الشمولية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الشمولية صفة تطلق على نظم الحكم التي تتسم بقدر هائل من المركزية ومن التحكم السلطوي في كل أوجه الحياة في المجتمع، سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية على حد سواء، بحيث تضحى الدولة هي المصدر الوحيد للشرعية، فنظم الحكم الشمولية لا تسمح بوجود مؤسسات تتمتع ولو بقدر من الاستقلال، فقيام هذه المؤسسات أصلاً أو ممارسة المؤسسات القائمة بالفعل لنشاطات ذات طابع اجتماعي أو سياسي مرهون بتصريح من الدولة ويكون تحت رقابتها المشددة، فأهداف ونشاطات وعضوية أي مؤسسة تخضع لرقابة النظام وتحكمه.

 

وكثيراً ما يثار السؤال عما إذا كانت الشمولية تختلف عن نظم الحكم الديكتاتورية التقليدية مثل الاستبداد أو الطغيان أو الأوتوقراطية، والواقع أنه من زاوية المصطلح البحتة فإن كلمة "شمولية" ظهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين لتطلق على وجه التحديد على نظام الحكم الفاشي في إيطاليا ونظام الحكم الاشتراكي القومي في ألمانيا ونظام الحكم الاشتراكي القومي في ألماني ونظام الحكم الستاليني في روسيا، ويرى العديد من المفكرين السياسيين أن الشمولية أكثر ديكتاتورية من أي من نظم الحكم الديكتاتورية التقليدية ذلك أنها كظاهرة خاصة بالقرن العشرين استفادت من التكنولوجيا المتطورة التي تميز بها هذا العصر، فوظفت أساليب الدعاية والاتصال والتنظيم الحديث لتجعل منها وسائل لامتلاك قدرات هائلة على ممارسة تحكم شامل وسيطرة كاملة على حياة وأفكار كل مواطن بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

ورغم هذه الحقيقة التي تجعل الشمولية أحد أشكال الديكتاتورية، فإن نظم الحكم الشمولية تتميز عن نظم الحكم الديكتاتورية التقليدية بمحاولتها ادعاء علاقة وطيدة بينها وبين الديمقراطية، فرغم أن النظم الشمولية ترفض الأخذ بنظام البرلمان الممثل للشعب، إلا أنها جميعاً ودون استثناء تدعي أنه إنما تعبر عن ديمقراطية أكثر رقياً ورسوخاً تتمثل في الحصول على موافقة الشعب مباشرة على تحركات وقرارات صاحب السلطة عن طريق إجراءات مثل الاستفتاء العام وهي إجراءات تعتبرها هذه النظم تعبيراً عن الإرادة العامة للشعب.

والواقع أن النظم الشمولية، على خلاف النظم الديكتاتورية التقليدية، تستطيع بل وتقوم بالفعل باستغلال كل إمكانات ووسائل الاتصال الحديثة لتؤثر في جموع الشعب لتكسبها إلى صفها، وبأخذ الأمور على ظواهرها تصور البعض أن هذه الواجهة الديمقراطية هي تعبير عن نظام ديمقراطي بالفعل حتى أن بعض المحللين ذهب إلى أن الشمولية ما هي إلا إحدى نتائج الممارسة الديمقراطية، ولكن حقيقة كون من يملكون السلطة يحاولون إضفاء قدر من الشرعية على "نظامهم الديكتاتوري" عن طريق اللجوء إلى جموع الشعب والتأثير فيها للحصول على تأييدها لا يعني أن النظام ديمقراطي ولكنه دليل على وجود نظام يطلق عليه المفكرون اسم ديكتاتورية الجماهيري في عصر تسوده ظاهرة الديمقراطية التي تضفي أهمية على جموع الشعب في العملية السياسية، فالواجهة الديمقراطية هامة جداً للنظام الشمولي لأنه نظام يدعي تمتعه برضا جموع الشعب، فالنظام الشمولي يدرك تناقض ادعائه بأنه نظام تتمثل فيه الإرادة العامة للشعب من جانب آخر ذلك لأن اختلاف الأفراد والجماعات الطبيعية لابد أن يعبر عن نفسه في قيام أحزاب وجماعات ذات مصالح مختلفة.

واتساقاً مع الادعاء بالشعبية فإن النظام الشمولي يحاول أن ينتزع من الشعب اعترافاً إرادياً بأنه يحكم باسمه ووسيلته في هذا هو الاستخدام المكثف لأساليب الدعاية الحديثة التي تركز أساساً على الصفات الكاريزماتية للقائد في محاولة لإيجاد نوع من الرابطة المعنوية بينه وبين الشعب وكذلك ادعاء أن اللقاءات الشعبية لهذا القائد مع الجماهير، والتي تزخر بالعبارات الانفعالية هي التعبير الأوضح والأسمى عن الديمقراطية وأن هذا لا يجعل النظام في حاجة إلى أجهزة وسيطة بين الشعب والقائد مثل البرلمانات وغيرها من أساليب الديمقراطية المعروفة.

وتختلف مدارس الفكر فيما بينها بخصوص الإطار التاريخي الواجب الرجوع إليه عند دراسة ظاهرة الشمولية.

فهناك مدرسة تحصر الشمولية كظاهرة على الفترة ما بين 1922 و 1953 أي الفترة منذ صعود موسوليني وحتى وفاة ستالين، وهناك مدرسة ثانية تركز على المظهر الفاشي للشمولية فتقصرها من ثم على الحقبة الفاشية فيما بين الحربين أو توسعها لتسحبها على كل النزاعات الفاشية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وهناك مدرسة ثالثة ترى أن الشمولية هي نزعة موجودة ضمناً في كل الدول الحديثة التي تعمل على إيجاد حلول حاسمة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية عن طريق الاستحواذ التام على السلطة السياسية وكذا عن طريق تبني وفرض أيديولوجية معينة رأسمالية كانت أو اشتراكية، ويعتبر العديد من المحللين هذا التوجه الأخير أكثرها منطقية ذلك أن التوجهين الأول والثاني يجعلان ظاهرة الشمولية أحد مظاهر الماضي المرتبطة بأنظمة معينة ظهرت في فترة محددة هي فترة ما بين الحربين وانتهت بانتهاء هذه الأنظمة، في حين أن المشاهد أن العديد من المكونات الأساسية لظاهرة الشمولية ما زالت قائمة في العديد من الأنظمة الموجودة حالياً، ولكن هذا التوجه أيضاً يجعل من الصعوبة بمكان وضع تعريف جامع مانع للشمولية يضم تحته كل النظم التي عرفت هذه الظاهرة وذلك لاختلاف الظروف التاريخية والأطر الاجتماعية والقومية والتوجهات الأيديولوجية لهذه النظم، ورغم هذا، يمكن القول بقدر كبير من الثقة، أن هناك بعض السمات العامة التي تشترك فيها كل النظم الشمولية.

 

هذه السمات هي:

1- وجود أيديولوجية رسمية واحدة وشاملة تقوم على أساس الرفض التام والجذري للماضي وتبرر تحكم الدولة التام واستخدامها للقوة وتضفي سمات الشرعية والقانونية على أساليب الإرهاب والعنف التي تتبعها الدولة، كل ذلك في مقابل وعود بمستقبل أفضل.

2- حركة شعبية مركزية تدعي المساواة واللاطبقية ولكنها رغم هذا تنتظم جموع الشعب في حزب واحد ولكنه مكون من مستويات عدة في شكل هرمي وتحت قيادة تحكمية ومحتكرة تدعي تطابق رغبات وأهداف القيادة الفردية أو الأوليغاركية مع مصطلح جموع الشعب (أو على الأقل مع مصالح طبقة العمال والفلاحين).

3- سيطرة النظام التامة على وسائل الاتصال وعلى أجهزة القهر والقمع وعلى رأسها جهاز بوليس سري يستخدم في القضاء على المعارضة مع ادعاء ضرورة ذلك بحجة القضاء على الصراعات الداخلية وللوصول إلى نوع من الوحدة السياسية والأيديولوجية للمجتمع تسمح بظهور النظام المثالي الذي تستهدفه الأيديولوجية.

4- ويرى بعض المفكرين وعلى رأسهم هانا آرنت أن خصيصة الإرهاب والقمع تلك تعد وحدها لب الشمولية.

5- التوجيه البيروقراطي، عن طريق التأميم وسيطرة الدولة، للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتي تستهدف خلق "الإنسان الجديد" الذي يستطيع أن يشارك في تحقيق النظام المثالي المرغوب فيه.

6- وتنبع من هذه السمات المشتركة لنظم الحكم الشمولية مظاهر تتعلق بأساليب ممارسة الحكم والسيطرة، فالنظم الشمولية دون استثناء لا تعترف بحق الوجود لأي حزب سياسي منافس، كما أنها أيضاً لا تعترف بالحريات الفردية ذلك أن وجود أنماط ثقافية وحياتية مستقلة في الدولة يعتبر تناقضاً في أيديولوجيتها.

7- فرغم أن النظام الشمولي يدعي أن بنيانه الأيديولوجي يهدف إلى تحقيق نوع من الحرية الجماعية أسمى من حريات الأفراد منفصلين، إلا أنه في سبيل تحقيق هذا الهدف يسحق الحريات الفردية ويقضي على كل الأنشطة التي تقع خارج دائرة النظام الحاكم، وتحقيق هذا لا يتطلب فقط سيطرة فرد واحد أو حزب واحد أو قلة سياسية بل ويتطلب أيضاً أن يحاط أصحاب السلطة بهالة من الصفات تقربهم من العصمة، فهم دائماً على حق، وهم دائماً أقدر على معرفة الطريق الصحيح الواجب سلوكه لتحقيق آمال الشعب، وهم دائماً القادرون على تمثيل الإرادة العامة أفضل تمثيل، ومن ثم، فإن النظم الشمولية عادة ما تَغرِف نوعاً من عبادة الحاكم حيث ينظر إليه على أنه التشخيص الأصيل لخصائص الشعب وآماله، وهذا يقودنا إلى الخصيصة المشتركة الثانية للنظم الشمولية وهي محورية دور القائد الزعيم.

8- يرى بعض المحللين أن وجود القائد الزعيم هو أهم المعالم المميزة للنظام الشمولي بل وأهم بكثير، في نظرهم، من غيره من المعالم بما في ذلك الأيديولوجية ذلك أنه هو القائد الذي يوظف الأيديولوجية وفقاً لإرادته كما فعل هتلر مثلاً الذي تجاهل أحياناً وتخطى أحياناً أخرى الأفكار والمفاهيم الأساسية للاشتراكية القومية، وليس أدل على أهمية دور الزعيم في مثل هذه النظم من إدخال الممارسات التي تكرس عبادة الزعيم على الماركسية رغم تعارض هذا معا تعاليمها الأساسية. والقائد في النظم الشمولية يحتكر كل السلطات حتى مع وجود حزب يحكم ظاهرياً، فكل السلطات تنبع منه وتعتمد على إرادته التي يمارسها بصورة تحكمية بحتة، والزعيم في هذه النظم لا يكون قبل الأيديولوجية وفوق الحزب فقط ولكنه يكون قبل وفوق القانون أيضاً، ولا يعني هذا عدم وجود قانون أو دستور في مثل تلك الأنظمة، ولكنه يعني أن أفعال وتحركات وقرارات القائد التحمكية لا تخضع للقانون الذي يستمر رغم هذا لإعطاء واجهة شرعية وتبرير قانوني لتصرفات الزعيم التعسفية.

9- أما الخصيصة الثالثة للنظم الشمولية فهي عدم اعترافها بوجود حدود تفصل الدولة عن المجتمع أو الدولة عن الفرد، فالشمولية تكرس درجة عالية جداً من التدخل والتحكم في حياة الأفراد الشخصية وتسييس كافة ميادين تلك الحياة الخاصة بحيث يلغى الفرد في سبيل المجموع وبحيث يتم الدمج بين الدولة والمجتمع وبين الحزب والشعب، وتظهر هنا محورية وظيفة الأيديولوجية، فهي التي تبرر التعدي على القوانين والأعراف السائدة باسم تحقيق أهداف تؤكد الأيديولوجية أنها أسمى وأفضل م الوضع القائم الذي يتسم بالأنانيات الفردية لأنها أهداف تأخذ مصلحة الجميع في الاعتبار، حتى ولو كان السبيل إلى تحقيق هذا الوضع الأمثل هو ارتكاب النظام الجرائم ومطالبة الشعب بتضحيات ترقى إلى حد تلاشي الشخصية الفردية، فالأيديولوجية تعمل على ترسيخ الإيمان بضرورة وأهمية هذه الإجراءات في سبل بقاء الدولة.

ورغم هذا الاتفاق حول السمات العامة للنظم الشمولية إلا أن المفهوم ذاته في علاقته بمفاهيم أخرى مثل الديمقراطية والتحديث أثار جدلاً واسعاً بين المفكرين السياسيين، فعلى حين أن البعض مثل وولف ومور وفريدريك يؤكدون أن الشمولية هي نقيض الديمقراطية ويجب، من ثم، اعتبارها أحد أشكال الديكتاتورية، فإن مفكرين آخرين من أمثال تالمون يصرون على أن الشمولية ما هي إلا أحد التطبيقات الجماهيرية هب في ذاتها سمات للشمولية، أما فيما يتعلق بعلاقة الشمولية بالتحديث، ففي حين انتهت أبحاث أبتر واكتشين إلى تأكيد أن الشمولية كنظام حكم لا توجد إلا في المجتمعات الصناعية الحديثة فإن مور يؤكد أن المفاهيم الأساسية للشمولية كنظام حكم تجد جذورها في فترة ما قبل الثورة الصناعية، بل وإن المفاهيم التي تركز عليها الشمولية برزت بالفعل في تلك الفترة السابقة على الثورة الصناعية وفي استقلال تام عنها وعن المفاهيم التي طرحتها. 

والمفكرون السياسيون لا يختلفون حول علاقة الشمولية بالديمقراطية والتحديث وحسب بل إنهم يختلفون حتى في التوصيف السياسي لظاهرة الشمولية، ففي حين أن بعض المحللين يعتبر الشمولية المحك الأساسي في المطارحات السياسية الدائرة بين الليبراليين الذين يؤمنون بالحكومة المقيدة والديمقراطيين الذين يدافعون عن الحكومة التي تحقق الرفاهية، يرى فريق أخر آن الشمولية لا يجب أن تدرس بوصفها محور المناقشات حول نطاق وحدود السلطة في الدولة بل على العكس من ذلك لابد وان تدرس بوصفها أساس المطارحة السياسية بين الديمقراطيين والتسلطيين حول مفهوم الشرعية السياسية والسيادة الشعبية. 

ويخلص بارير من كل هذا الخلاف إلى القول بأن الشمولية في ميدان السياسة لا يجب اعتبارها أحد أشكال نظم الحكم وحسب ولا يجب دراستها كأحد المفاهيم السياسية فقط، بل يجب إدراك أنها تستخدم أولاً وقبل كل شيء استخداماً أيديولوجياً في صراعات القوى الكبر وهو ما برز واضحاً في فترة الحرب الباردة حيث رمت كل من القوتين العظميين الأخرى بالشمولية.

 

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply