهم صفات المقابل:
1ـ فهم رؤيتهم الفلسفية للوجود: الشخصية الغربية - الحاكمة والمحكومة - مبنية على أسس ثابتة، فكل ما يعين على صياغة الشخصية الغربية نابع من هذه الأسس، منها ما هو من موروثات الفلسفة اليونانية والإغريقية القديمة - أي ما قبل انتقال النصرانية إليهم -، التي رسخت في الشخصية الغربية روح الأنانية والفردانية والنفعية، إضافة إلى روح التسلط وقساوة القلب في الحروب، ومن الأسس الحديثة اقتناعهم بالنظريات الحديثة، فأخذوا من الداروينية شرعية القوة، ومن الفرويدية الإباحية، ومن الماركسية الدافع الاقتصادي، ومن سبنسر ودوركايم الحرية الفردية ومسؤولية الدولة، ولذلك فهم ينظرون بقدسية إلى ما هم عليه اليوم كما كان الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ينظرون إلى الإسلام.
2ـ أسلوبهم في احتواء النصرانية الشرقية وتشكيلها ثانية: لما انتقلت إليهم النصرانية من الشرق بعد قرون الرد والتبديل احتووها، فجعلوها أولاً خارج السلطة! ثم ألبسوا انحرافاتهم مسوحها الديني، فسيروا الدين النصراني الجديد مسار أهوائهم، إلى أن أوصلوها إلى أن تُنكح كنائسها الرجال من الرجال، والنساء من النساء! بعدما جعلوا من قصة مختلقة لسيدنا لوط مجال انحراف أسري، ومن قصة شمشمون المختلقة شرعية الظلم والجور والعدوان، ومن قصة مبارزة سيدنا يعقوب شرعية المغالبة.. وهكذا.
إن فهمنا ذلك يسهل علينا فهم حكم خمس سنوات سجناً قبل أعوام لرجل سويدي زنى أكثر من خمسمائة مرة ببناته الثلاث! وفهم ما فعله شوارزكوف بالعراق عند تحرير الكويت ( ألقوا 55 مليون كلغم من المتفجرات على العراق) هو من جنس ما فعله شمشمون بكروم الخصوم، ولئن كان يعقوب يبارز الله - عز وجل - ويسقطه أرضاً وهو ينادي: اتركني فقد طلعت الشمس! إذن لا يوجد من لا يجوز مبارزته لقدسيته!
3ـ أسلوبهم في تهميش النصرانية المادية بعد ضمورها: من المهم جداً أن نفهم (ظهور البروتستانتية في 1517 وقت ظهور الطباعة التي روجت لها الطبقة الارستقراطية، أي ظهور فكر جديد مع آلية نشر سريع، مع رأسمال يؤازر) ونقارنها اليوم بـ(حقوق الإنسان، وظهور الانترنيت التي تروج لهما رأسمالية هالبيرتون المحيطية بجورج بوش) لنفهم أدوات الهدم في صراعنا الفكري الجديد!
عندما ألف مارتن لوثر كتابه في 1517 في نقد الكاثوليكية المقدسة الطاغية على حياة الغربي انتشر خلال 150 يوماً في كل أنحاء ألمانيا، وأعيدت طباعته في 24 سنة 430 مرة، فأنشئ له مجامع اللغة لترجمته تمهيداً لهدم الكنيسة، وخطوة نحو بناء ثلاث عشرة دولة قومية، أُسست فيما بعد - بعد مئة عام من الصراع والمواجهة - على أنقاض الإمبراطورية الكاثوليكية.
4ـ أسلوبهم في هدم المقدسات الثلاث (الإنجيل، مركز بابا، اللغة اللاتينية): حارب الغرب في نهاية القرون الوسطى قدسية الإنجيل ليصبح كتاباً ذا قيمة تاريخية نسبية فقط، أو مجرد كتاب ديني لدى البعض، وهذا هو الهدف من إهانة القرآن اليوم، وتسريب الخبر من سجونهم التي لا يطير فوقها الطيور إلى المسلمين ليستوعبوا الدرس، بعد فشل الكمالية في فرض التدين باللغة التركية اللاتينية، وبعدما فشلت محاولات لويس عوض وأمثاله في كتابة القرآن باللهجة المصرية تمهيداً لجواز كتابتها بكل لهجة دارجة، وتضعيف مركز البابا كان حسب خطة مدروسة، ففي البداية مزاحمة مركزه, ثم توجيه نقد ديني إليه، ثم إخراج الإنجيل من بين يديه بالمذهب البروتستانتي ( مذهب مارتن لوثر) ثم محاربته، ونحن اليوم نعرف مصير مركز البابا، مع العلم أن ردود فعل الانتقاد الموجه إلى البابا كانت في البداية قوية جداً، حيث أصدر فرانسوا الأول عام 1535 مرسوماً يقضي بإعدام كل من يؤلف كتاباً عكس تعليمات البابا، ولكن الزمن جعل من مرسومه حراك المذبوح، وإهانة مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليوم بين المسلمين تدخل في هذا السياق الإستراتيجي البعيد المدى.
أما اللغة اللاتينية فأحدثوا ضدها أولاً مجامع اللغات، يومها كانت الانجليزية 14 لهجة، والفرنسية مثلها، لكنهم تبنوا كل لغة أو لهجة تبعد الشعوب عن اللاتينية المقدسة تمهيداً لإنشاء ثلاث عشرة دولة على أنقاض الإمبراطورية الكاثوليكية، بما أن اللغة العربية لم تكن يوماً لغة لا يجوز التدين إلا بها، فوجدوا أن المركزية الإسلامية لا تتمثل في اللغة العربية بل في منارة الخلافة، فتكالبوا عليها حتى أسقطوها، ليحل الظلام، ويتيه المسلمون في الأرض ثمانين عاماً، ومع ذلك لم يتركوا تضعيف العربية وإلى اليوم، ألا ترون حالها في عراق البعث وسوريا وليبيا؟ فكيف ببلاد الترك والكرد والبربر وغيرهما؟
يقول الفيلسوف والمفكر (بلوخ): إن اللاتينية لم تكن لغة الدراسة الدينية فحسب بل اللغة الوحيدة للدراسة، فاللاتينية كانت بمثابة علامات المرور في زماننا اليوم، لغة عالمية يفهمها دارسوها فقط، فالغربي المعاصر (أجيال القرون الأربعة الأخيرة) متخل عن الدين القديم، ولم يتبن ديناً جديداً بعد (5% فقط من الدانماركيين يؤمنون بالنصرانية، والمسلمون 3% من المجتمع، والنرويج أكثر البلدان محافظة، والنصرانية تدرس في المدارس إجبارياً, ومع ذلك 17% فقط منهم يمارسون الطقوس الدينية، وأغلبهم من العجائز والمسنين).
لكن البديل الفكري والفلسفي لدى الغربي الحاكم والمحكوم أي دينه الجديد هو ما عليه اليوم من حقوق الإنسان والديمقراطية (والتي تتضمن حرية الاعتقاد، حرية التعبير، حرية التجمع، حرية الانتخاب، تكافؤ الفرص في تداول السلطة، الشفافية بين الحاكم والمحكوم، وتوزيع الثروة وغيرها)، ولذلك فهو ينظر من علو حضارته كالعلو الذي يذكره سيد قطب رحمه الله عن ظلال القران، يقول سيد - رحمه الله -: "عشت في ظلال القرآن انظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، والى اهتماماتها الصغيرة الهزيلة ".
فالغربي يقول لنا للمسلمين - مما يعتقده - من علوه الحضاري: عشت في كنف حضارتي العملاقة، وأنظر إليكم تموجون في خرافات وأساطير بابوية، انظر إلى اهتماماتكم الصغيرة الهزيلة! فهم عندما لا يعتذرون لنا مما ارتكبوه من إساءة وإهانة فلأنهم يرون ذلك انهزاماً أمام مفاهيم "بالية"، هم تخلوا عنها منذ قرون فكيف يعودون إليها ويتنازلون لها، بل كيف يتنازلون لدين المسلمين الذين يرونهم يومياً وهم يسترزقون في بلادهم من تنظيف الشوارع، والمرافق الصحية العامة؟
يريد الغرب أن ينزع من ديننا قدسية كتاب وقدسية رسول، أما اللغة فلم تكن رغم أهميتها مقدسة كالقرآن والرسول (السنة)، ويريد الغرب منا أن نسمح لعشرات من أمثال سعيد العشماوي، ونصر أبو زيد، وأمينة ودودº ليعطونا بروتستانتية إسلامية، ويريد الغرب أن لا يكون انتماؤنا الجمعي إلى أمة تسعى لإقامة شرعها في بقعة تأوي إليها تسميها دار الإسلام، فهم لا يريدون أن يفهموا أن انتماء المسلمين هو انتماء إلى دينهم أولاً ثم إلى لغات وأقاليم، لأنهم يريدون منا أن يكون لنا إسلام مغربي لا صلة له بإسلام جزائري، فكيف بإسلام أفغاني أو شيشاني أو عراقي، ومن تلبس بهذا الفهم فهو إرهابي.
والغرب يريد أن لا يكون تديننا جماعياً، فالغرب يعتقد أن التدين شأن فردي وليس عملاً جماعياً، أما الحكم والسياسة فهذا يترك لأصحاب الفيتو، وأصحاب القنبلة الذرية، فهم ماداموا أقوياء إذن هم على الحق، فهم يقررون ما يريدونه للبشرية، وهم يعينون من يريدونه، وهم يرفعون من يديرونه
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد